اسمه عبد الاله أو هكذا ينادي عليه أهل الدوار،يتيم الأب،انتقل صحبة أمه إلى قرية نائية جوار مدينة القصر الكبير،بعد أن تزوجت من رجل تقادم عهده بالحياة،وهو رب أسرة كبيرة تتألف من الأبناء والحفدة في بيت شاسع الأطراف،ممتد الأبهاء تحف به أشجار التين والزيتون وكروم العنب،وتسرح في أفنيته أنواع شتى من الدواجن. كان هذا الفتى اليتيم في عمر الزهور،بدين الجسم،وسيم الملامح على شفته العليا ندب دقيق هو أثر وقوعه من شجرة ببيته الأول.فارق المدرسة مبكرا،لأنه ضاق ذرعا بمعلمه ذي السلوك الشرس العنيف،فكان يقسو عليه ويوجه إليه جام غضبه،وأحيانا ينهال عليه شتما ولكما،فلا يجد الصغير من بد سوى الاستسلام والخنوع. وحاول مرة العودة إلى الفصل الدراسي لكنه عدل عن فكرته الرعناء،لما أخبره الأطفال الذين كانوا يدرسون معه بأن المعلم ناقم عليه وهو في انتظاره،يترقب مجيئه إلى المدرسة ليحاسبه الحساب العسير،ويرهب به باقي الكسالى المشاغبين.فانطلق في القرية يجوب رحابها ويهيم في شعابها اليانعة،غير أنه لم يكن يجرؤ أبدًا على الاقتراب من المدرسة. وتمضي الأيام جميلة هادئة،والفتى غافل عما يخطط له القدر من جديد،ثم انطفأت عيناه البريئتان،وخمدت ومضة الحياة التي كان ينهل من وداعتها،ويتنسم أريجها هائما بين المروج الخصيبة،مستلقيا تحت ظلال العرائش الوارفة تكسوها أغصان الصفصاف المتدلية على ضفة النهر الجاري في ليونة جاذبة مريحة.وذبلت أعشاب الطبيعة التي كان يعشقها،ويتلمس في صفوها دفء الوجود وروعة الانعتاق… وانتهت حكاية الاسترخاء والغوص في عالم الأوهام المجنحة.فقد أفسد عليه زواج أمه بهذا الرجل الأشمط العجوز أحلامه،وأضاع عليه فرصة الاستعاضة به عن حنان أبيه الراحل،وتحولت كل أمانيه العذبة إلى كوابيس من سهاد وقهر وشقاء،وحرمته ظروفه العاثرة من ملامسة نور الأمل وبهجة الإطلال على المستقبل ولو في منامه. كان يتعطش إلى من ينقذه من بؤس خيم عليه وأراه الضياع والحرمان من عطف الأبوة،لذلك أحس بفرح عارم يوم أسرَّت إليه أمه ببشرى عرسها الموعود،وولوجها درب حياة زوجية تنير ظلمة قلبيهما المفجوعين.وفي لمح البصر تسفهت تلك الأماني العائمة وتحطمت على أعتاب الواقع المرير،ولم تستطع أمه أن تؤمن له أبسط شروط الرعاية،ولم يكن بإمكانها أن تحيطه بسوار السعادة،وأنسجة التفاؤل والرضى،لأنها كانت مغلوبة على أمرها كأسيرة في بيتها الجديد،تتحمل شقاء العيش،وتغالب القهر والاستغلال والوضاعة صابرة راضية،فقط لتحمي نفسها وابنها المسكين من غائلة الجوع والتسول،وتدفع عن حياتها وحياته وصمة الارتماء في جحيم العهارة والتشرد… كان محكوما عليه بأمر من قضاء جبار جائر أن يستمر في هذه الحلكة الإنسانية متجرعا عتمة العواطف تجتاحه القلوب المتحجرة الإسمنتية.لذا كان غالبا ما يلجأ إلى المبيت في ركن من سطح المسجد،عرضة للحر والقر تلسعه الحشرات،وهو لا يبالي بل يوجه عينيه الذاويتين إلى السماء عله يجد قلبا رحيما ،أو نسمة عزاء لحاضره المنكسر.وحين يسفر الفجر يتسلل بين بصائصه الخافتة قبل أن يتفطن الفقيه لأمره فيحرمه هو الآخر من مخبئه الوثير. وجوار البئر هنالك غير بعيد،يتمدد على الحضيض ليأخذ قسطا من راحة،ويجفف ملابسه من عرق النوم،وتفتر عيناه الحزينتان الذابلتان عن نظرة متعبة،وتارة تفلت منهما ابتسامة بريئة مختنقة تخبو إشراقتها،كلما مرت أمامه تلك الدجاجة وصغارها،تتهادى على العشب اليابس،طورًا تنقر التراب وطورًا ترفع رأسها ،وتجيل النظر حولها منتفضة بمنقارها الحاد لوخز كل من تسول له نفسه أن يدنو منهم..