التقى ساعي البريد على عتبة الدار. ربما رفض ملفه الأخير، كما رفضت عشرات الملفات التي أمطر بها الإدارات والشركات. لكن الظرف لم يكن يشبه سابقيه. أخف وزنا، ويبعث على الارتياح. كان خارجا في جولته اليومية. ألغى اليوم هذا الطقس ليتفرغ للظرف. بسمل واستعاد بالله من شياطين الجن والإنس. مزقه فطارت فراشات الأمل من محياه. فرك عينيه ليتأكد بأنه لا يحلم. تشتت انتباهه للحظات.. أعاد قراءة الرسالة. إنه لا يحلم. إسمه مكتوب على الظرف.. وبخط وإخراج أنيقين. فكر.. رائعون هؤلاء الخواص. عباراتهم تقطر مجاملة واحتراما.. حتى عندما كانوا يجيبونني بالسلب. قبل طلبه للالتحاق بالشركة التي أودع لديها ملف ترشيحه لمنصب شاغر. أجل إخبار الأسرة بالبشرى. الأخبار في حيه الشعبي تكبر لها أجنحة.. لذلك أرجأ الأمر إلى فرصة مواتية. يومان للالتحاق بمقر الشركة. كيف يحضر الأوراق ولوازم السفر والإدارات في عطلة؟ الرسالة لا تشير إلى أي نوع من الإجراءات التي عليه أن يقوم بها. مطلوب منه فقط أن يحضر صباح يوم الاثنين إلى مقر الشركة. لا مجال للتأويلات أو الاجتهادات.. ولماذا يملأ دماغه بتفاصيل وحيثيات لا طائل منها؟ عاد إلى قطيعه، وانتصب أمامه المشكل الأزلي: المال. كيف يتدبره؟ ستتكفل به الأسرة لا محالة. تراءت له فورية إخبارها وإشراكها الفرحة. والتنقل؟ أحسن وسيلة هي القطار. ثمن التذكرة مرتفع عن الحافلة لكن، درءا للمفاجآت غير السارة، والتي تحدث أحيانا للحافلات، يهون كل شيء. تخيفه الأعطاب الطارئة. له قصص مؤلمة ومريرة مع إحداها، ويفضل، الآن، ألا يتركها تطفو على سطح ذاكرته، خصوصا في هذه اللحظة التاريخية من حياته. لكن كيف سيتقدم للمسئولين في الشركة، ويترك انطباعا جيدا وموحيا بالمسئولية والانضباط؟ من أين له ببذلة؟ لصديقه هشام بذلة يمكن أن تفي بالغرض. اصطادها من سوق الملابس المستعملة. وقعها أحد المصممين الفرنسيين ذائعي الصيت. مازالت تساير آخر صيحات الموضة. تحتاج فقط إلى المرور من يد المكوجي. فرقع إبهامه بوسطاه علامة على أن كل شيء على ما يرام، لكنه تذكر أن حذاءه هو الحلقة الضعيفة في السلسلة. الحذاء هو روح الشخص ومرآته الداخلية. هكذا قرأ أو سمع.. اهترأ حذاءه من فرط السير والجولان. هرع إلى سوق الخردوات، واشترى حذاءا بما كان كل ثروته تلك الأيام. هو أيضا موقع. ربما كان في السابق لأمير بترول أو لنجم هوليودي.. أما الآن، فهو ينتعله بكل فخر واعتزاز. يحتاج فقط للتلميع. دق آخر مسمار في نعش المشكل. وصل مع غروب الشمس إلى المدينة التي حلم طويلا أن يدخلها يوما ما دخول الفاتحين. كل حياته انقضت في مدينة صغيرة. أما هذه الشوارع الفسيحة النظيفة، وهذه الأضواء الغامزة، وهذا الإيقاع السريع، في كل شيء، فقد أوحى له بأنه بدوي في مدينة الأنوار.. ساعات طويلة من الجوع نخرت أمعاءه. اهتدى إلى مطعم شعبي ليخرس صهيله، ثم قام بجولة في المدينة العتيقة بحثا عن فندق يريح فيه جثته من عناء السفر. شعر بأن خيولا جامحة حرثت حقولا جرداء على جثته. اتجه نحو شاب قابع في ناصية الزقاق، وبادره بالسلام والسؤال: - هل يمكنك أن تدلني على فندق في الناحية؟ - بكل سرور. لكن كل واحد وثمنه.. - يكون نظيفا، وثمنه معقول. - سيروقك واحد غير بعيد. نظافة وثمن وخدمات.. اتبعني. تبعه كما المريد شيخه. مرا من طرقات، وتجاوزا فنادق لها أسماء بشتى المدن المغربية. يظهر أن أربابها نازحون منها. وبإطلاقهم أسماء مساقط رؤوسهم عليها، يبقوا على ارتباط بها لكن ولا واحد راق للمرشد. فوض أمره إليه واطمأن. سيعثر له على ما هو أحسن. تابعا السير في أزقة بدأت تخلو، شيئا فشيئا، من المارة.. عندما دخلا زقاقا مغلقا وضعيف الإضاءة، توقف الدليل، والتفت، فجأة، إلى الوراء، وفي يده لمع نصل سكين: - اجبد ما عندك، وإلا حياتك مشات.. صعقه التهديد.. كيف تطورت الأمور إلى هذا المنحى الخطير؟ تعطلت قواه، وشلت ردود أفعاله. وقبل أن يتكرر التهديد، انبعث من رحم الظلام ظلان كانا في التغطية. اقتربا واستلا أسلحتهما البيضاء، وغربان الشر تتراقص في أحداقهما. توسل إليهم لكن الشتائم والبذاءات انهالت عليه. فشل في أن ينال رأفتهم.. كيف يقنعهم بأن يخلوا سبيله؟ لا طائل من استفزاز تهورهم.. امتثل لتهديدهم قبل أن ينفذوه. أعطاهم النقود والساعة اليدوية وخلع البذلة والحذاء.. ولم يبقوا له على حتى ما يستر ذكورته.. .