منذ أن خلف الملك محمد السادس والده رحمه الله، وهو يعطي الإشارات تلو الأخرى لما يراه كفيلا بإخراج المغرب من ظروفه الصعبة التي راكمتها سنوات الحكم المطلق وسوء التدبير، كما قام بعدة مبادرات في اتجاه تحسيس كافة المسئولين بما هو مطلوب منهم لتسهيل مهامه الجسيمة وتطبيق أفكاره وتنفيذ تصوراته بهدف وضع المغرب في المكانة التي يستحقها والتوافق مع تطلعات الشعب المغربي في غد أفضل وحياة كريمة ومستقرة. وقد تأكد اليوم بما لا يدع مجالا للشك، بأن هناك إصرارا قويا من لدن البعض بأن ما يروم إليه الملك لا يروقهم ولا يناسب طموحاتهم ، ولهذا تطالعنا يوما بعد يوم أحداث ووقائع أقرب إلى الدجل والشعوذة ، كما نعيش أساليب شتى من النصب والاحتيال ضدا على إرادة الملك والشعب المغربي، تعرض المغرب إلى مخاطر كبيرة يستشعرها هؤلاء، ولكنهم بالمقابل يقومون بما يحميهم من تلك المخاطر بطرق متعددة مستغلين نفوذهم وسلطتهم وفي بعض الحالات حصانتهم. وتحضرني بهذا الخصوص ظاهرة خطيرة لا أدري كيف لم تثر انتباه الجهات المسئولة ومن ضمنها الإعلام. فقد تعود الملك خلال الخمس سنوات الماضية على الإقامة خلال شهري يوليوز وغشت بين مدينتي طنجة وتطوان. المفارقة، مع هذا التشريف الذي كنا نفتقده من قبل، تزداد أحوال المدينتين سوءا وتدهورا وتتفاقم بهما المشاكل وتستفحل من كل نوع وصنف، وكأن هناك يدا خفية تقوم بذلك عن عمد وسبق إصرار لتحويل الاهتمام الملكي عن هذه المنطقة وساكنتها، وهذا ليس مستبعدا بالنظر لما ألفناه من مظاهر التسيب والفوضى بهدف إبقاء الحالة على ما هي عليه ليسهل على الإنتهازيين الصيد في المياه القذرة. طبعا نحن نثق في الملك ولا نتوقع إلا إصراره وتحديه على توطيد وتوثيق علاقته بسكان المنطقة. ولكن الذين في قلوبهم مرض لن يزيدهم الله إلاًّ مرضا، وهنا تبرز أهمية مفهوم الوطنية والمواطنة الذي جاء في إشارة قوية في خطاب ملكي سابق بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، حيث أبرز ما يريده لتجسيد مظاهر هذا المفهوم والدعوة إلى ترسيخه واستحضاره في وعي المواطنين والمسئولين. وقد سبق لي أن تطرقت لهذا الموضوع ستة أشهر قبل الخطاب الملكي علي صفحات احدى الأسبوعيات ، وبالضبط في مارس 2004 تحت عنوان : «الوطنية والمواطنة»، ومساهمة منا في الدعوة إلى استحضار روحهما في أبعادهما المشرقة والملهمة للإرادة في خلق المبادرات الهادفة إلى تخليق الحياة السياسية والاجتماعية، نعيد نشر المقال المشار إليه : الوطنية والمواطنة في مناسبة ما، قال الراحل الحسن الثاني رحمه الله، أنه ليس هناك مواطنا أكثر وطنية من الآخر، فكل المغاربة سواء في الوطنية. وبعدها بسنوات تذمر من بعض مساعديه والمقربين إليه، وعبر عن أسفه وحسرته منهم بعد أن خانوه وخانوا ثقته فيهم. هذه الجزئية من التاريخ السياسي للمغرب لم تحمس أي فاعل سياسي أو إعلامي للغوص في أعماق مدلولات بعض المصطلحات وتحليل معطياتها ذات المرجعية السياسية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية، وبالتالي فإن هذا العزوف والتجاهل واللامبالاة كان العامل الأساسي في فساد وضمور الفكر السياسي المغربي وانحسار آفاقه وتوجهاته، وكان السبب في هذا الجمود المشوب بالشبهات الذي يهيمن على عقلية المتعاطين للسياسة والمسترزقين منها، ونخص بالذكر هذه الكوكبة من السياسيين الذين يكونون النخبة ويحتكرون الفعل السياسي على مسرح الأحداث ويوجهونه في اتجاه واحد لخدمة مصالحهم الخاصة والفئة الضيقة التي ينتمون إليها والمنسلخة عن تطلعات المواطنين الذين أصبحوا على معرفة ودراية تامة بألاعيب وأهداف ومناورات نخبتهم المتعجرفة . في فجر الاستقلال (استقلال المغرب رفعا لكل التباس) ورغم بعض التجاوزات، كان هناك ثلاثي عروة لا انفصام لها (الوطن، الوطني والوطنية). الوطن كان هو البوثقة التي تنصهر فيها كل ملامح المواطن الصالح والوطنية المتجردة. قاموسهم هو النزاهة، العفة والتضحية. الوطن حينذاك كان مقدسا، الوطنية طاهرة والمواطن شعلة من الحماس والعفوية الصادقة والبراءة الصافية. لقد كان واضحا أن المغرب مؤهل ليكون دولة قوية بكل ما يزخر به، رغم حداثة عهده بالاستقلال ووجود بعض الوجوه الكريهة الغاوية للفتن ومقاومة التحديث والتطور. فالوطنية كانت هي النبراس للمواطن على درب بناء الوطن، وبالتالي فهذه الصفة لم يكن ليتشرف بها إلا المواطن الصالح، وإلا فكيف يمكن تجسيد هذا المفهوم بوجود طغمة من البشر لا يهمها إلا مصالحها الخاصة والفئوية. كيف السبيل إلى مساواة الجميع أمام مواطنة تنشر الخير وتنبذ الشر! كيف السبيل إلى توحيد المفهوم بين فئة تغصب الحقوق وفئة تضحي بأعز وأغلى ما لديها. لا يمكن والحالة هذه أن نقول أن كل المغاربة سواء في الوطنية، هذا تجني فاضح ولا مسؤول عن حقائق هذا المغرب الذي هيأه لنا البعض وفصلوه على مقاسهم ومقاس فئتهم وذويهم وأذنابهم. - ليس مواطناً ولا وطنياً من يخون الأمانة والمسؤولية والقسم والدين ويغتصب أحلام المغاربة وأبناءهم وأحفادهم ويختلس أموالهم. - ليس مواطناً ولا وطنيا من يستهزئ ويستخف بمشاعر مواطنيه ويبيعها في سوق النخاسة ليبني مجده وقصوره ورصيده المالي. - ليس مواطناً ولا وطنيا من يناور ويحتال ويتآمر على مصلحة بلده وأهله. - ليس مواطناً ولا وطنيا من يبيع الأحلام والقبض على الهواء في سوق المزايدة السياسية ليتربع على عرش الزعامة والمساومة والابتزاز والإمتيازات. هؤلاء ليسو مواطنين ولا وطنيين، المواطن بوطنيته في أبهى وأنقى وأطهر وأقدس تجلياتها ومظاهرها، وهي تربية نفسية خلقية أكثر مما هي مصطلحات فجة وممجوجة يتقيؤها في وجوهنا تجار وسماسرة السياسة والمناصب الكبيرة والمقاصد الممقوتة. هؤلاء فضلا عن المطالبة بمتابعتهم ومحاسبتهم ومعاقبتهم يستحقون الحرمان من كافة الحقوق المدنية واجتثات ممتلكاتهم المحرمة ونبذهم ووضعهم في المصحات العقلية والمعازل، بل والتشهير بهم ليكونوا عبرة ودرسا لكل من تسول له أمراضه النفسية بالخلط بين مصالحه الخاصة ومصالح مجموعة المقهورين والمقموعين والمحرومين بإرادة هؤلاء الفاسدين وبالتالي صيانة مبدأ المواطنة والوطنية الصادقة. إن الشخص الفاسد عدو لوطنه ومواطنيه، وعدو للوطنية، لأن هذه هي مجموعة مظاهر الإحساس بثقل المسؤولية في اتجاه تفعيل منظومة المثل والقيم السامية بقصد شريف يروم تحقيق الخير ودرء المفاسد، ولا يمكن للمواطن أن يحقق هذه إلا بالاستقامة في التصرفات والنبل في التفكير، وبغيرها يكون عبئاً على وطنه ويجب التخلص منه. وفي اعتقادي يجب التأكيد على دور الوازع الديني قبل الأخلاقي والقانوني، فالذي لا يخاف الله بعد أن يقسم به لن يتردد في ذبح واغتصاب الحقوق والدوس على رقاب الضعاف وتصفيدهم ليكونوا عبيدا لنزواته.