عناد وشقاوة الأطفال أمليا عليه أن يترك الرصيف المترب، ويسير وسط الطريق الخطر. السيارات في هذه المنطقة تمرق بسرعة وتهور، وتغمر الطريق بعاصفة من الغبار. ها هو يعود مجددا للسير وسط الطريق. بيمناه كيس بلاستيكي أسود، وبيسراه كيس بلاستيكي أصفر غامق. اعرورقت ذراعاه وتصلبتا، وتشنجت قسماته، واعوج ظهره من حمل الكيسين لمسافة طويلة وشاقة. تذكرت التلاميذ تحت ثقل محافظهم الظهرية.. ومع ذلك تجدهم كالشياطين يلعبون الكاراتيه في الطرقات ويصخبون ويتقافزون، وكأن لهم أجنحة رشيقة بدل المحافظ الثقيلة. أشفقت لحاله ولكنني لم أعرف لم لم أترجم هذا الإحساس إلى مساعدة.. أيكون الحر الشديد شل إرادتي؟ انفجر الكيس الأسود تحت ضغط الوزن الزائد من الطماطم. اندلقت بسرعة ومرت بمحاذاتي، وواصلت تدحرجها حتى بلغت ساحة تشكل أسفل الطريق محطة لسيارات الأجرة. بعض السائقين خلد للنوم داخلها، والبعض الآخر احتمى من الحر بالظل الذي توفره بعض الأشجار لمقهى يرتادها السائقون والركاب ليكسروا الانتظار قبل أن تتحرك بهم السيارات. استقرت تحت أقدامهم بعض الحبات الطائشة. لا أحد تطوع لالتقاطها أو نادى على الطفل ليجمعها. وضع الكيس الأصفر أرضا، وتابع بنظره الطماطم المتدحرجة. لم يلتفت من حوله بحثا عن دكان بالجوار يشتري منه كيسا بدل الذي تمزق. ربما لسوء حظه لا يملك نقودا، ولسوء حظي أنا في شراءه له لم يكن أي دكان مفتوح لحظتها. كان الكل يتهرب من الحر الشديد. عندما وصلت حيث توقف قلت له لاهثا، وعلى سبيل التعاطف، وغالبا لأطرد إحساسا بالذنب لأنني لم أفكر قبل قليل في مساعدته: - سأحرس لك الكيس. اهبط والتقط أغراضك. هبط المنحدر في خفة أججت حسرتي على لياقتي المتهرئة. انهمك في تجميعها من الساحة المتربة القذرة زواياها. وكلما التقط واحدة مسحها بصدر قميصه. لم يتسع محيط ذراعيه الضئيلتين لكل الكمية المندلقة. بضع حبات كانت كافية لتشغل المساحة التي وفرتها راحتاه المبسوطتان وذراعاه المضمومتان إلى بطنه. أفرغ ما احتوت ذراعاه وراحتاه، وخلع قميصه، وحاول أن يملأه بها لكن القميص لم يتسع هو الآخر. التفت إلى جمهور الساحة. تجاهلوه. لم يجد أحد عليه بكيس. ممكن القيظ عطل فيهم كل إحساس بالتعاطف معه أو ربما الانتظار الطويل قتل فيهم الرغبة في المساعدة.. وفي لحظة عجز تام أفرغ قميصه، وشقه طولا من فتحة عنقه، وأخذ يملأه مرة أخرى. لما امتلأ القميص (القميص الآن خرقة وسخة ومهلهلة) أخذ أحد طرفيه وربطه بالطرف الآخر. ترك حيث هي الحبات التي أصابها التلف من جراء التدحرج، وتلك التي وصلت إلى الزوايا القذرة. ضم الخرقة بإحكام إلى صدره العاري، وبدأ الصعود مرة أخرى. (عندما كان يجمع الطماطم لم أجرؤ على النظر إلى محتوى الكيس الأصفر). لا ظل جدار ولا لفيف أشجار ولا قبعة تحميني من اللهيب. لماذا لم أحمل معي قبعتي؟ لماذا لم تفكر البلدية في تشجير جنبات الطريق؟ بدأت أفقد صفاء ذهني، وغزاني شعور بالضيق وصعوبة في التنفس. نصفه العلوي عار يكسوه الاحمرار كأنه مر من تحت سياط جلاد. بعد خطوات قليلة صاعدة أدركت مدى ثقل الكيس بالنظر إلى طاقته. تكلفت بحمله وتوقعت أنه لا محالة متمزق. وتمزق أخيرا كما الكيس الأول فاشتعل صدري غضبا أسودا لما تموضعت مكانه وأسقطت إحساساته على نفسي وهو يتعرض لكل هذه الهزائم في هذا الجحيم. تدحرجت التفاحات بسرعة كبيرة لأنها أكثر استدارة ومتانة. هبطت أنا هذه المرة في زمن أطول من الذي استغرقه هبوطه. تبعثرت التفاحات في أرجاء الساحة، وتغلغل بعضها داخل المقهى. لم يتطوع صاحبها ليمد لي ولو تفاحة واحدة. اختفت بضع تفاحات خلف المنضدة (لوح عريض وضع أفقيا على برميلين متباعدين، وكسي من الأمام بغطاء بلاستيكي. من وراءه بدت التفاحات كفئران مستديرة بجوار المأكولات). سمح لي بإشارة منه بالتقاطها دون أن ينبس بحرف وكأن الحر أفقده القدرة على الكلام. أنهكتني كثرة الانحناء والالتقاط وتعقد الأمر أكثر عندما فكرت فيما أعبأ فيه التفاحات. من أين لي بكيس بلاستيكي أو علبة كرتونية؟ بدت لي الساحة غابة من الأوساخ تطايرت في الهواء عفونتها بفعل الصهد. أكياس وعلب الكرتونية كثيرة ولكن الله أعلم بأي شيء هي مملوءة. لم ينفعني سوى أن خلعت قميصي وشققته طولا من فتحة عنقه وعبأته بالتفاحات. قميصي الفضفاض احتواها كلها تقريبا. وانتصب الطريق أمامي جبلا تطاردني لعنة صعوده عاريا عطشانا وعرقانا كبطل ملحمي طرد من حظوة الآلهة. الطريق يزداد علوا وطولا ولياقتي البدنية تخونني مع أبسط مجهود. اللعينة تتواطأ مع هذه الحرارة. الشمس في عنفوان عنادها بعيدة عن الانطفاء في رحم المحيط. أقسمت ألا تغرب إلا على جسدي. تلهب وجهي ويعمي العرق عيني. الزمن معلق. مشلول الحركة. فقد القدرة على الامتداد والتدفق. الطريق يرفض الإعلان عن قمته. قمته تتراقص تحت اللهيب. القمة سراب. تنكسر المحاولة في العتبات الأولى وترتد إلى البدايات. كل شيء خالد في وضعه أو غائب. نعم. هذا أفضل. غائب تماما. القمة خلاصي. الشمس الحارقة احتوت كل الأفق. أعصابي انصهرت وشعرت أن كل ذنوبي قد غفرت. طهرني العرق والعطش وعذبني الحر الشديد ولكنني لن أغفر لهذه الشمس التي عذبت روحي. وجدته يحمل كيسين بلاستيكيين أبيضين كبيرين. من أين حصل عليهما؟ سرقهما؟ لم أسأله. أدخلت يدي في قاع أحدهما لأتحسس متانته وأوسع من سعته. سحبتها بعصبية لما لامست أصابعي بللا ظننته بولا أو نجاسة. تقززت وشممت أصابعي باحتراس. البلل قطرات من الخمر. لم أقل له ولكنني قلت في نفسي: اللهم الخمر أو شيء آخر أسوأ وأردأ. ملأنا الكيسين وتخلصنا من قميصينا وتقاسمنا حمل الكيسين وواصلنا عاريين صعود الطريق الذي بدأ تدريجيا في الاستواء. لما بلغنا نهايته سلمته الكيس ونصحته أن يلتزم الحذر أكثر. شكرني بأدب وتوادعنا. أوقفت سيارة أجرة كانت مارة بالجوار. لم يكن السائق بالفضول ليسألني لم أنا عار.. ربما ظن أني قادم من البحر..