ساعات معدودة ويلفظ العام أنفاسه الأخيرة. أرقام ستطوى إلى الأبد، وأزمنة ستتغير، وسيسري مفعولها في معادلة التاريخ، وتصبح شساعة هذا العام، الذي نودعه إلى مثواه الأخير، شريطا رقيقا من الذكريات المأسوف على عبورها. نجترها بلا شعور، وننتشي باستحضار لحظاتها. نلوك ما كان مرها وحلوها، ونبكي على أطلالها. نتكلم لغة الوداع، ونتلو أناشيد الفراق، وداخلنا تسحقه أمواج عاتية من بحر النوستالجيا المتلاطم. ما أشبه ما نعيشه دائما بما ألفنا أن نعيشه أعواما وعقودا وعصورا. صيغة واحدة لا تكف عن الانبعاث من رمادها. هي ذات الرموز، وتحمل نفس الدلالات. تتفاعل تحت نفس الأجواء، كأننا عشناها في أزمنة سابقة أو في أحلام عميقة أو ربما في طفولة أولى. اللحظة تخرج من رحم اللحظة التي سبقتها، ثم تنتهي بدورها في بطن اللحظة التي ستليها. لحظة واحدة كافية لكي تنهدم فيها عوالم، وتنبني على أنقاضها عوالم أخرى مماثلة، ومن نفس الطراز، ولها ذات الأبعاد.. مسألة وقت ليس إلا تتكرر في متتالية الزمن. عرض لا يتكرر إلا لكي لا يأتي بما هو جديد.. وهذا المطر خيوط كثيفة من سماء دامعة. انهمار عمودي يكسر أفقية الزمن، ويصادر أبعاد المكان، ويعطيني إحساسا بالرغبة في أن أكون، في كل لحظة، في كل الأمكنة، وفي كل خطوة، داخل كل الأزمنة. أن اختار أن أكون هنا أو هناك، في هذا الفضاء أو ذاك، معناه أنني جزء من المكان، ولا معنى للمكان إلا بمقدار إحساسي، في كل لحظة، بأنني أؤثث جغرافيته، وأتحرك في حدوده، بل أمنحه معنى لا ينقطع عن التغير والحركة والانفلات من سطوة اللحظة التي تصبح جذورها، بمجرد أن يتفتت هذا المعنى، ركاما في قعر الماضي، وامتداداها قاعدة خلفية تنبني عليها نفس العوالم الزمكانية التي لا تتوقف عن الفناء والتكوين.. كرونوس يفترس سلالته لكي يحقق حلمه بالخلود والامتداد. الهواجس ذاتها العابرة للتاريخ، تستعصي على التطويق، وتهتك أستار الإدراك لأنها، في كل لحظة، تلبس آلاف الأقنعة، وتلعب لعبة الاختفاء والظهور. حرب بقاء لا تبقي على المفاهيم التي لا تقوى على التشكل إلا للحظة خاطفة، لا تلبث أن تنصهر في أتون الفناء. لحظة واحدة عملاقة تستنسخ وتفترس نفسها إلى ما لا نهاية.. الجزء يولد من الكل، والكل أجزاء يحركها مصير حثيث نحو الانشطار والتلاشي في صيرورة لا تحيد عجلاتها عن الطريق..