لم أنم تلك الليلة...وأفقت على صوت أمي وهي تسخن حليب قهوتي...وهي تكوي بذلتي...لم أنتظر صوت المنبه أعدمت زغرودته قبل أن يطربني بموسيقى لم أعد أحبها... جففت وجهي من وضوئي الصباحي والتهمت خبز أمي المدهون بالزبدة وتجرعت فنجان القهوة...سأحن لخبز أمي وقهوة أمي.. همهمت...قبلت جبين أمي وهرولت خارجا وفي مسامعي حشرجة صوتها وهي تلوك الأدعية... تأبطت الحقيبة وخرجت فاختطفني أول طاكسي إلى محطة مولاي المهدي بالقصر الكبير...ووجدت نفسي والحقيبة داخل المحطة..اختلست التذكرة بعد أن انسبت في طابور الانتظار... حفر حارس الباب تذكرتي بآلته الحديدية محدثا ثقبا لست أدري ماذا يعني.قلت: -تكفينا ثقوب في الذاكرة تحرمنا من فصول طفولة منسية... الكل هنا ينتظر القطار ويختلس النظرات تلو النظرات إلى الساعات اليدوية لأن ساعة المحطة لم تعد عقاربها ترتل لحن الزمن... ربطات عنق هنا وهناك...عيون مقنعة بنظارات سوداء...وجوه مختفية وراء الجرائد...ولغط تؤثثه حوارات جانبية بين أناس لن يلتقوا قط... صوت نسائي يخرس الجميع... - سيتأخر القطار لبضع دقائق...نقدر صبركم...شكرا... أمهلتني الدقائق إشباع شغفي لإعادة اكتشاف الأشخاص والأشياء... الحقائب المجرورة والمحمولة على الأكتاف...وسلة المهملات... لمحت الساعة الحائطية للمحطة...وأشفقت على السلة التي لم تكل يوما من ابتلاع الفراغ، أعواد الثقاب المنتحرة، أعقاب السجائر المغتالة، أوراق القمار الخاسرة، والعلكة المستنفذة حلاوتها، والجرائد البائتة وكؤوس القهوة البلاستيكية... فاجأني زعيق القطار في هرولته نحو طنجة التي أضحت تخيفني. لم تعد هذه المدينة حلما لشكري ولا معشوقة لبول بولز... احتوتني المقصورة الأولى في الدرجة الثانية من القطار. وضعت الحقيبة على الرف فابتلعني الكرسي. شاركني المقصورة سائح وعجوز ببذلة مكوية بعناية وربطة عنق وثالثتهما فتاة بدت لي طالبة حقوق أو اقتصاد. بدأ السائح في التهام صفحات كتاب لباولو كويلو. ودس العجوز وجهه في الجريدة بينما داعبت الفتاة مجلة فرنسية ملونة... أخرجت من أحد جيوب الحقيبة كتاب شكري " زمن الأخطاء"...دائما يرافقني الكتاب في أسفاري. في كل مرة أعيد قراءته أكتشف زمني...أخطائي... لن أقرأ اليوم. أنا متعب"... فتحت كتاب ذاكرتي ودسست شكري في الحقيبة... لمحت وجهي في مرآة المقصورة وتأكدت أن تسريحة شعري وملامح وجهي لم تتبدل... استسلمت لنافذة الإغاثة...فأغاتتني بالصور والمشاهد... بغل وحمار وإنسان بمحراث خشبي... صبية يلعبون في الخواء...ويلوحون... للقطار...وبعضهم يرشق بالحجارة... أرض جرداء تنتظر الغيث... قطيع المواشي يحرسه كلب وصبي بعصا يلوح الصبي بالعصا وينبح الكلب... استيقظت من غفوتي ووجدتني في محطة طنجة... وانفجر القطار بركانا من بشر وحقائب... وأحلام...وهواجس وخوف وفرح....... سألني سائق سيارة الأجرة إلى أين؟ - السوق الداخلي... سألته هل تعرف محمد شكري؟ - أنا لست من المدينة لكني سمعت أن له خبزا حافيا... - هل قرأت أحد كتبه..؟ - لا اعرف القراءة ولا الكتابة... - وقلت في صمتي لكنك تعرف السياقة...تقرأ الألوان... دخلت السوق الداخلي وأقفلت علي باب حجرتي...وتمددت على سريري والوسادة. وقبل أن أنام كانت كتب شكري تدغدغ نعاسي...من على رف مكتبتي...