شعور غريب ينتاب المتتبع لمداخلات وأسئلة فرق ونواب المعارضة بالبرلمان المغربي، يتخيل المرء للحظات أن هؤلاء النواب الذين يملؤون الدنيا صخبا بريئون براءة الذئب من دم يوسف في ما يتعلق بكل ما ينتقدونه، لكن بمجرد الرجوع قليلا بالزمن إلى الوراء نكتشف أن هناك ما يشبه الشيزفرينيا في ممارسة المعارضة من طرف هؤلاء. إن المنطق السليم للمعارضة السياسية يقتضي انتقاد السياسات التي لا يكون المعارض طرفا فيها حتى تكون لانتقاداته المصداقية المطلوبة مثلما يجب الانتقاد أن يكون مصحوبا بالبدائل، فالمفروض في المعارضة أنها تنتمي لهيئات سياسية لها خبرائها ومنظروها في مختلف المجالات، فالانتقاد ليس فقط الإشارة إلى موطن الخلل، فالطبيب يستطيع تشخيص الداء لكن ذلك التشخيص سيبقى دون جدوى إن لم يصف له دواء يعالجه. المعارضة المغربية تبدو وكأنها تعيش خارج الزمن أو أن ما كان يقوم به بعض أطرافها عند توليهم الحكم قد مرت عليه سنوات طوال، في حين أن الأمر يتعلق بأشهر معدودة فقط على مغادرة بعض مكوناتها كراسي الحكومة، ولا تزال معظم أطرها تسير مرافق الدولة في انتظار التغييرات المرتقبة من طرف الحكومة الجديدة على هذا المستوى. إن الشعبوية التي تمارسها المعارضة المغربية حاليا أخطر كثيرا من تلك التي تتهم بها الحكومة، فقضايا الفساد والتشغيل والإعلام والتعليم العمومي وغيرها ليست وليدة اليوم، فهي قضايا كل اختلالاتها تعود إلى ( العصر الذهبي ) لفترة حكم المعارضين الأشاوس الذين يرفع البعض منهم عقيرته بالصراخ دفاعا عن الممارسة السياسية النزيهة، في حين انه لولا ألطاف الربيع العربي لكانوا أتوا على الأخضر واليابس بأساليب أعادت المغرب سنوات طويلة إلى الوراء، والتي لم يفقد هؤلاء الأمل في الاستمرار فيها إلى اليوم وإن كانت تلك الأساليب هذه المرة تمرر عبر قنوات أقوى من القنوات الحزبية. إن الريع الاقتصادي والسياسي الذي ( يحاربه ) المعارضون اليوم، هو نفسه ذلك الريع الذي دافعوا عنه وحصنوا قلاعه عندما كانوا في الحكومات السابقة أو كانوا بعضهم معارضين بوزراء في الحكومة إن صح التعبير، في استخفاف واضح بالذكاء السياسي للمغاربة، واليوم نجد هؤلاء أنفسهم يتهمون الحكومة بالعجز عن محاربته، فكيف تستطيع الحكومة المغلوبة على أمرها محاربة ريع يدافع عنه من هم أقوى منها، ويناور من أجل بقائه معارضون لها؟ عندما تتحدث المعارضة عن تزايد نسبة المعطلين حاملي الشهادات وفقدانهم الثقة في الحكومة، فإنهم ينسون أو يتناسون أن من كرس اللاثقة في هذا الباب هم أنفسهم عندما استغلوا قانون التوظيف المباشر لسنوات طويلة في تكريس الريع بمختلف تلاوينه، وكيف كانت المناصب توزع بالتساوي في غفلة من الجميع على المقربين ويرمون الفتات للمعطلين من أبناء الشعب على شكل دفعات سنوية بعد أن تكنس بهم شوارع الرباط ويأخذون نصيبهم الوافر من الهراوات الغليظة للأجهزة الأمنية، حتى جاءت دفعة الأربعة آلاف منصب خلال 2011، والتي كشفت أن هناك آلاف المناصب التي كانت تخلق سنويا ولا ينتبه إليها أحد من أبناء الشعب الغافل، فمن المسؤول إذن عن تراكم الآلاف المؤلفة من المعطلين الذي يطالبون اليوم بمطلب لا يمكن مناقشته من زاوية صيغة التوظيف فقط، بل هو مطالبة برد الاعتبار وإعادة الحق لأصحابه بعد أن تم تمرير الآلاف من المناصب خلال سنوات عن طريق الزبونية والمحسوبية بدون مباراة ولا هم يحزنون وخارج دفعات المعطلين مستغلين وجود قانون للتوظيف المباشر، ولكم أن تسألوا بعض المسؤولين الذين فاجأهم قرار الدوائر العليا بانتزاع المناصب منهم بهدف إخماد نار الربيع المغربي التي كانت ستشب في الجميع، وكيف أن بعض هؤلاء المسؤولين رفضوا الالتزام بقرار التوظيف لأن ذلك انتزع منهم ما يعتبرونه أداة لشراء الذمم، هذا هو أصل ملف العطالة الذي يزايد به المعارضون الشرسون اليوم على الحكومة، وهذا ليس دفاع عنها لكن حتى لا تركب المعارضة في خطابها على ظواهر الأمور وتحاول تمويه الرأي العام عن مسؤوليتها في ما تنتقده. بعض أطراف المعارضة تعتبر ذاكرة المغاربة قصيرة جدا لذلك فهي تحاول العمل بمنطق من يصرخ أكثر هو صاحب الحق، وإلا فما معنى أن يصرخ رئيس فريق برلماني بعدم وجود استراتيجية واضحة لدى الحكومة، فهل لدى حزبه هو استراتيجية واضحة، ولنفترض جدلا أنها موجودة فأين كانت هذه الاستراتيجية لأكثر من عقد من الزمن هي فترة تواجد حزبه في الحكومة؟ وما معنى أن يتهم رئيس فريق برلماني آخر الحكومة بالاستبداد باسم الأغلبية العددية التي حصل عليها نتيجة الانتخابات، في حين أن حزبه حامل المشعل الجديد لمغرب سياسي أفضل - حسب شعارات الحزب - استبد في وقت سابق بكل ما له علاقة بالسياسة في المغرب الأمين وأصبح الآمر الناهي بين عشية وضحاها، وأضحى لديه فريق برلماني يحتل الرتبة الأولى دون حتى أن يشارك في الانتخابات البرلمانية، فعن أي استبداد يتحدث لنا الرئيس المحترم؟ المعارضة الشريفة تنطلق من فضح التجاوزات الحقيقية ومعارضة السلطة الحاكمة الفعلية، ومكونات المعارضة الحالية تعي جيدا أن حكومة بنكيران مغلوبة على أمرها ولم تتسلم بعد زمام الأمور أو أن سقف سلطتها وصل حده ولا يمكنها أن تتجاوز إعلان نواياها الحسنة في ظل صعوبة المرور إلى الفعل، المفروض في نهجهم للمعارضة أن يستهدف الحاكمين الفعليين لا ممارسة الفروسية السياسية على حكومة أشهرت في وجهها الورقة الصفراء بمجرد اقترابها من بعض مظاهر الفساد، المعارضة يجب أن تفضح الأسباب الحقيقية وراء هذه الوتيرة السلحفاتية في الإصلاح والتي لن تغير شيئا، أما إذا كانت المعارضة تشكل ذراعا برلمانيا للدفاع بطريقة غير مباشرة عن حكومة الظل الفعلية فهذه مسألة أخرى. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته *باحث في تاريخ المغرب المعاصر