-إن من الرجال الأفذاذ الذين حباهم الله بالقرآن، ورزقهم مزمارا من مزامر آل داود :الشيخ الجليل سيدي عبد الله اشتيوي حفظه الله وشفاه وعفاه. رجل قذف الله محبتة في قلوب الخلق، وألقى عليه من الهيبة والإجلال ما جعل الكبار والصغارينظرون إليه بعين الإكبار! تعرفت عليه من زمن بعيد ، وكم كنت أتمنى أن أحظى بشرف التلمذة عليه ، والجلوس بين يديه. لكن ، وللأسف ، لم يقدر لي ذلك. ومهما يكن ، فإني قد جالسته، واستمعت إليه، واستفدت منه كثيرا، وحصل لنا معا شرف الدراسة على السيد "الطاهر الحمدوني" بضعة أشهر في الجمعية الاسلامية أولا ،ثم في مسجد القدس ثانيا.. درسنا عليه الألفية، والنخبة، و نظم الورقات للعمريطي..وكان- حفظه الله- مع انشغاله الكثير- شديد الحرص على حضور الدرس.ما علمته تخلف عن الدرس يوما إلا أن أكون أناالمتخلف.. ويشهد الله: أني أكن لهذا الرجل من المحبة والتقدير مالا يعلمه إلا الله، ولا أنظر إليه، مذ عرفته، إلا بعين التقدير والاحترام ؛ لما يحمله في قلبه من حب عظيم للقرآن الكريم؛ ولما يقوم به من خدمة جليلة لتعليمه الناس، وبثه فيهم ،وإحيائه في قلوبهم غضا طريا ؛ ولما يتمتع به من صوت ندي متميز ،ومهارة عالية في الحفظ والتلاوة والرسم والضبط . لقد كان قدومه إلى مدينة القصر الكبير قدوم خير وبركة ويمن ..؛فقد كان إضافة نوعية متميزة في إحياء التلاوة المجودة، والحفظ المرتل..؛ فهو من أحيا ظاهرة التجويد بالمدينة بعد الفقيه السيد "أحمد المؤذن الحميموني" -رحمه الله- ، وكان له النصيب الأوفر من ذلك، بحكم ملازمته المدينة واستقراره بها منذ أن حل بها.. الرجل، بحق، وهب نفسه لخدمة القرآن ،وآثره على الدنيا وما فيها، وأحب هذه المدينة، وأخلص لها ، رغم أن طلبات الخروج منها، بل ومن الوطن كله، كانت كثيرة ومغرية..! لكنه آثر البقاء فيها؛ ليقوم بمهمة تحفيظ القرآن الكريم خلفا لمن تقدمه. وأمنيته- كما يقول بعظمة لسانه- أن تكون كل بيوت المدينة فيها حفاظ للقرآن الكريم! وهكذا واعد نفسه أن يبقى وفيا لها،معلما للقرآن، وخادما للقرآن، ولا شيء غير القرآن!! إنه -كما أعرفه – لا يحب أن يدرس شيئا غير القرآن وما يتعلق به من علوم الرسم والضبط والتجويد والقراآت. وهذا لا يعني أنه خلو من العلوم الأخرى كالفقه ،والحديث، والأصول..! مخطئ من يظن ذلك! لكن الرجل نذر نفسه للقرآن، وآلى على نفسه أن لا يقحم نفسه في أي شيء غير القرآن.وهو ما كان كذلك. بل، لا يجد روحه وذاته إلا في القرآنالكريم.. ولا أخفيكم سرا – معشر القراء – أني ما سأذكره في حقه من سيرته ،إنما هو غيض من فيض !! أما حياته بالتفصيل فلا تسعها هذه الوريقات، وإنما تحتاج إلى عشرات الصفحات..لكن ،وكما يقال :ما لا يدرك كله لا يترك جله. وإني أحاول أن أنتقي ما أمكن من سيرته ،واقفا مع أهم محطاته التى أراها ضرورية ومفيدة ،مستغنيا عن التفاصيل الدقيقة، والحياة الخاصة ، مما ينبغي أن يطوى ولا يروى.. إني طلبت إليه أن يمنحني سويعة من وقته من أجل استفساره عن بعض المحطات من حياته ، وحتى يكون ما أقوله عنه وأنشره متصلا بالسند العالي المباشر؛فما كان منه -حفظه الله- إلا أن لبى الدعوة سراعا مستبشرا مسرورا ، رغم معاناة المرض ومقاساته. فأخذ منا المجلس يومه الجمعة 20 من شهر ذى القعدة 1441ه الموافق ل11يونيو 2020م خمس ساعات تقريبا ، من الساعة السادسة مساء إلى حدود الحادية عشرة ليلا..وهو يقص علي مسيرته العلمية بالتفصيل الدقيق!! وإن تعجب، فعجب: تذكره كل تلك التفاصيل الدقيقة ، واستحضارها كأنها أمام عينيه!! لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . فلو أطلقت له العنان في الحكي لما انتهينا من محطة واحدة من حياته.. لكن، ولله الحمد، كان مجلسا مباركا متميزا ،فمر بنا الوقت سريعا، وطوانا طيا ، وانتهينا، وقد سمعنا من الشيخ ما يكفي ويشفي ، والحمد لله رب العالمين. فمن هو الشيخ سيدي عبد الله اشتيوي؟ما نسبه وأصله وفصله؟ أين تعلم القرآن؟وكيف تعلمه؟وعلى من ؟ ماهي مسيرته العلمية والعملية بعد حفظ القرآن الكريم، ماهي إنجازاته وآثاره في واقع الحياة؟ على ضوء هذه الأسئلة نحاول أن نتعرف على هذه الشخصية الفذة المباركة.. – نسبه وولادته: – هو الشيخ الفاضل الفقيه المقرئ سيدي عبد الله بن عبد السلام بن علي بن محمد اشتيوي. – رأى النور سنة 1958م بمدشر (النحل) عرباوة. متزوج له أربعة أبناء حفظهم الله له وأقر عينيه بهم. #- حفظه للقرآن الكريم: -التحق بالكتاب بعد السادسة من عمره بنفس المدشر سنة 1964م. وتعلم مبادئ الكتابة والقراءة على الطريقة التقليدية المعهودة على يد الفقيه سيدي محمد الخليفي رحمه الله. قضى معه سنة كاملة في تعليم الحروف الهجائية، والتصلية على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. – في سنة 1965م تعلم الكتابة نصا عل يد الفقيه سيدي عبد السلام بن طاهر، وحفظ عليه القرآن من سورة الناس الى سورة التحريم. – ثم خلفه السيد الفقيه الحسين من "منى صفار" سنة1966م فرأى فيه النبو غ وقوة الحافظة، فلم يلحقه ببعض طلبته النجباء الذين جعلهم في مستوى واحد كعادته، وإنما تركه لحاله، فلم يلبث إلا قليلا حتى فاقهم في الحفظ ،( وستظهر لنا قوة حافظته في بعض المواقف) فحفظ عليه من سورة(التحريم) إلى الحزب (وقال الذين لا يرجون..) . – ثم في سنة 1967م جاء الفقيه سيدي عبد الله الجغدل، (ذكر الشيخ أنه كان رجلا مباركا لا يعرف العنف أبدا، دائم الابتسامة..) كان يمحو اللوح عنده ثلاث مرات في اليوم..(وهذا من دلائل قوة حافظته!).قرأ عليه من (وقال الذين لا يرجون..) إلى سورة النساء. على رأس لوحه، كماذكر، (واللاتي ياتين الفاحشة ..)ثم ذهب الشيخ. وأصاب والده مصيبة الموت ، وعمره حينئذ لا يتجاوز ثماني سنوات..كان ذلك سنة 1967م . وكان لغياب والده أثر كبير عليه، حيث كانت أمنيتة -رحمه الله-أن يحفظ ولده القرآن الكريم، وكان قد أعد له لوحا جميلا، وأقلاما ودواة.. لكن القدر لا يترك أحدا لهواه..واستمرت الجنازة شهرا كاملا..لمكانة أبيه من قومه ، ومدى معرفة الناس به.. – ثم التحق بمدشره إماما الفقيه سيدي المختار الحمدوني من نفس المدشرسنة 1968م، فكان مكتوبا على رأس لوح ولد الفقيه (بهاواستكبرت وكنت من الكافرين) وكان سيدي عبد الله يقرأ مع ولده من هذه الآية ترقيا الى حيث ينتهي لوحه.ثم يقرأ من الآية نفسها تنازليا إلى سورة الناس .فأعجب الشيخ به! وأذهله سرعة حفظه وقوة ذاكرتة! فطلب من أمه أن تدعو له بالحفظ من العين… وأنه سيفتح له ..فختم على يده القرآن (السلكة)، بالربع ..ثم أقام بهذه المناسبة حفلة عظيمة،بالدجاج البلدي ، والفتات والطعام.. والكل فرح به مستبشر بحفظه. كما ذكر حفظه الله وشفاه..ولو كان والده حيا لذبح بقرة..، لكن وللأسف، لم يكن، والحال ضعيفة، ففعلت أمه ما في وسعها.. – ثم بدأ السلكة الثانية فتركه الشيخ في سورة النساء والتحق بالتعليم، فجاء بعده الفقيه بن أحمد بن الخليفة الملقب بن"الميمونية" ولد عمه ..، كان -حسب ما ذكر الشيخ – تقيا مباركا عارفا وموجها ، على يده حفظ منظومة المرشد المعين .للإمام ابن عاشر.فبدأ معه "السلكة" من "البقرة" إلى "الناس" ثم ذهب .. – في سنة (1969) جاء الفقيه السيد محمد بن لحسن الملقب ب(بن الشميمي) من الحومة الثانية من المدشر، فبدأ عليه السلكة الثالثة ب"النصف" فتعجب منه قائلا : أنت تكتب النصف؟! قال نعم . فلما وصل الى قوله تعالى: (ليس عليك هداهم..) وضع له نصا يتعلق بكيفية قراءة وضبط كلمة "اوتمن" من قوله تعالى: (الذي اوتمن أمانته) فقال: أوتمن كلمة قط وألفها نقط ياساداتي من وسط وبالواو محمولا والشكل من أسفله تبع الذي يليه واليا عقص من قبله بالصيغة قد قرا وكان هذا أول نص تلقاه من هذا الفقيه في تصفية القرآن : طبطا ورسما! وسيدي عبد الله كان يحفظ كل ما تقع عليه عينه من النصوص المتعلقة برسم القرآن وضبطه. وأخبرني: أن له دفاتر كثيرة ملأى بالنصوص المتنوعة في مجالات الرسم والضبط وتصوير الهمز وغيرها… – ثم جاء ولد عمه محمد بن محمد بن علي اشتيوي. وكان عزيزا على أبيه. فطلب إلى أمه أن يأخذه معه ليقرأ عليه، ويهتم به..فأخذه معه إلى مدشر (اولاد بوعلي) قرب سيدي سليمان، حيث كان إماما هناك. سنة 1969م .. ثم في السنة الموالية أخذه معه إلى مدشر (اولاد معمر) وخلال هاتين السنتين عاش أنواعا من الضيق والنكال بحيث كان بعض الطلبة لا يمكنونه من حفظ الأنصاص المكتوبة في ألواحهم حقدا وحسدا وعدوانا.. وكان معظم وقته يستغل في أمور تافهة …الغرض منها إبعاده عن حفظ مايتعلق بنصوص القرآن رسما وضبطا.. كانت مرحلة نكدة قضاها بصبر واحتساب لله رب العالمين..لأنه كان بين المطرقة والسندان..ولا حيلة له..وهل للعبد مع سيده اختيار؟! – بعد ذلك رجع إلى مدشره وأقام به مدة يساعد إمام المسجد الفقيه سيدي أحمد الكرفطي، ويقوم له بمهمة التراويح وغيرها..وكان هذا الفقيه يتعامل معه طلبة المدشر بمنتهى الأدب . كان من أحواله في هذه الفترة أنه يبدأ الختمة ليلا ، وحين يأتي الطلبة يستمع لهم ويفتي لهم،ويصحح ألواحهم..، ثم بعد ذلك يكمل ختمته.. في كل يوم وليلة ختمة !! وهكذا ظل حتى أتاه ابن عمه: محمد بن أحمد بن علي اشتيوي فذهب به إلى الفقيه السيد عبد السلام الخمسي بمدشر (مزوفرون) قبيلة مصمودة .وكان هذا الفقيه – حسب ما ذكر الشيخ- فقيها، نحويا، وفرضيا،.. والسيد عبد الله صغير لا يعرف ما يصطلح عليه "بالتخنشة" ،فلما وصل إلى الشيخ لم يطلب الإذن منه، فكتب لوحه، وذهب به إليه ليصححه.. فقال له الشيخ: من أنت ؟ ومن رتبك؟فقال له: ابن عمي..وكان لابن عمه علاقة طيبة بالشيخ، فلما جاء ابن عمه، وقال :أنا الذي رتبته! قال الشيخ : مرحبا به وبمن رتبه! بل (حتى جرو ديال النحل إذا رتبته فهو مرتب )!! . فلما أخذ الشيخ في تصحيح لوحه وجده مصفى لا شية فيه ! فقال مستنكرا : لم تكتب ياولدي من المصحف؟ حسب زعمه .فقال : أنا لا اكتب من المصحف . فقال الشيخ :لنر غدا ! فلما كان الغد : كان اللوح كما وجده الشيخ أمس! فتدخل ابن العم وقال : إنه لا يكتب من المصحف ، ولكن عطاء الله كما ترى! بعد ذلك قسم الشيخ طلبتيه قسمين: قسم يصحح له السيد عبدالله ولا يصحح عند الفقيه، وقسم آخر يصحح له السيد عبد الله ،ثم يأتي الشيخ ليضيف لهم ما يخصهم من قواعد الضبط والرسم والتجويد.. .وصار السيد عبد الله محترما عند الفقيه، وأولاه عناية خاصة ، وأحبه حبا شديدا .. وكان السيد عبد الله يخدمه بما تعنيه الكلمة من معنى ،فكان يحمل متاعه إلى بيته.. حتى جعل الشيخ له مكانا خاصا في بيته، وكان يقول لزوجته (فاطمة): إن هذا ابنك. سواء أكنت حاضرا أم لم أكن.. وقد استفاد سيدي عبد الله من هذا الشيخ كثيرا من النصوص والفوائد، وكان يمتحنه فيما يمنحه منها! وكان -رحمه الله – يفرح كثيرا ويزداد له حبا، عندما يجده حافظا لكل تلك النصوص التي منحه، واعيا لها وعيا تاما! قضى معه سنتين حافلتين بالعطاء..1971/1972م – ثم بعد ذلك ذهب إلى الفقيه السيد عبد الله الأكحل ذي القلب الأبيض ليرتبه، فقرأ عليه أسبوعا فقط ، فضاق به صدرا بعض الطلبة بباعث الحقد والحسد .. فغادر في لطف ولباقة ،وإن كان الشيخ قد ألح على بقائه وقرر الذهاب بذهابه.. ثم التحق بالشيخ الفقيه محمد الدماغ ب"عين مشالو" كان هذا الفقيه متمكنا جدا في الرسم والضبط سمي بالفقي الدماغ" فكان كاسمه معنى ودلالة..فقضى معه يوما تبرك به، ولم يتأت له الدراسة عليه لاستفاء سنته.. فدعا له الشيخ ثم غادر.. -ثم انطلق مع أحد الطلبة السيد عبد الله المريني إلى الشيخ السيد عبد السلام بن عيشة فاعتذر له الشيخ لكثرة الطلبة ، وقلة المعروف ، ثم قبله بعدما تعرف عليه أنه من (النحل) فمكنه من بيته، وأعطاه نوبته ،وأمره بتدبير أموره .. وذلك بمدشر(بوقية) بقبيلة بني مسارة. فافتتح الختمة (السلكة)عليه من "الرحمان" ،(وكان خط الامام غاية في الجودة والحسن ،يشبه خط الشيخ محمد الأمين بوخبزة- رحمه الله- حسب ما ذكر لي) فلم يلبث: أن وجده مصفيا لوحه، حتى ظن أنه ينقل من المصحف! فلما تبين له أمره ، وعلم أنه متمكن من الر سم والضبط،شرع معه في حفظ "مفتاح الطالب " (نظم في أنواع المدود وأحكامها) ثم في دراسة "الرمزية" في القراءات.(وهي أسلوب في تعلم القر اءات بالجمع يصعب على الطالب حفظه واستعابه، أسلو ب اخترعه المغاربة لا يعرف عنه المشارقة شيئا). وهو ما كان معتمدا في تلك الفترة. فكان السيد عبد الله يحفظ دون أن يفهم ما معنى الرمزية..!وخاض فيها خوضا كاد أن يجن جنونه حتى صار يهذي بها في النوم واليقظة!! فلما ثقل عليه الأمر، اعتذر إلى الشيخ، وقال: لا أستطيع الاستمرار في هذا الطريق..فقال له الشيخ: أنا حفظتها -بعدما خلصت القرآن رسما وضبضا- في عشرة أعوام..!! فما كان من السيد عبد الله إلا أن جدد اعتذاره. وتأسف تأسفا شديدا ،لما لم يجد من يرشده ويوجهه لحفظ الشاطبية وطيبة النشر وغيرها من المتون الخادمة للقرآن أو للعلوم الشرعية والعقلية!! الرجل كان يتمتع بذكاء حاد وحافظة قوية. لكنه ، لم يجد من يوجهه الوجهة الصحيحة، وظل يكابد هذا الطر يق الوعر وحده ، متصلا بكثير من الشيوخ ، متبادلا معهم المعارف والمعلومات .. وقد التقى أثناء مشارطته كثيرا من شيوخ القراءات. فمنهم الشيخ السيد "ابن عللو" والشيخ السيد "بوصخور "، والشيخ المشهور ب"الفقيه القبي". كان هذا الفقيه، حسب ما ذكر، رجل العلم والقراءات ، والتأليف..والشيخ السيد ابن العربي عم الشيخ السيد بوصخور، قال عنه :كان رجلا جديا ومجذوبا في القراءات. كذلك التقى بأحد الطلبةمن هيئة"العدول" لم يذكر اسمه، فاستفادمنه كثيرا في مجال القرآت،وكان حمزاويا (يعني متمكنا من مقرأ حمزة) ثم التقى بعد ذلك بكثير من الشيوخ المبرزين في هذا الميدان كالشيخ" حميتو". الذي كانت له مكانة خاصةعنده. وقد سئل الشيخ "حميتو" يوما عنه في إحدى اللقاءات، فأثنى عليه ثناء حسنا جعل من السيد عبد الله يذرف الدموع لا يتمالك نفسه.. وقد ذكر لي أنه كان يمضي معه ليالي بيضاء في المذاكرة في القرآن وعلومه، خلال الأيام التي كانت تجمعهم بصفتهم "حكاما" في لجن التحكيم لمباريات التجويد والحفظ..التي تقام بالبلاد.. وكذلك استفاد من الشيخ صفاء الدين الأعظمي العراقي، صاحب القراءات والمقامات ، وقد أجازه رحمه الله بسبب تصحيح كلمة له، وغير هؤلاء كثير.. وهكذا واصل دربه حتى علا كعبه في ميدان القراءات ؛فهو يحفظ كثيرا من المنظوات في ميادين مختلفة، في الفقه والنحو والأصول والقراءات..ومنها نظم ابن بري، وقد درسه كثيرا وما زال.. ،ويحفظ متن الشاطبية ويدرسها سنين عددا بمدرسة "سيدي عبد الجليل القصري"..حتى أقعده المرض. نسال الله له الشفاء العاجل. #-طلبه للعلم: بعد هذه الرحلة الطويلة في القرآن الكريم والقراءات، شرع في تلقي العلوم الشرعية ،فكان أول محضن له في ذلك: مدرسة "عين السمين" بقبيلة آل سريف ، سنة1980/1979م . فقرأ على الشيخ المؤسس السيد أحمد الحميدي خريج القرويين. المواد التالية: – الفقه (متن ابن عاشر بشرح ميارة) – النحو: الأجرمية بشرح الأزهري، والألفية بشرح المكودي . ولم يمض أكثر من خمسة أشهر أوستة حتى توفي الشيخ. وكانت وفاته عجيبة! يحكي الشيخ سيدي عبد الله أنه كان حاضرا هو وبعض طلبته عند وفاته.. ، فبعدما أوصاهم الشيخ بالعلم والعمل والصبر على تلقيه ومراجعة الدروس حتى يفتح الله ، أمرهم بقراءة سورة ياسين جميعا ، وبعدها أخذ يردد كلمات في نفسه حتى فاضت روحه إلى بارئها سبحانه. كان الشيح أحمد الحميدي- حسب ما ذكره سيدي عبد الله – رجلا ربانيا محبا للعلم وأهله.وكان لسيدي عبد الله مكانة خاصةعنده.وكان هو يحبه كثيرا ويسعى في كل ما يرضيه، حتى أنه كان قبل موته قد هيا له جلباباعظيمة خاطها بيده خياطة رفيعة، وأهداها له راجيا أن يراه يمشي بها أمامه ! و كذالك كان! في هذه الأشهر القليلة كان السيد عبد الله قد قطع أشواطا بعيدة في فهم الدروس استغرب له من جاء بعد الشيخ من أبنائه ! ثم استمر في الدراسة على ابن الشيخ السيد عبد السلام الحميدي سنة كاملة، وقع إثرها ما يدعوه حتما للرحيل.. ثم شد الرحال إلى مدرسة "خندق الزرزور" بطنجة ليتلقى العلم عن الشيخ الفقيه الأصولي النحوي السيد" عبد العزيز المرابط". قرأ الشيخ عبد العزيز على العلماءالصديقيين ،و على الشيخ الجردي، وعلى الفقيه سي عبد الرحمان..وغيرهم .كان مشهورا بالحفظ والفهم الثاقب . ومن تلامذته الشيخ" مرصو" والشيخ "حمامو" وغيرهم كثير.. قضى معه السيد عبد الله سنة ونصفا قرأ عليه فيها ما يلي: – في الفقه : متن ابن عاشر، بشرح ميارة. -وفي مصطلح الحديث: "البيقونية" و"نخبة الفكر" – وفي التفسير : غير مقيد بكتاب. لكن كان يعول على تفسير ابن كثير كثيرا . -وفي أصول الفقه: الورقات، ومفتاح الوصول، وجمع الجوامع. -وفي المنطق : متن الأخضري بشرح القويسني.. كانت العلاقة التي تجمع السيد عبد الله بالسيد عبد العزيز المرابط علاقة قوية، حيث كان يأتيه بيته ويأكل معه ويشرب ..كاحد أفراد البيت، بل يسرد عليه كتبا خاصة ، وما يهيئه الشيخ للطلبة من الدروس، ويخرج معه الى المدينة.. ،فكانت صحبتهما تتجاور حدود الدراسة إلى الخلة الخاصة.. #- أعماله وآثاره: بعد حفظه للقرآن الكريم حفظا تاما قام بمهمة الإمامة والخطابة، وهو صغير : ابن سبعة عشر سنة . – فكان إماما بمدشر (اولاد بن الذيب ،مسجد السنة ) قرب المساعدة،قيادة سيدي سليمان آنذاك، سنة 1975م.وكان هذا اول شرط له. – ثم في سنة 1976م ألح على شرطه وإمامته جماعة مدشره(النحل) مستعينين بأمه عليه ! فما كان منه إلا أن استجاب ، وقام بمهمة الإمامة على أحسن ما يرام. واستطاع بحنكته أن يزاوج بين كونه شيخا وصديقا لطلبة المدشر الذين كانوا بالأمس يقرؤون معه، واليوم عليه ،رغم صعوبة الموقف. لكنه تجاوز العقبة بمرونة وذكاء.. – ثم انتقل إلى مدشر (البراقين) إماما، ومدشر (أولاد مصباح خطيبا). قضى هذه المدة معهم في نعمة وعافية. – في سنة 1983م صلى التراويح بمسجد الفتح بالقصر الكبير. -ثم توجه الى الرباط ليحيي ليلة السابع والعشرين من رمضان حاملا معه "منهاج المسلم"،فإذا ب"الكار" يقف عند"علال التازي" وشاء الله أن يحيي تلك الليلة في مدشر( التباندات ) الذي كان فاقدا للإمام من مدة، بواسطة بعض تلامذته(الكوميسير،والفلاقي) وبحكم كونه صغيرا لم يلق في تلك الليلة المباركة اي احترام وتقدير من كبار أهل القبيلة وفقهائها وطلبتها،إلا فقيها واحدا سلم عليه، ورحب به..وحز هذا في قلبه.. لكن بعد الشروع في التراويح أدهش الجميع، وصغر أمامه كل اولئك الذين تعالوا عليه ابتداء وافتضحوا انتهاء،ولم يستطع أي واحد منهم أن يصمد وسط المحراب،..فكان يقودهم كما تقاد الدابة من خطامها.!! فندموا على ما فعلوا ! وأكبروه حينئذ أيما إكبار..!، وألحوا عليه أن يكون إمامهم، وليطلب ما يشا!!فبعد أن علمهم الأدب والاحترام قبل المشارطة بشروطه ..فقضى عندهم ثلاث سنوات ،أقبل عليه الطلبة خلالهامن كل ناحية. ثم أمرالجماعة باصلاح المسجد، وتوسيعه، وبناء مرافقه ، وحياطته بسياج عظيم يحول بينه وبين من كانوا يقتلون أوقاتهم فيه في القمار واللهو.. ثم عمل على تطهير المدشر من كل البدع والمنكرات التي كانت تمارسها الطائفة العساوية..بدعوى الشرف والولاية.. وذلك باستحواذه على قلوب شباب أبنائها وتعليمهم الدين الصحيح من خلا ل الخطب والوعظ والإرشاد، حتى صار الجميع يحبه ويفتديه بما يملك..وهذا إنجاز عظيم،يحسب له؛لأنه قلما يقدر على ذلك الفقهاء الذين يعانون من الطرقية المسيطرة في المداشر والقبائل.. – ثم بعد (التباندات) شارط في مدشر(السواسين) من علال التازي ،قضى بها سنة كاملة، ثم مدشر (اولاد عبد الله في الزاوية..) ثم في مدشر (المناصرة )وطهرها كذلك من بدع الطرقية وخرافاتها،كما صنع مع (التباندات).. – في سنة 1988 صلى الترا ويح ثانية بمسجد الفتح بالقصر الكبير. بعد رمضان جاءته جماعة (التباندات)، وألحوا عليه أن يرجع اليهم إماما وخطيبا، ولن يقصروا في واجبهم نحوه..ولم يجد بدا من أن يطاوعهم ويلبي رغبتهم..فقصى معهم أربع سنوات، كلها جد واجتهاد وعطاء.. ثم تزوج ثانية بعد طلاقه الأولى، وكان يفكر في الاستقرار بالمدينة.فبينما هو في مسجده بالتباندات، قائما بمهمته، إذ أتاه زمرة من وجهاء جماعة (الدعوةوالتبليغ) ،منهم السيد لحسن التفاحي، و السيد عبد الله الصرصري و السيد الأشهب في آخرين .. فوجدوا المسجد مملوءا عن آخره بطلبة القرآن، وأن الجو مفعم بالحب والإكرام.. فكبروا الله وحمدوه على هذه النعمة العظيمة..، ثم طلبوا إليه أن يكون محفظا للقرآن الكريم بمسجد( الفتح)، وأنهم لم يجدوا أفضل منه للقيام بهذه المهمة، وألحوا عليه إلحاحا ، وواعدوه بقدر مالي مناسب..وأنهم سيضاعفونه له إن نجح المشروع.. وبما أن هذا العمل سيكون بمدينة القصر الكبير، وهو بعد الزواج كان يفكر في الاستقرار بالمدينة..، فما كان منه، بعد طول تفكير، إلا أن يوافق.. وتفاءل خيرا .. اعتذر لأهل (التباندات) ولجميع الطللة، ورجى أن يأتي الله لهم بمن هو خير منه..، فكان الفراق مؤلما ، والحزن يعلوا محيى الجميع.!ولا حول ولا قوة إلا بالله! -في سنة 1994م التحق بمسجد الفتح، فبدأ العمل، وقضى معهم حوالي سبعة أشهر، حفظ عليه خلالها ماشاء الله من القرآن كثير من أبناء رجال الجماعة وغيرهم. وشاء الله أن تتبخر تلك الوعود، و يصبح أمر الدراسة يقرر خارج المعني بالأمر، ويتطاول على طلبته.. مما دفع به إلى الانسحاب بعد الاعتذار.. -ثم جاءه السيد حسن أودبجي الصيدلي، والسيد أحمد شقور رحمه الله في آخرين …وطلبوا اليه أن يكون إمامهم بمسجد القدس الذي كان حينئذ في طور البناء والإعداد ، سبعة أشهر تقريبا قبل إتمام المسجد. طلبوا إليه أن يستقر في بيته ،وأن لا يشارط في أي مسجد آخر،وأن راتبه الشهري سيتقاضاه من الآن.وكذلك كان. حتى شرع في مهمة الإمامة سنة 1995م.15 جمادى الأخير . وظل ينشط في هذا المسجد بتحفيظ القرآن الكريم، وتعليم التجويد والقراءات من هذا التاريخ إلى أن أقعده المرض سنة 2019م وأوكل مهمة الإمامة لتلميذه عزيز الجزولي، وولده معاذ.. وبالإضافة إلى أنشطته المسجدية، كان ينشط خارج المسجد ؛فدرس علم التجويد سنتين بمؤسسة الفرقان للتعليم العتيق بالقصر الكبير، ودرس مقرأ نافع،(منظومة ابن بري) والشاطبية بمدرسة سيدي عبد الجليل القصري بنفس المدينة ، من 2009 إلى أن أقعده المرض بداية الموسم الدراسي 2019/2020. #-تلامذته: تخرج على يديه أفواج من أهل القرآن : ذكورا وإناثا، لا يمكن حصرهم بحال من الأحوال!! كيف والرجل قد قضى ما يقرب من 45 سنة إماما في المساجد يعلم القرآن للناس ويبثه فيهم؟!! 20 سنة في البوادي والقرى، و25 سنة بمسجد القدس داخل مدينة القصر الكبير..!! ويكفي أن نذكر طرفا من تلامذته ،حسب ما يحضرنا، وخصوصا من هم من هذه المدينة المباركة. فمنهم السيد محمد البدري -رحمه الله-كان إماما بمسجد النور، ثم انتقل إلى فرنسا ،ثم بلجيكا..وأخوه بوسلهام البدري. إمام ببلجيكا مكان أخيه، والسيد عبد العزيز المريني إمام ببلجيكا أيضا، والدكتور عبد الله التوراتي، والدكتور سلمان الصمدي، والمرشد عمر فزاز، والمرشد مصطفى السرومي، والسيد محمد يوسف، وعبد الله الدودي رحمه الله، و اخوه عبد النور الداودي إمام، وموسى الكنوني..، وعبد اللطيف الأشهب وأخوه محمد.ومعاذ بوشريف، ومحمد الصحراوي هو الآن في ضباط الصف بالناظور.. ومن النساء:السيدة نادية الشليخ أستاذة بمدرسة عبد الجليل القصري،وفاطمة الحراق ،وشيماء الحراق، (دكتورة)، ونادية الإبراهيمي، والأستاذة فاطمة شقام وغيرهم كثيرجدا جدا .. هؤلاء على مستوى المدينة، أما من قرأوا عليه في البوادي والمداشير فلا يعلم عددهم إلا الله.!! #- بزوغ نجمه وطنيا وعالميا: في تسعينيات القرن الماضي بزغ نجمه وطار صيته وطنيا وعالميا، وذلك بمشاركته في عدة مباريات ومسيرات قرآنية ، كان له قصب السبق فيها. – ففي سنة 1993م تمكن من الفوز بجائزة الحسن الثاني في حفظ وتجويد القرآن الكريم. – وفي سنة 1997م انتقي بعد مباراة وطنية للمشاركة في المسيرة القرآنية التي تبثها القناة المغربية الأولى.. – وفي سنة 1999 م انتقي كواحد من مشاهير القرآن في العالم،واستدعي لحضور الدروس الحسنية التي تلقى بحضرة أمير المومنين.. – في سنة 2000م عين رئيسا للجنةالتحكيم في حفظ وتجويد القرآن الكريم على الصعيد الوطني، على قناة السادسة، وكان من أعضاء اللجنة الدكتور "احميتو"، وعبد الله القصار الفاسي.. – ثم عين كذلك رئيسا للجنة التحكيم في مباراة "محمد السادس" لحفظ وتجويد القرآن الكريم..وكان من أعضاء لجنة التحكيم السيد العيون الكوشي ، واعتذر الشيخ عمر القزبري، فعوضه شخص آخر(دكتور) من مراكش.. – في سنة 2003 أو 2004 صلى التراويح خارج المملكة المغربية ببلجيكا..ثم بعدها قرر أن لا يقيم التراويح خارج البلد أبدا ، بل أصر أن يقيمها داخل بلده وفي مسجده، حيث يقيم. – قد عرف مسجده (القدس) لسنوات طويلة حشودا غفيرة، تقصده من كل حدب وصوب، لصلاة التراويح وراءه .. ومنذ أن أقعد المرض صاحبه عن المهمة، لم يعد للمسجد ذلك الحشد ، وذلك الصيت، وذلك العطاء..وهذا إن دل ، فإنما يدل على أن المسجد يعظم ويعطي ويقصده الناس، بقدر عظمة وعطاء صاحبه، ويضعف ويقل عطاؤه بقدرضعف صاحبه…نسأل الله تعالى أن يعيد للمسجد حرمته ومكانته كما كانت في عهد صاحبه الأول .إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير .سبحانه! #- من طرائفه: طرائفه كثيرة،ولا يتسع المقام لذكرها كلها،ولذا سأقتصر على واحدة منها، هي عبارة عن حدث جرى بينه وبين الشيخ سي" منصور بيضو" في مدشر المناصرة.. كان هذا الأخير يدعي المهارة في القرآن (التقشقيشة) ، وكان يأتي المسجد يوم الخميس، ويصحح الألواح بدون إذن، ويكتب بعضها ..ويوما ما صنع له طالب نبيه يدعى (محمد الخلادي) فخا جعله يصطدم مع السيد عبد الله. طلب إليه أن يكتب لوحه لعذر ألم به.. ، ثم أتى به الى السيد عبد الله ليصححه دون أن يعلمه بما يجري.فقام السيد عبد الله بالتصحيح على نيته وسجيته، فوجد في اللوح خطأ فادحا لا يرتكبه الطالب العادي في القرآن، وربما كان عن غير قصد..، وكان هذا الخطأ متعلقا بكلمة "قل اني" من قوله تعالى (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم )من سورة الأنعام. وجد الشيخ سيدي عبد الله تحت الألف نقطة وصل كبيرة، (ونقطة همزة الوصل من النقط المتوسطة في الرسم والضبط؛فالنقط عند علماء الرسم والضبط درجات : صغرى، وسطى، كبرى).والهمزة نقلية، أعني هي في الأصل قطعية، ثم نقلت حركتها إلى الساكن الصحيح قبلها، فحذفت الهمزة وجيء بحركة كسر علامة على النقل..فصححها سيدي عبد الله بحركة كسر أخذت من اللوح عرضه.. صححها وهو يقول للطالب الخلادي :(اليوم غد ندرليك ادوازة ديال السي الفقي الزرقي )، وهو يظن أن الخطأ خطأ الطالب، لا خطأ الفقيه "بيضو"لأنه لا يعلم ما يجري، والطالب يقول له كيف هي السي (ادوازة ديال الفقي الزرقي) ؟ فيقول له : (الفتحة قدى قد القرطة اللارز)!! والمثير للأمر أن ذلك الطالب كان يتململ من شدة الضحك..والسيد عبد الله يسأله: ما الذي يضحكك؟! فلم يبح له بالامر، حتى جاء الشيخ "بيضو" ووجد تلك "الخسارة" كبيرة جدا حطمت من معنوياته، وأظلمت الدنيا في وجهه!! كيف وهو يعد نفسه على رأس الفقهاء ب"التقشقيشة"، ولا يقعقع له بالشنان؟! وفي ذلك الوقت كان من العار والشنار أن يكون الفقيه ضعيفا في رسم القرآن وضبطه، ولا يرضى إطلاقا أن يوجد خطأفي لوحه،حتى ولو كان عن غير قصد..(وهذه الحال تعكس واقعا مريرا كان يعيشه الناس آنذاك وأهل القرآن خصوصا!! فبعضهم أقسم باليمين: لئن وجد في المصحف خلاف ما يقول هو، في كلمة تنازع فيها مع غيره، ليحرقنه!! فلما نظر في المصحف ووجد الحق مع صاحبه قام وأحرق المصحف.!! أي جهل هذا وأية حماقة هذه.. !! لكنه الواقع!! ) لنعد إلى القصة..فلما وقع ما وقع والشيخ "بيضو" مشهور، وقد وقع في هذه الورطة، اخذ يفكر في رد الاعتبار لنفسه، ففي الغد، ولعله كان يوم خميس، عند صلاة المغرب جاء الشيخ بيضو شاحبا وجهه مقطبا جبينه ،وأخذ مكانا خاليا من المسجد، بعيدا عن مكانه المعتاد ،والحزب المقروء الليلة "طه"، فبعد صلاة المغرب ، وهو لم يصل معهم، وإنما صلى وحده، افتتح الشيخ السيد عبد الله الحزب، بتلاوة هادئة ، كالمعتاد من قراءته. وبمجرد ما انتهى منه قام الشيخ" بيضوا" مزبدا ومرعدا، قائلا للشيخ :كيف تقرأ "طه" ؟ قل لي كيف تقرأ؟ فأخذ السيد عبد الله من نفسه ،وقال في تواضع :أنا -ياسيدي- لا اعلم ! أرني انت كيف تقرأ ؟ فقال الشيخ" بيضو" هي كبرى (طاهي) (وقرأها بكسرة خالصة) !! وهكذا أخذناها من الشيخ السيد بوصخور!!فبعد هذا التطاول المفاجئ، وسوء ألادب ،رد عليه السيد عبد الله قائلا: معاذ الله أن يقول الشيخ بوصخور هذ ا! اناأعرفه جيدا،وحفظه الله من هذا البهتان ..والله "ياسي بيضو" لوقلت لي حقيقة الإمالة الكبرى أو الصغرى، لسلمت لك شرطي كله ،وأترك لك المسجد وأهله..! فبهت ولم يحر جوابا!! ثم أعلم الجماعة بأنه قد انتهى عمله من الآن، وأمرهم أن يجمعوا له شرطه..وغادر إلى حال سبيله. فبعد هذا الحدث سخط الجميع على الشيخ "بيضو" ونفروا منه واشمأزوا منه. وندم هو على ما صدر منه أشد الندم، وظل مغموما مهموما لا يلوي على شيء.متمنيا أن يلتقي به ثانية ويعتذر إليه اعتذارا.وشاء الله أن يرجع السيد عبد الله إلى (المناصرة) ليأخذ شرطه،بعد أسبوع أو أسبوعين، فإذا برجل يبحث عنه ليحكي له حال الشيخ " بيضو" ومدى تضهورها جراء ما حصل، و قد أقسم لو أنه تصالح مع الشيخ عبد الله لذبح لأهل مدشره كبشا "يزردونه"،ليكفر به عن خطيئته! فقال السيد عبد الله :انا هو ذاك، ولا مانع عندي ، فذهب اليه،..فلما رآه الشيخ "بيضو" تفاجأ ولم يتمالك نفسه حتى انحنى على رأسه مقبلا ومعتذرا.. وكان من جملة الطرف في هذه القصة أن قال هذ الشيخ للسيد عبد الله بالدارجة: ( انا سحب لي القرآن ماشي فحال فحال ساعة انت عندك القرآن فحال فحال)..!!!ههههه.. والخلاصة -معشر القراء – أن الشيخ الفقيه سيدي عبد الله اشتيوي رجل مبارك خصه الله بالقرآن فتعلمه وعلمه، وأفنى فيه عمره،وصدق فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" فاكرم بها من خيرية وأنعم!! فنسأل الله العلي القدير أن يمتعه بالصحة والعافية ،وأن يحقق أمنيته، وأن يجعل خاتمته حسنى، وأن يجعله غدا يوم لقائه مع السفرةالكرام البررة.آمين والحمد لله رب العالمين..