لكل من عرفتهم – في المهجر – قصة لها غرابة وطرافة وكذا مآسي وأفراح و أسرار. أول ما راقني هناك، هو أن يحكي المهاجر قصته ويُقَدمها كبطاقة هوية؛ ولا ينسى ذكر المدينة أوالقرية التي جاء منها ثم أ"عربي" هو؟ أم "ريفي"؟ "جبلي" أم "سوسي"؟ … ومن ينخرط في هذه اللعبة لابد أن يقبل شروطها، الشيء الذي يوحدنا جميعا هو الغربة؟ أنخفي بهذا الأمرنصرية كنا نجهل مصدرها ؟ أو لأنه فقط يُسهل التواصل بيننا بحكم اللهجة والعادات والتقاليد التي تميز فسيفساء بلدنا ؟ معظم قصص المهاجرين بنفس المقدمة: عبور صراط الحصول على الجواز؛ ثم يوم مغادرة الوطن مع رحلة العبور؛ يأتي بعدها، العيش في المهجر وكخاتمة: إنتظار العودة إلى أرض الوطن معززا مكرما أو في صندوق في معظم الأحيان . وهذه إحدى تلك القصص: كان أحمد أول صديق عرفته في المهجر؛وكمعظم المهاجرين، قدم من الدوار وهو الإبن الأكبر لأسرة فقيرة. يحب طامو إبنة جيرانهم و بهذا لم يخرج عن المألوف والأسهل: محبة الجيران وهذا أقل واجب نحو الجيران، لكنه تمنى أن يتزوجها. أرغمه من كاد أن يكون كفرا على العمل في ميناء المدينة… لكن أجرته بالكاد تكفيه لمساعد أسرته فكيف يوفر مهر حبيبته؟ كعادته خلال الصيف، كان يحب مراقبة عودة المهاجرين بالباخرة؛ من "ألمرية" وبعدها يستقلون سياراتهم التي تشكوا من حمولة فوق طاقتها فتلعن اليوم الذي صُنعت فيه. لكن هذه المرة، حلقت به الفاقة إلى ما فوق مدركات الحواس فرأى أن حمولة سيارة واحدة تكفيه لمشروع تجاري، ومهر الحبيبة، وما يعول به أسرته، وكذلك هدية لفقيه الدوار … وزيادة و… لم يدر كيف تمكن من الهجرة إلى أوروبا ورجع يسوق سيارته المفضلة "كولف" محملة بالهدايا والعطايا ومستلزمات الخطوبة، فوجد حبيبته في إنتظاره وفي يدها ذلك المنديل الأبيض الذي أهداه لها قبل مغادرته المغرب. دوت صفارة الباخرة المُغادرة نحو اسبانيا؛ فاستيقظ أحمد من حلمه وسوت أحلامه أرضا، فتبخرت السيارة وما فيها. حملق فيمن حوله ولم يرى سوى ذلك العدو المسمى الفقر و الذي يبادله نفس الكراهية ( لأنه يريد الفرار منه)، فصاح في وجهه: "إرحل. ماذا تنتظر؟ كلمات الطرد هاته هزت كرامته ورفعت من دبدبات موجات عقله فتعطلت بوصلته واستقرعقربها جهة أوروبا؛ صم سمعه وغشي على بصره، وأصبح يردد وبإلحاح على نمط أسطوانة مشروخة سئمَت من سماعها كل الأسرة: – أريد الذهاب إلى بلجيكا عند إبن عمي . لم تجدي معه كل الأعذار للتخلص من هذا الفقر الذي يلازمه ويردد على مسمعيه: أخرج؛ لكن هل يسمع ؟ ظن والده أنه أصيب بمس، وقرر أن يرقيه عند الفقيه. فما أن سمع أحمد ذلك، حتى اصفر لونه وشل لسانه، ولاذ بالصمت، ثم أدار رأسه في حركة عنيفة من اليمين إلى اليسار معلنا رفضه لحل والده للأزمة. أتراه يخاف من الرقية أم من الراقي؟ في هذه اللحظة التفت الأب إلى أم أحمد قائلا: – أرأيت، ما أن ذكرت له الفقيه حتى عاد إلى رشده؛ إنه رجل مبارك. حقا مبارك وكيف لا؟ فهو إمام ومدرس، خياط وقاضي، راق وخاتن الأطفال…ويخرج من الأجساد الجان بالمجان. الفقيه هو خزينة أسرار أهل القرية ويعرف حتى سر الصديق. فخاف أن يفشيه لوالده، وتذكرحينها أنه نصحه مرة بلهجة حادة أن يبتعد عن طامو أو يتزوجها. نظرت أم أحمد إلى ولدها وقد رق قلبها لحاله: – نم يا ولدي فلديك عمل غدا إن شاء الله. نام أحمد… فرُفعت عن عينيه الحجب؛ ووقف أمام الفقيه مطأطئ الرأس حتى كاد ذقنه أن يخترق صدره. أما والده فقد تسمر في مكانه على هيئة قديس، وبإجلال يحكي للفقيه هوس ولده وهو أعلم به منه، لكن لحكمة لا يعلمها الوالد قاطع كلامه وسأل: – ما بك يا ولدي؟ رفع أحمد رأسه فرأى الفقيه شاهرا سيفا حادا، فما كان منه إلا أن انكمش لكي يتحمل ألم الضربة وتفارق روحه جسده بدون ألم. التفت نحو أبيه فوجده مستعدا لسماع الحكم الذي سيصدره الفقيه. عرف أن مصيره قد أصبح بعد يد الله بيد الفقيه. اللحظة الأخيرة قد تغير مجرى حياته. في استحياء واستعطاف صوب نحو الفقيه نظرة حَمَلت ما بداخله إلى ما بداخل الفقيه وقال متوددا: – أريد السفر إلى بلجيكا عند إبن عمي. إستدار العارف بالله نحو الأب وأمره بأن يأذن لولده بالسفر، ثم همس في أذن أحمد: – "كن رجلا و ….". فما كان منه إلا أن قبَّل يده تبركا وتيمنا بقدراته. إقتربت "ألمرية" أكثر بل زحفت إفريقيا والتصقت بأوروبا؛ وكيف لا وقد جاء الضوء الأخضر من الفقيه الذي لا يرد له قول. – قم يا ولدي إلى عملك… فقد أزعجت نومنا بأحلامك وصراخك. بهذه الكلمات أيقظت أم أحمد إبنها. – لا… مستحيل لم يكن حلما… لازالت رائحة يد الفقيه في أنفي… فقد أذن لي بالسفر. في الميناء تبخرت رائحة يد الفقيه لتحل محلها نسمات البحر. في تلك الفترة ازداد الطلب على اليد العاملة المغربية الغير المكلفة، والتي برهنت على قدراتها على حفرأنفاق الميترو وإستخراج الفحم من أعماق المناجم وتعبيد الطرقات. كانوا يدفنون فيها الفقر الذي جاء بهم إلى هنا ليعيش ذويهم بكرامة هناك. توصل أحمد من ابن عمه بعقد عمل. ارتفعت الزغاريد من بيت أحمد حتى وصلت آذان طامو التي وجدت نفسها على الهودج تزف لحبيبها زفة قصيرة لمشوار لا زال طويلا أمامها… وكانت قنوعة به . قدم أحمد كل الوثائق المتنوعة بطولها وعرضها على نغمات سمفونية يعزفها إداريون لم تضبط آلاتهم مع بعض، و تخللتها شطحات بين مختلف الإدارات؛ فرأى كل ألوان الطيف و إستقرت عيناه على الأخضر؛ والحمد لله حصل على الوثيقة السحرية. و من كثرة فرحه غادر البلدية مسرعا وهو يصيح رافعا "ميداليته الذهبية" : ها هو… فجلب إليه أنظار كل من تجمهر حول أعتاب الحضرة البلدية من مريدين زهدوا عن فضلات الحياة. فاتبعوا طريق السالكين وربوا أنفسهم على انتظار كودو. قبَّل الجواز بلهفة وضمه إلى صدره؛ فحضن معه والديه وطامو والفقيه والسيارة…وحمولتها. وفي المساء التقى بحبيبته سرا وأهداها منديلا أبيضا (ذلك الذي رآه في حلمه) كعربون على صفاء نيته. وجاء يوم سفره فاجتمع أهل القرية ليودعونه وكان من بين الحاضرين الفقيه وطامو وفي يدها المنديل الأبيض. ودَّعوه بالدعاء والزغاريد والأهازيج والبخور وزفوه لعشيقته الثانية أوروبا. ركب أحمد الباخرة وبعدها القطار ونزل بمحطة "ميدي ببروكسيل" حيث وجد حسن ابن عمه في انتظاره. لم يكن المسكن بعيدا: غرفة في سرداب في إحدى زواياها مكان للطبخ وعلى رف سكر وشاي وبعض علب المصبرات وكؤوس مختلفة أحجا مها وألوانها أعطتها له صاحبة الغرفة. وعلى الجانب الآخر لحافين على الأرض قد التقطهما من مهملات السكان. أما صاحبة الغرفة ماريا فكانت هي أيضا مهاجرة من إيطاليا وتعيش وحيدة ؛ امرأة طيبة تقوم بتنظيف غرفة حسن وترتبها وأحيانا تضيف إليها بعض الأثاث أو تغيره دون مقابل. وفى المساء رحبت بأحمد وأحضرت له كعكة لم يبقى منها في الصحن ما يسد به النمل رمقه. ألقى أحمد بجسده المتعب على الفراش الذي كانت تنبعث منه رائحة الرطوبة فكانت أهون عليه من التي يفوح منها الفقر… استفاق من نومه مذعورا وهو يكرر: "اخرج…أخرج…". ألا زال في أرض الوطن؟ أم أن عدوه يريد أن يخرجه من هنا أيضا؟ أم أنه فرمن فقر إلى فقر؟ فالفقر كالعملة لها وجهان… وجه هناك … ووجه هنا؛ قد يُمْحى أحدهما على حساب الآخر وقد يبقيان فيميزان من يجري في دمهم الفقر مجرى الدم . بعد أسبوعين تقاضى أول راتب له بالعملة الصعبة دفع منه لحسن مقابل الإيجار والأكل وأرسل لوالده حوالة بريدية والباقي دسه كما يفعل حسن، في ركن خفي بين ثنايا اللحاف الذي حوله إلى "بنك" يودع فيه مدخراته؛ ومن الحين لآخر يتفقد بعناية ما جمعه، يعده عدا ويرتب أوراقه ويحول قيمته إلى الدرهم فيتضخم العدد بسبب الفرق بين العملتين؛ وبكل حنان يعيده إلى عشه ويغطيه. وبعد بضعة أشهر أدخل أحمد يده إلى شباك "بنكه" فوجد فيه ما يكفيه لمهر طامو فتبسم ضاحكا و تذكر: كن رجلا وتزوجها… ثم أعاده إلى الخزينة وغطاه بإحكام ليقطع أنفاسه و يقطع أمله في الخروج من مثواه… اليوم رجعا كعادتهما من العمل وما أن دخلا إلى الغرفة حتى صاح أحمد بأعلى صوته وهو يقلب الفراش فكادت حبال حنجرته أن تكتم أنفاسه: – أين نقودي؟ ليس هذا فراشي. حاول حسن أن يهدأ من روعه حتى يفهم ما حدث و دخلت ماريا مذعورة وكالأم الحنون تستفسر عن سبب صراخ أحمد: – "مادام" أين فراشي؟ فردت: – ألم يعجبك هذا؟ هذا أنظف وأريح لك. كانت رائحة الآخر لا تحتمل داخل الغرفة. حينها أسرع حسن إلى فراشه وبدأ يقلبه فازدادت دهشة وحيرة المسكينة. ما سر هذا الحرص على فراش بال؟ ثم قال : – نعم أين هو يا "مادام"؟ شعرت ماريا أن الأمر فيه أكثر من إنَّ، واستغربت لتمسك أحمد وحسن بلحافهما ولم تعد تدر بما ترد، وبدت مرتبكة وفي عينيها شعور بذنب قد ارتكبته وهي لا تعرف. كانت تحظى بحبهما واحترامهما ويعوضانها عن أبنائها الذين هجروا بيت الأسرة وأصبحت وحيدة فيه. كيف لفراش وضيع أن يفقد أحمد هدوئه وصوابه؟ ماذا عساها أن تقول له؟ غريب هذا الأمر. وهل سيتقبل جوابها الصريح؟ فلم تجد بدا من أن تخاطب قلبه لا عقله المفقود. – أعتبركما كأولادي ، لقد ملأتما فراغ كل من رحلوا عني. وما اهتمامي بكما من أجل الإيجار؛ بل أنتما تستحقان حسن المعاملة. ما فعلته لم أقصد به إغضابك بل من أجل راحتك غيرت فراشك بآخر نظيف ووثير.أصابت هذه الكلمات قلب أحمد فبادرها حسن : – نحن أيضا نكن لك كل الاحترام ،أريد أن أعرف إلى أين أخذت فراشي – رميتها وحُملت على شاحنة الأزبال إلى مكان لا أعرفه – كنا…نخبأ فيها مالنا… فهل يمكن العثور عليها؟ كادت أن تسقط من شدة الاستغراب فجلست و كررت ما قاله حسن حتى تأخذ الكلمات معناها ويستحملها عقلها. تجمعان أموالكما في الفراش؟ أليست هنا أبناك لذلك؟ لماذا لم تخبروني حتى أنصحكم وأساعدكم؟ أتدري أن كل ما تجمعه الشاحنات من آثاث يحرق في عدة معامل؟ فيصبح من الصعب العثور على فراشك… أما أحمد فقد تمددت رقعة عقله بين المغرب وبلجيكا وهو يضع عليها شتات معاناته، تأكد أن السيف لم يخطئه هذه المرة، ورأى عدوه الفقر في أجمل حلله منتصرا ينتشي بفوزه ؛رآه في كبرياء يتربع على عرشه وأمامه رقعة الشطرنج وقال له: – شاه مات… *مواليد القصر الكبير أستاذ سابق للفيزياء والكيمياء بالثانوية المحمدية مقيم في بلجيكا منذ 40 سنة