أذكر أني التقيت به غب مساء في حديقة رحبة، في قلب المدينة، وأذكر أنه كان يرنو بناظرين ملتهبين إلى نافورة الحديقة الفوارة، وكان الرذاذ يتطاير على محياه الممسوح، لم يمد يده ليمسح قطرات الماء التي انسابت من أعلى جبهته إلا عندما بلغت ذقنه الحليق، فطفق بمسحها بسبابته، بينما ظل ناظراه متسمران صوب النافورة. حرزت أن بالفتى هلاوس تعروه، وبات الشك يخامرني وينغصني. ودأبت أفكر فيه مليا، مررت بجانبه وأنا أتلكأ في المسير، حدجته بنظره لطيفة، أما هو فلم يبد إيماءة أو حركة. واستشاطت حيرتي لهذا الفتى الوديع، حملني فضولي على الجلوس بمقعد لا يبعد عنه إلا أمتارا محدودة، بحيث أستطيع أن أختلس النظر إليه متى أشاء. وما أذكى حيرتي بعد طول تأمل في مخايل وجهه أنه خلو من أية أمارة قد تنم عن إحساس أو شعور أو رغبة. صحيح أن عينيه كانتا تطرفان كلما تطاير الرذاذ على وجهه. لكني حدست أن الفتى بملامحه التي تنم عن الفتور، والمتراوحة بين الانبساط والتوتر، سيق إلى حمأة مدت بحب أو سأم أو اعتراه طائف يسكنه في أعماق أعماق روحه، ولكن من يكون الفتى؟! وامتدت فترة صمت لاهبة، لا يسمع فيها إلا صوت النافورة الهوجاء وأصوات صبية تتعالى خلف سور الحديقة، وسباب يندلق من أفواه شاربي الكحول في زاوية قصية من الحديقة، ولكي أمحق شكوكه، تذرعت بقراءة الصحيفة، واختلطت الأفكار في ذاكرتي، شاقني أن أنظر إلى محياه وهو يطرف كلما تطاير الرذاذ، أو كلما هبت نسمة ريح وهي تدفع الرذاذ للهجوم على صفحة وجهه. ابتسمت، وظلت لذاذة ابتسامتي تسري في أوصالي. إيقاع الزمن يكتب قصة حالية بالألغاز والحيرة، مزدانة بقسوة تجمدت لها فرائص هذا الفتى الذي كلح وجهه، وسكنت أطرافه والماء، وهو سر الحياة ولغزها، يغازله برذاذه داعيا إياه إلى التوثب والحركة، لكن الفتى جامد جمود الصخر. استتبت في قلبي حسرة حياله، استوفزت للقيام والإقبال عليه، لكن خشيت أن أعطل لذته ورغبته في الجمود والتخشب. وظللت ملتصقا بالمقعد وقد دبت في أستي برودة واخزة. عندما مرت فتاه مياسة القد مكتنزة العجز، ناصعة البياض ظننت أنه سيلوي عنقه لينظر إلى عجيزتها، لكن ظني باء بالخطل، أيقتنى أني إزاء حالة من الجنون، لم يساورني شك من أنه مخبول أو مجنون، وبينما قمت للإقبال عليه، هب لتوه قائما منصرفا، فزعت لذلك ورددت الكرة وجلست ثانية. كلح وجهه، وتوردت وجنتاه، وزمهرت عيناه، فكرت أن أتعلل بسؤال حالما يدنو مني، لكنه تمخط بعنجهيه، وأسرع الخطا وأطرافه ترتفع وتنزل كأنها أجنحة الشياطين المحلقة. لما استوى جسده الهائج أمامي هتف محنقا ورذاذ بصاقه يرتطع بصفحة وجهي: -أنت هو المجنون... أنت هو المجن...و ......ن ها! ارتجفت، زايلني الهلع وظل يسدد النظرات التي ينقدح منها السخط والتذمر... ولتبريئ ذمتي همست له: -أنا لم..... ولم يدع الكلمات تتوثب من شفتيا المرتجفتين، وبحث عن كفه وأطبق فمي، كانت كفه ساخنة، رنا إلي بحنق وهمس لي ورجلاه ترتعدان، وعيناه مغروقتان بالدمع اللاهب: -أنت هو المجنون... -أنت... أنت... صحيح؟ قلت مستسلما: -ها... ها.. صحيح... أنا هو المجنون *** أذكر هذه القصة بعد مرور سنتين ونحن اليوم صديقان، أعترف أن لي صديقا أعتز به واسمه يشي بالطرافة والظرف: حموده، ولا أدري لماذا ينبزه أصدقاؤه الأحمق، أنا لم آنس منه حمقا أو جنونا البتة زهاء سنتين كاملتين، إلا أني رأيته يبتلع أقراصا، لم أجرؤ يوما على أن أسائله عنها كما أن خزانته مرصوصة بإضبارات، رمقت منها مقالات عن الأمراض العقلية إذ يفضها ليقرأ واحدا منها عندما يتأهب للنوم. ذات ليله شاتبة، بادرني بقوله: -إبراهيم.. أنت الوحيد الذي ارتاح لعشرته في هذه الدنيا. -لماذا أنا بالضبط يا حموده؟ -لأنك تفهمني، وتلائم طبعي. رغبت في المزاح، وهتفت بالشكل الذي هجم علي في الحديقة. فاصطنعت تكشيرة رعناء، وتعمدت إخراج الرذاذ من فمي: -ها...لأني مجنون! لأني مجمو.....ن. وزعق بضحكة مدوية، ملقيا بالمقال على الأديم، رمقت ضرسا مخروما في أقصى فيه، سخرت من تلك الضحكة المدوية، لم تبرحني رغبتي تلك في تلمس قسمات وجهه، طففت أجيل ناظري في جسده الضخم، وبعد هنيهة التفت إلي وزعق ضاحكا الثانية وردد بصوت متهدج: -ماذا؟ أعدها على مسمعي رجاءا. جاريته بود وأنا أرنو إلى مخايل وجهه: -أنا مجنون – صحيح أنا مجنون... وظل يضحك ويضحك، لكني لم أضاحكه عندما سدد إلى ناظريه بأشداق مفتوحة، استبد بي الذهول لأني رأيته يضحك دونما أمارة فرح على محياه بحيث لم تكن شفتاه تتسعان، ولم يكن خداه يكتنزان ولم تتقلصا حدقتا عينيه كعادة من يضحك فرحا، كما أني رأيت أن ذقنه لا يرتجف رغم قوة ضحكاته التي ارتجت لها الجدران. الآن أنا إزاء حالة من الجنون. امتقع وجهه، تخشب كأنه فزاعة، أفقت من غفوة، كنت أسبح خلالها في خيالات جامحة، وبدأ ينظر إلي بحنق ويشيح عني وكأني اقترفت بحقه جرما أو ندت عني عبارة نابية، سدد إلي نظرات مريبة، زايلني بسببها شعور بالتوجس والخيفة وهتف ثائرا: -أنت مجنون يا إبراهيم... -أنت مجنون يا إبراهي................م! وتدثر ونام بعدما حك صدغيه.