من يتاح له زيارة مدينة طنجة في هذه الشهور والأيام الأخيرة سيسعد بما يرى ويلمس، ويطمئن على المال والنفس، ويشعر بالأمن والآمان، ويستنشق نسيما عطرا مصفى، مدينة تحتفي بزوارها، تنظف المجال لاستقبال ضيوفها، تتجمل وتتعطر لعشاقها، وتتنافس مع باقي المدن المغربية الأخرى على الفوز بتاج أجمل مدينة. ذلك أن طنجيس القديمة تنبعث في طنجةالجديدة، وتقوي عضدها، وتؤازر جهودها، وتبارك أوراشها، ورش لإصلاح وتوسيع الطرقات، وورش دائم في تنظيف المدينة وتحسين البيئة، وورش في تجميل الشوارع بالصباغة والأنوار، وأوراش أخرى لا تنتهي، أهي العروس أطلت من خدرها؟، أم هي غادة حسناء تتباهى بحسنها؟، أم هي فتاة في سن المراهقة تفيض حيوية ونشاطا تهيأت للترحيب بعشاقها؟ أم هو الشباب المتجدد الذي يحمي طنجيس من الشيخوخة والبلى؟، أم هو اهتمام طنجة العروس بزوارها؟، أم هو اعتراف الأبناء والأحفاد بفضلها؟. وبينما أنا غارق بين لجج هذه الأسئلة وتلك، سابح في أفق ينافس قوس قزح في جمالية الأنوار وبهاء الألوان، عرج بي الطيف إلى ربى اللكوس، وشدني الحنين إلى بيدوم نوفوم، وجنان القصر الكبير، ومجرد أن لمست أديم الأرض الطيبة انتابني شعور غريب، هو أقرب إلى الصدمة منه إلى الكابوس. فإذا كان بين طنجيس وطنجة استمرارية الوجود، والتقدم والارتقاء، فإن بين بيدوم نوفوم والقصر الكبير قطيعة، وهوة سحيقة من التنافر والتباعد، فقد تحولت حدائق هسبريس وجنان اللكوس إلى صناديق من إسمنت، وروافد الوادي إلى أزقة من إسفلت، والقمر الأحمر إلى مصباح أفل نوره وتوهجه، ضاع الأمن والآمان، وحلت الجريمة، والاعتداء على النفس والمال، وتنكرت العشيرة والأبناء والأحفاد، وضاع كل شيء جميل. فقد أصيبت مدينتي بالشيخوخة، وحاصرها التهميش،ولفها التحنيط، وغشاها الإهمال في مقبرة النسيان، وعندما تأهبت لتأخذ زينتها لحضور زفاف طنجة العروس وجدت نفسها مقيدة، فنادت: يا أبنائي البررة، كسروا قواليب التحنيط، مزقوا أستار العناكب، أزيحوا عن منكبي التراب، فإنني عشقت الحياة فساعدوني لأصلي، وأعياني العقوق والجمود فأيقظوني لأغني، فاليوم زفاف طنجة العروس، وغدا أو بعد غد يوم عيد، أو مشروع جديد. الحمد لله الذي أزاح عنا الكابوس، وأعادنا إلى بهاء المكان، بعدما عشنا جمالية الزمان في بيدوم نفوم، وفي الزمن القديم، أما اليوم فالنترك المسؤولين عن القصر الكبير أمام المرآة المكسرة، يتفرجون على بعض منجزاتهم المشوهة، في حين نثمن مواقف الشرفاء من أعضاء المجلس البلدي في الأغلبية والمعارضة، ونحتهم على التضامن من أجل مصلحة المدينة، وندعوهم إلى زيارة مدينة طنجة للوقوف على أوراش التنمية الحضارية، واستخلاص بعض العبر والدروس، رغم أنهم ليسوا في حاجة إلى ذلك، فقط يجب عليهم أن يتناولوا مزيدا من كؤوس الغيرة على مدينتهم، وحب الوطن.