لا شيء يذهب بك بعيدا وانت تتناول فطورك صباحا بمقهى شعبية ، الفضاء مفتوح على كل الاحتمالات الواقعية التي تشدك إلى الأرض ، آخذ مكاني باكرا ، وهل هناك أبكر من الساعة الثامنة في هذه الأيام التي يهب فيها النهار لليل جزءا كبيرا منه في سخاء ، استيقظت وفي بالي فكرة ، ارتياد مقهى غير ” مصنفة ” تختزل كثيرا من محكيات زمن القصر الكبير العريق ، لوحات زيتية عريضة معلقة بمسامير كبيرة معوجة على جدران المقهى تحتوي على صور لن يقفز عليها التاريخ ولن تتنكر لها جغرافيا مدينة اوبيدوم نوفوم المقاومة للإسمنت المسلح بإصرار ، لوحة هنا بها رجل بجلبابه الخشن وعمامته البيضاء يفترش العشب و يصب الشاي من براد نحاسي في كؤوس متراصة بإحدى ضيعات المدينة الفلاحية ، لوحة هناك بها مسجد سيدي يعقوب بطلائه الأخضر و نخلتيه الباسقتين ، ولوحة قصية بها امرأة جبلية بزيها التقليدي الأنيق جالسة وبين يديها تين وزيتون للبيع ، ولوحات أخرى لم أتبينها لكثرة الغبار الكثيف المعلق بها ، لاصوت في المقهى يعلو على دردشات الرواد ذات موضوع واحد أوحد : رحيل أحد زبناء المقهى إلى دار البقاء ليلة أمس بعدما صلى العشاء بمسجد حيه وذهب إلى حال سبيله ، الرواد ينعون خبر وفاته في تأثر وخشوع ، حتى الرجل العم ” عبدالرحمن ” لم يقم بتدخين الكيف احتراما لهيبة الموقف ، يتحدث عن مناقب الراحل السبعيني وكيف آثر أن يمكث بمنزله في حي تاريخي المحادي للفران والحمام ودكاكين الحرف المتنوعة ولم يغره عرض ابنه البار بالانتقال الى منزل بإحدى التجزئات المجهزة . – ” كان مخلصا لحومة المزيبلة التي تربى في حضنها وبقي كذلك حتى أسلم روحه لبارئها فيها ” ، يردد العم عبد الرحمان. حميدو البرمان والنادل وبائع السجائر بالتقسيط في نفس الوقت سينبري وهو يكفكف دموعه بمنديل وردي من ثوب : -” بعد وفاته رحمه الله أكيد سيبيع أبناؤه الدار وحديقتها الصغيرة المجاورة، كم أطعمنا منها المرحوم العنب والتوت والرمان ” . عقب العم عبد الرحمان وهو يغالب شهقة عميقة : -” عما قريب سيحل بالحديقة الرخام والزليج ، لقد فاوضه أحد سماسرة العقار فيها فأبى ” . وقف شيخ عند باب المقهى وخاطب الجمع في خشوع: -” صلاة الجنازة على فقيدنا اليوم ظهرا بالمسجد الأعظم ” ، عقب العم عبد الرحمان : ” على روحه السلام ” ، وعقب البرمان النادل : ” وعلى الحديقة السلام ” .