دخلت الصيدلية ليثني ما دخلتها، قلت لصاحبتها - بعد التحية طبعا -: - ما كان علي الدخول إلى هنا بل إلى هناك!. ثم أشرت نحو صندوق القمامة، الذي وضعته بلدية المدينة، قبالة الأدوية الموضوعة بعناية على رفوف الصيدلية . ابتسمت الدكتورة؛ إذ ظنت أني أنتقد وجود الأزبال قرب الأدوية، ألقت نظرة بلا اكتراث نحو قمامة المكان، المفعمة بأزبال غٌضَّ عنها الطرف لأيام، حطت مرفقيها على " الكونطوار" أزاحت نظاراتها الطبية عن عينيها العسليتين، ثم تحسست حرارة جبيني بكفها المفرط في النعومة، فتأكد لي أن لها خادمة تقوم بأشغال البيت. تنحنحتْ وقالت: - الأزبال تسبب أمراضا كثيرة، الأمراض تحتم على الناس شراء الدواء، وأنا أبيعه. هكذا تدعم البلدية صيادلة المدينة وأطباءها. صححت لها المقصود من كلامي: - بل أعني: أن الأمراض التي أعاني منها، تؤهلني للاستقرار في تلك القمامة، لكني لم أجد حيزا يسعني. قهقهت عاليا حتى شممت رائحة "البنسلين" من فمها، قربت رأسها مني، ربتت على كتفي وهمست كي لا يسمع كلامها باقي المعطوبين المتواجدين في صيدليتها آنذاك؛ الذين جاؤوا بدورهم لإصلاح أعضاء أفسدها الدهر: - لا تقل مثل هذا، لكل مرض دواء، هل أصبت في رجولتك؟. أجبتها وقد استبد بي خجل مفرط، وكأني أنا من كنت الأنثى في ذاك الحديث: -لا سيدتي، لازلت أقوم بما يقوم به الرجال. - إذن ما يؤلمك؟ قلت لها: - بل اسأليني سيدتي عما لا يؤلمني؟ تفحصتني بكل اهتمام، بل ربما استحضرت في ذهنها كل أنواع الأدوية المناسبة والغير المناسبة لكل الحالات التي قد ترد على لساني، ضحكت ثانية، وقالت: - تفضل، لا تخجل، وصِفْ لي أوجاعك. - سيدتي الدكتورة، أفكار كبيرة تحط على رأسي، وتحرمني النوم، بل تجعلني في عز الصحو أحلم. - مثل ماذا؟. - أشياء كثيرة: الحرية، "الديموقراطية"، المحبة...، أحلم بأن يصبح كل البشر سعداء بحجم أكبر من "الإيتوبيا" التي يمكنك أن تتصوريها، أحلم بجمهورية أرحب من جمهورية " أفلاطون"، تسع كل البشر على اختلاف ألوانهم وأديانهم ، لا قمع فيها ولا دمع، لا استبداد ولا استعباد لكن، يفجعني ما أراه يوميا على شاشة التلفاز، وما أقرأه على صفحات جرائد الجرائم، فأشعر بفوران دم، وبدوار، و برغبة كبيرة في التقيؤ. قالت والخوف من ضياع وقتها باد على عينيها العسليتين: - وما شأني بما تحكيه، أنا مختصة ببيع أدوية لأمراض حقيقية. - عفوا، قلبي سيدتي يخفق بشدة لرؤية ما ينفجر هنا أو هناك، فأوصد باب داري، وأقفل كل النوافذ. أصاب باكتئاب رهيب وبالخرس،أصبحت أعصابي جد متوترة، يغشاني السواد فألتحف هواجسي، وقد قصدتك بعدما لم يعد لساني يطيق سِجنَ فمي، بل أصبح يطول ويطول خارج الأوطان، يحلل الأحداث، ويشرح الأسباب ومسببات الأسباب، ويقترح حلولا سهلة، لكنها عسيرة على قوم لا يهتمون لأمر البطون الفارغة، أصحاب الجيوب الخالية، وصاحب الجيب الفارغة سيدتي كما تعلمين لا يزوره طبيب، ولا يسأل عنه حبيب، فهل أجد لديك دواء يناسب أمراضي؟ فإني أخشى وساوسي. - آه! فهمت، تريد مسكنات!؟ نحن لا نبيعها إلا بوصفة طبيب. - سيدتي الدكتورة، لا أعتقد أني بحاجة إلى مزيد من سكون الحملان، فقد بلغت حد صبري، وانقضى جهدي. أمسكت وصفة من يدي زبونة وانشغلت - عنوة – عني، وبين الفينة والأخرى كانت تحدجني بنظرات ملؤها الشك في سويتي، ثم راحت تبحث بتأن في رفوف الأدوية في انتظار أن أمل من انتظارها، وأنصرف عنها خارج صيدليتها. لكني لما هممت بمغادرة الصيدلية نبهتها قائلا: - دكتورة! ألم أقل لك أن قمامة الأزبال هي الأنسب لحالتي؟.