بقلم الكاتب والشاعر سعيد لعريفي ويبقى الشق الأخير من نظرية التلازم، المتعلق بالتفاهم الدالي بين الشعوب والنخب، أو التفاهم المطلق بين الشعوب والنخب المسيرة.في الوهلة الأولى يظهر أن الأمر عادي وبسيط، وانه من البديهيات طرح الموضوع، وان التفاهم لا يمكن أن يجر على البلد إلا التنمية والاستقرار ويعفي البلد من كل المشاكل الاجتماعية، وان التفاهم يعتبر عملة الدول الناجحة، وأن الصراع بين النخب وشعبها حالة غير طبيعية في علم الاجتماع السياسي.من خلال النقاش سنحاول أن نبين، إلى أي مستوى لا يمكن للدول في الوطن العربي أن تراهن على تفاهم مطلق بين النخب والشعوب. إن المسألة لا تتعلق بالديمقراطية المحلية، أو منهجية التداول الداخلي، بل يتعلق الأمر بالتوازنات الدولية، والنفس العام المرتبط بالسياق الدولي على عمومه، ونظرة الغرب إلى الشعوب العربية عامة، وأن ما يحدث اليوم يزيد تأكيدا لخلفية النظرة والفكر.و الصورة المشكلة على شعوب الوطن العربي. كثيرا ما كنا ننتقد النخب على أنها لا تعبر عن هموم الشعوب وأنها معزولة في برجها العاجي ولا تتواصل مع الجماهير، وأن الحركات الاحتجاجية كانت تركز على هاته النقطة بالأساس، لتبرر كل ما يمكن أن يشيطن النخب، فيكون الاتهام: بالعمالة لجهات أجنبية ، خيانة الشعوب، المتاجرة بهمومها، .... طبعا لسنا هنا ملزمين أن نستغرق في التحليل لكي ندعم توجها على توجه آخر، ولكن الالتزام الموضوعي في التحليل العلمي يفرض علينا نقاشا موضوعيا.وقادرا على مواجهة الانتقاد بشكل علمي. أول المبادئ التي يمكن أن نرصدها في العلاقات الدولية، هي: طبيعة العلاقات بين الأحجام الكبيرة، لنقل إنها هي الدول في التقسيم السياسي الحالي، مادمنا لم نكتب بتدقيق في مفهوم الدولة، العلاقات هي:تنازع أو تعاون.يهدا المنطق لا نترك مجالا للعلاقات الدولية أن تأخذ صيغة وسيطة، يمكن أن تعطي للدولة هامشا اكبر في اتخاذ قراراتها حسب ظروفها الخاصة وإستراتيجيتها المحلية، وهنا يطرح بشكل قوي إشكال التوازنات الدولية وقدرة النخب عن التكيف والتدبير الجيد لوضعها الجغرافي الاستراتيجي ولطموحها السياسي.... النخب وحدها من تكون مسئولة في حالة أي خلل في الاجتهاد السياسي المتعلق بالعلاقات الخارجية للدولة، والشعوب في هاده الحالة تكون أمام أمرين، : --إما أن تستوعب أن النخب قادرة على قيادة البلد في إطار الحفاظ على استقراه السياسي، -- أو أنها ستدفع بالبلد إلى توترات يمكنها أن تعصف بالاستقرار والهدوء اللازم للتنمية الداخلية. الشعوب حين تفهم دور النخب في الحفاظ على استمرار الدولة تكون حينها قد تمكنت من فهم دورها .في إطار التكامل ، أما إن تعلق الأمر بالضغط الزائد على النخب لذي يدفع إلى حالتين: - الحالة الأولى: أن تنساق النخب مع طموح الشعوب غير الواعي للظرف الخارجي وتحولات المحيط ، حينها يعم التوتر على مستوى الدولة، أو - الحالة الثانية :أن تتوجه النخبة إلى الشعوب عبر حملات التواصل والتوعية للموقف الذي يجب أن يؤخذ في إطار التوازنات الدولية والمناسب لوزن الدولة في المناخ العام، غالبا ما يكون هناك تجاوز لحالة الحوار الهادئ إلى استعمال العنف، حين تصر الشعوب على إلزام النخب بقرارات غير محسوبة، صحيح الوطن العربي لا ينعم بديمقراطية نظرية، يمكنها أن ترسم معالم الدولة النموذج، حيث ينعدم العنف واستعمال الزائد للسلطة.لكن الحالة التي تتحرك الشعوب كي تلزم النخب بإبداء مواقف صريحة في قضايا دولية حساسة، لا يمكن أن يسلم الحراك من تجاوزات، الشعوب أيضا حين لا تستوعب، أن النخب عليها اكراهات تدبير الدولة، تكون قدا تجاوزت حد التعاقد الناعم بينها وبين نخبها، وحين لا تستوعب النخب أن الانبطاح للقرارات الدولية بشكل فج، يمكن أن يجر عليها الويلات من طرف شعوبها، تكون حينها قد وقعت على نهايتها، الدولة لها هوية لا يمكن لأي طرف أن يجازف بها صحيح بعد التلازم العكسي والتكامل بين الشعوب والنخب، يبقى لاستكمال التحليل أن نتكلم عن التلازم الايجابي أو التفاهم الكامل بينهما. نقول إن درجة التفاهم كلما زادت كلما كانت مشاكل حقيقية للدولة ، لهذا فان التوافق والتعاقد لا يمكن أن يكون خارج واقعية التكامل، لهذا الديمقراطية حين تأتي بنخب تريد أن تحمل هموم الشعوب وتعبر عن ذلك دون تحفظات ومراعاة للظرف الدولي، سرعان ما يتم القضاء عليها والبحث عن استبدالها بنخب أكثر واقعية، وهنا سيظهر جليا أن الخوف يكون من المشاريع السياسية المتطرفة التي تستبعد التساكن مع الشعوب الأخرى، وتأكد لنا شكوك الغرب في قدرة شعوب الوطن العربي على القبول بالآخر والتعايش معه. الوطن العربي من خلال الموروث الثقافي والفكري والمذهبي، جعل كل مرة احتمال ظهور تيارات معادية للتساكن الدولي واردة ، وأن بروز تيارات يمكن أن تتكلم عن الهيمنة والعداء للآخر أمر وارد، لاعتبارات كثيرة منها طبيعة التعامل مع النصوص الإسلامية، والتداخلات التي حصلت بين السياسي والأخلاقي، ...وما نشهده اليوم من بروز ، من يتكلم عن الدولة الإسلامية، دليل قاطع على أن التعامل المريب مع الوطن العربي له مبرراته، وان رصد أي صغيرة وكبيرة داخل التركيبة الشعبية أمر لا يمكن التساهل معه، لهذا ترك مسافة بين الشعوب والنخب أمر في صالح الدولة واستمرارها صحيح أننا حين نتكلم عن النخب، نتكلم عن نخبة الشعوب، الطبقة المفكرة والمؤهلة للتسيير ، فهي جزء لا يتجزأ عن الشعوب، ولكن وضيفة النخبة وما يميزها عن غيرها، من خلال قدرتها على الوصول إلى المعلومات وفهم التوازنات وطبيعة الصراع والوقوف على النظريات الحقيقية الحاكمة في العلاقات الدولية، يجعلها تقف بشكل مباشر على إمكانات الدولة وعلاقته بما كانت تحلم به، قبل توليها مهام تسيير الدولة وهل يمكن تبنيه بشكل كامل أم التخلي عنه.وهذا التحول إن لم يتم شرحه إلى الشعوب بشكل جيد سيخلق أزمة يمكن أن تحصف بالاستقرار السياسي.. هذا ما يحلو للبعض أن يسميه ، انقلاب النخب على شعوبها، لان البرنامج المتفق عليه لم يتم تنفيذه، في حين أن اكراهات السياق العام لا تسمح بالتحرك إلا في حدود . إن ما يحدث اليوم في الوطن العربي ، من إنتاج لفكر جهادي وقتالي وعدائي للغرب، لا يمكن أن يمر عليه مر الكرام، هو تهديد صريح للنظام الدولي ولنموذج العيش الغربي، وهو خط أحمر في إطار العلاقات الدولية. الوطن العربي شعوبا ونخبا عليها أن تفهم أن التعايش وتبني أصول التساكن الدولي هو الحل أمام استمرار جهود التنمية في بلدانها، وأن خيار المواجهة وعلاقات التوتر مع الدول، لا يمكنها أن تخدم حالة الاستقرار والاستمرار. النخب المثقفة والتي تلتصق بهموم شعوبها لا يمكن أن تجازف باستقرار البلد من خلال قرارات غير محسوبة ، أو تسرع يفضي إلى حزمة قرارات مضطربة، لا علاقة لها بوزن الدولة على المستوى الدولي والإقليمي. الثقة التي يمكن أن تحضا به النخب من طرف شعوبها تكون بالأساس في قدرتها على الحفاظ على وضع متقدم بين بلدان العالم.جيو سياسيا و اقتصاديا. الدراسات الاجتماعية توضح بشكل قوي أن البنية التربوية التي تضخم الذات و تقود إلى الهيمنة والسيطرة، المبنية على شيطنة الآخر، دائما ما تكون نابعة من خلال المرجع الديني، أو لنقل هو حالة من التفسير المتطرف للمراجع النظرية، لكي نكون مدققين بشكل جيد، هو مشروع سياسي منحرف، مبني على كون أخلاقي عام. إن قدرة الوطن العربي على إفراز حالات التطرف المعادي للغرب، إضافة إلى وجود توجهات انقلابية لا تراهن عن التداول السلمي والتحول الديمقراطي ، هو الذي جعل التفاهم بين الشعوب والنخب أمر مستحيل. إن كل من ينتقد الأنظمة ويبرر ذلك بعجزها على اتخاذ قرارات إستراتجية وحاسمة في كثير من المستجدات الدولية.هو يزايد بنوع من الجهل وغياب قراءة واضحة للواقع الدولي وإمكانيات الدولة، وفي نفس الوقت هو منهج غير مقبول في إطار عقيدة التساكن الدولي. إن ما يبرر التحليلات الرامية إلى الحد من هيمنة السلطة على كل أمور الحياة هو: أن الشعوب قد تمكنت من آليات التعايش الفكري والعملي، وأنها وصلت إلى حالة من الوعي لا يمكن معها القبول بتهميشها وعدم إشراكها في قرارات تدبير الشأن العام، وهنا يطرح الإشكال في عمقه، هل النخب قادرة على المجازفة بتسليم كل الأمور إلى الشعوب؟ ان النخب الواعية تعرف أن السلطة بمقدار معين لازمة لاستمرار الدولة، وتقوية أركانها. مباشرة بعد هذا التحليل، نكون أمام خيارين قويين: -ابتعاد الدولة تماما عن التسيير وتفويض كل السلطة إلى الشعب عبر المنتخبين -وبين خيار الشراكة بين السلطة والشعوب مع خلق مساحة لاختيار من يقود البلد ويساهم في الشأن العام عبر شروط دقيقة، تراعي عقيدة الاستقرار السياسي والتوازنات الدولية. إن ما حدث اليوم عبر ظهور حالات التطرف السياسي المبني على الدين، يعطي للنخب مزيدا من الشرعية في التدخل الصريح والمشروع في الحفاظ على الاستقرار، وفي نفس الوقت من خلال نظرية التلازم، مزيدا من الصلاحيات ومجالا واسعا من التحرك، لكي لا تنفلت الأمور.