عرفت الحركات الإسلامية في عمومياتها في بداية ظهورها بالتشدد تجاه الأنظمة المستوردة التي قبل بها حكام الدول الإسلامية بديلا عن الإسلام باعتباره في نظر أعدائه ، وخصومه على حد سواء، أضحى متجاوزا ولايحمل إلا المفاهيم الماضوية والرجعية.. بعضها تبنى التغيير عن طريق العنف كالجماعة الإسلامية في مصر وبعضها الأخر اختار التغيير عن طريق الدعوة بالتربية والزحف والسلمية كجماعة العدل والإحسان في المغرب مثلا؛ إلا أنها أي الحركات الإسلامية بأطيافها المختلفة، وجدت نفسها وجها لوجه مع حكام بلدانها على خط الصدام ولقيت أشرس المقاومات تمثلت في الحديد والنار: الإخوان المسلمون في مصر على يد النظام الناصري وفي سوريا والعراق على يد النظام البعثي، لتحل، في نهاية المطاف، محل الشيوعية البائدة، كعدو بديل. ظهور الحركة الإسلامية في المغرب أما في المغرب، فلم يكن ظهورالحركة الإسلامية إلا في بداية سبعينيات القرن الماضي، وهو التاريخ ذاته الذي ظهرت فيه الجماعة الإسلامية في مصر التي رفعت شعار العنف من أجل التغيير. وتجلى ظهور الحركة الإسلامية في المغرب عند ما انفصل الشيخ عبد السلام ياسين عن الزاوية البودشيشية لنقل الدعوة من الجمود والخنوع إلى النشاط الحركي والعمل بأفضل الجهاد بقول الحق عند سلطان جائر.. فكانت أولى مبادرات الشيخ عبد السلام ياسين، هي رسالته الشهيرة إلتي وجه فيها النصح والموعظة للعاهل المغربي الراحل الحسن الثاني في العام 1974 فكلفت تلك الرسالة الجريئة صاحبها وضعه في مستشفى الأمراض العقلية. !! لكن خطاب الشيخ لقي قبولا وتعاطفا لدى فئة عريضة من الشباب المغربي آنذاك ومن ثم كانت بداية تأسيس جماعة العدل والإحسان كحركة مناوئة للنظام الملكي ومطالبة بالبديل الإسلامي بالدعوة إلى إقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة والقطع مع نظام ملك العض والجبر كما في فكر مؤسس الجماعة (1 ) وإذا كان المنهاج الذي وضعه الراحل عبد السلام ياسين يتضمن أدبيات التنظير للتربية ثم الزحف كآليات من آليات التغيير لتطبيق منهاجه الدعوي على أرض الواقع بعيدا عن العنف، فإنه بالموازاة مع ذلك، كان ظهور فريق مواز من الحركة الإسلامية في المغرب ممثلا في حركة الشبيبة الإسلامية التي أسسها الشيخ عبد الكريم مطيع عندما خرج من جبة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ذي التوجه الاشتراكي، بمباركة من النظام الملكي، حيث كانت أول تنظيم إسلامي يعترف به قانونيا، لمواجهة التنظيمات الشيوعية والاشتراكية التي سطع نجمها في بداية السبعينات، قبل أن يقطع دابرها باغتيال الزعيم الاتحادي عمر بنجلون في15 دجنبر/كانون الأول عام 1975 على يد عنصرين من شبيبة مطيع، في ظروف وصفت بالمشبوهة باحتمال ضلوع النظام في العملية، بمنطق ضرب عصفورين بحجر واحد: بمعنى أن النظام وفي كل المحطات التاريخية، في صراعه مع الحركات والتنظيمات المعارضة وباستغلال التباين الشاسع في المواقف والأفكار والأيديولوجيات، يلجأ إلى ضرب هذا بذاك للقضاء عليهما معا أو إضعاف أقواهما فكان من تداعيات ذلك حملة اعتقالات في صفوف الماركسيين اللينينيين انتهت بتغيبهم في السجون، قبل أن تعلن الدولة عن المصالحة مع معتقلي الرأي ممن كانوا متشبعين بالفكر الماركسي اللينيني وتعويضهم ماديا ومعنويا، في إطار عملية جبر الضرر، عبر هيئة سميت ب » بهيئة الإنصاف والمصالحة« ، بينما استثنيت حركة الشبيبة الإسلامية التي كانت تشتت من قبل ، بعد فرار مؤسسها خارج التراب المغربي وسجن من سجن من أعضائها دون أن تلقى أي اهتمام من لدن الدولة كحركة معارضة للنظام تستحق المصالحة معها .وهذا ما يكشف أن الحركة لم تكن مؤسسة على اقتناع فكري معين بقدر ماأنها تم توظيفها واستغلالها من قبل النظام كآلية من آليات المواجهة ضد الحركات اليسارية المناوئة ليس إلا وإلا لكانت استفادت كغيرها من التنظيمات التي كانت في صراع مع النظام ، من مبادرة الإنصاف والمصالحة . ويبدو أن استثناء الشبيبة الإسلامية من المصالحة يعود إلى ثلاثة عوامل أولا : الشتات الذي جعلها تبقى فكرا ولم تعد تنظيما وثانيا : أن المصالحة في الواقع تهم التنظيمات اليسارية التي كانت متشبعة بالأفكار الثورية المستنبطة من الشيوعية ، وأن المصالحة مع هذا الطيف السياسي أملته الظرفية ، بعد إفلاس الأيديولوجيا الشرقية وأن تركتها أصبحت قابلة للا نصهار في بوتقة النظام الجديد الذي تضمن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان بالمفهوم الغربي المحض الذي نجده يقصي كل ماهو إسلامي .. ! وهذا مايقرب أكثر شيوعيي الأمس ويساريي اليوم من دعاة ورواد فكرة المجتمع الديمقراطي الحداثي، بعد أن أضحى الإسلام يحل محل أيديولوجيا سادت ثم بادت . ثالثا : أن الدولة لاترى ما يوجب المصالحة مع تنظيم كانت باركته لفترة معينة ولغرض معين مادام يجمعهما دين واحد دستوريا في مجتمع الدولة الحديثة، ألا وهو الإسلام، وإن كانت الدولة ترفض التشدد فيه وتحاربه. انحسار حركي وتراجع فكري لكن لاننسى أن بقايا تنظيم الشبيبة في الداخل كان قد تفكك إلى تنظيمات حركية معتدلة اختارت التعايش مع الواقع دن أن تكون لها مواقف سلبية من النظام القائم على إمارة المؤمنين وإبداء رغبتها في القبول بالمشاركة السياسية،وعلى رأسها "الجماعة الإسلامية" ثم حركة الإصلاح والتجديد"(حركة التوحيد والإصلاح حاليا، والتي أصبحت الحركة الإسلامية الوحيدة التي حظيت باعتراف رسمي من لدن النظام الملكي ولايشك في كونها الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية الذي يقود الإتلاف الحكومي وأن وزراء وجل برلمانيي الحزب هم أعضاء الحركة الدعوية).ومن ثم بدأت هذه الحركة تبحث عن الروابط التي تقربها من النظام والانخراط في المسلسل الديمقراطي، غير أن النظام لم يكن بعد قد وثق في نوايا حركة التوحيد والإصلاح التي كانت تحللت من فكر الشبيبة واختارت أسلوبا مغايرا في التعامل مع النظام،وتقدمت بطلب لدى السلطات الإدارية ذات الاختصاص، من أجل الحصول على ترخيص تأسيس حزب سياسي لكن ذلك قوبل بالرفض. وربما يعزى هذا الرفض، إلى تخوف الدولة من قيام حزب يؤسس على المرجعية الإسلامية بالمنظور الفقهي الحركي الذي لقي في الوقت ذاته مساندة من لدن الجهات الرافضة للمشروع الإسلامي في عموميات ، كما ورد في كتاب" الحكومة الملتحية" لما كثر الحديث في العقود الأخيرة عن الحكومات الإسلامية بعد الثورة الإيرانية ضد حكم الشاه. وتركز هذا الحديث بالخصوص بعد الثورة الإسلامية الإيرانية، وأصبحت الأنظمة العلمانية وأحزاب وهيئات مايسمى بالمجتمع المدني في جل البلاد الإسلامية تتوجس خيفة من هذه الحكومة، وأصبحت الدول الغربية تهول أمرها للتحذير منها وتخويف الناس من حكمها(2) . وقد عرفت هذه الفترة انحسارا حركيا تمثل في التراجع عن الأفكار الشبيبية، يمكن أن نصفه بالمراجعات غير المعلنة تمهيدا للمصالحة مع النظام. وبينما كان الصراع على أشده في ذلك الوقت مع جماعة العدل والإحسان،قائما بدأت تظهر تيارات إسلامية متطرفة تشبعت بالغلو في الدين خصوصا في فترة التسعينات من القرن الماضي تزامنا مع الحرب التي كانت تدور رحاها في أفغانستان كمجموعة يوسف فكري التكفيرية وجماعة الصراط المستقيم ومجموعات أخري غير منظمة حتى تبقى في منآى عن أعين الأجهزة الأمنية لئلا تترصدها . وتجد جماعات التكفير في هذا التخفي مبررا للقول بتحريم العمل التنظيمي وفق القوانين الوضعية الصادرة عن »الكفار « .. ! ولم يكن الكل يتوقع أن هذه التيارات ستكون في يوم ما صانعة لأحداث العنف وتربك المعنيين بالتحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حتى نزل الحدث المأساوي في فجائية كالصاعقة مادفع البعض إلى الاعتقاد "أن شباب أحزمة البؤس خضعوا لعملية غسل دماغ امتد لسنوات بعيدا عن أعينالأجهزة الأمنية ورقابتها الصارمة وأن ما ما قاموا به من أعمال لم يكن لوجه الله خالصا, بل شكل خطوة أولى في مسلسل مواجهة محمومة بين الاختيارات السياسية للدولة والنشطاء الإسلاميين المنتمين لحركة السلفية الجهادية ذهب بعض آخر إلى أن تلك الأحداث المأساوية مجرد صرخة مجتمعية ضد عقود من التهميش طالت تلك الفئات المحرومة وأنها طريقة استثنائية للاحتجاج ضد التوزيع غير العادل للثروة."(3) الحلقة المقبلة : جماعات التفكير امتداد تاريخي للخوارج مراجع 1 ). عبد السلام ياسين المنهاج النبوي 2 ) الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري /الحكومة الملتحية ص 81 منشورات دار الأمان الطبعة الأولى1426 ه -2006 م (3 ) نفس المصدر