أستحضر نقط القوة الكثيرة التي تتمتع بها هذه المناضلة العصيّة فيزداد عشقي لها، فأذوب حباً في هذه الحضرية الفاتنة التي هي منبع الخير كُلّه، هذه "العبدونية" الجميلة التي هجرها البحر بعد أن حملتْ منه سماداً يُحيي الأرض فيُخرج من أحشائها سنبلاتٍ خُضْرٍ يانعات. تحدثني المعطيات فأهتز نشواناً يغمرني الاقتناع بعلُوِّ كعب حبيبتي، فهي ليست تحت الأرض فقط بل هي فوقها كذلك، إنها الفضاء المعطاء، أرض الله التي باركها بأن جعل الناس يلتمسون الرزق في خباياها. و أستشرف الأفق فأرى المستقبل المزدهر آتٍ مُسرِعاً على السّيّار أو عبْرَ أنابيبَ وَفَّرتْ سلطاناً ينفذ منه الذهب المنتج. من المحيط، من المطار أو عبر السّيّار، لن تنال شرف التَّوَجُّه شرقاً إلَّا عبر التملِّي بالطلعة البهيّة لحاضرة ورديغة، كما أنك لن تُدرِك ضيعات البرتقال بسهول تادلة الخضراء إلّا إذا رضِيَّتْ عنك القديسات السبع و باركَتْ مُرورَك عبر هضابها المُنتِجة ... تحتضن معشوقتي أوراش أكبر مقاولات المملكة المنتجة للذهب الأبيض و التي توزع غلافاً مُغرِيّاً من الأُجور و توفر فرصاً لمعاملات هامة، و تُدِرُّ في صناديق الوطن بالعُملة الشيءَ الوفير، و تُمكِّن الأُولمبيك من تسجيل الإصابات... عبر الخط المزدوج تحمل قطاراتُها السمادَ و شروط حياة الأرض الى جميع أنحاء المعمور، فترى العربات الحديدية تتبختر مزْهُوَّةً بِطولها و بصوْتها الذي يخترق الآفاق و هي تنساب و تتلوَّى كالثعبان في اتجاه الموانىء على المحيط. و ترى قطعان أغنامٍ ليست كالأغنام تَنْفَضُّ من حول الطريق الحديدي كلما صعق مُنبِّهُ القطار مُحذِّراً ... تنتج المنطقة ألَذ َّ و أفضل اللحوم على الإطلاق. آهٍ يا حبيبتي، يعشقُ بَنُوكِ الهجرةَ فتنتج سواعدُهم العُملة ... فتزدهرين. تنام "العامرياتُ" ملء الجفون و قد تركتْ لأحفادها أرضاً حبلى بالسماد و بالغِنَى بحجْمٍ من شأنه أن يجعلَه عامّاً لو توافقَ المُجمَّعُ و المجلسُ... أخرجُ ... أبحثُ عن معشوقتي لأعانقها .... ماذا أرى ؟ عربات آتيّة من قديم الزمان ... لم يقبل بها الأجداد، فكيف رضي بها الأحفاد ؟ عربات تجر خيبة الفشل و تخدش الجولان... أرى الجمال يئن تحت وطء شبه العجلات و يختنق من بقايا دواب القرى. آه، يا شجر الزيتون، أيها المبارك، يا من تحب جذورك تربة البوادي، غرسوك فوق الرصيف لتقتات من البقايا العادمة ... لن يضيئ زيتك بعد اليوم. أرى، مهمشاً قروياً يغتصب فاتنتي كل نهاية أسبوع، أرى فضاءً حضريّاً يخترقه أكبر سوق تقليدي بالمملكة و تنخرُه مظاهرُ العشوائية التي تُرسِّخ الطابع القروي للأشياء و للسلوكيَّات. أرى سنابلَها الخضر... تتمنَّع على أفواج متجوِّلة تفترش ضرْعاً ... انتهتْ صلاحيتُه. أراها يبِسَتْ بفعل الزّحام ... جفَّفتها رسومُ الجابي ... و هدايا للمختار العاجز. آه يا حبيبتي، يُعربد الجهلُ في فضاك فلا تغضبين ... يتصابَى بالجنبات سائقو العربات فيصْفَرُّ ضوءُك الأحمر خجلاً فترتعدين. تعوقُك أُحاديَّة النشاط الصناعي فتترعرع البطالةُ في جنباتِك فيهجرُك البنونُ إلى بلاد الأحذية ... يعودون، فتختنقين بالأوكسيد. يعودون ...فترفُل الصبايا إلى زفافٍ يدومُ عُمْر المشْي من مُعوّقة العقارب حتى بيْت الميزان. يعودون ... فيزدهر الاستثمار المكثَّف استثناءً في قطاعي البناء و المقاهي. هل صدر الحكم بالنظر حصريّاً جهة المحيط عبر مناظير مخططات الأزرق و إقلاع و المغرب الأخضر... و لا تنالي حقك من الكعكة فتغيب عنك التجهيزات الحقيقية للاستقبال الاقتصادي ؟ لم أكن لأتصور يوم راودتني فكرةُ مشروع "حدائق الأحلام" أن يُحوِّلها من بيدهم الحل و العقد إلى "منجم أخضر" تكاد تصيبُه لعنة المدن المنجميّة. فهل تخلَّى عنك من أحدثُوك في بدايات القرن الماضي ؟ و هل أخلف من تمترسوا خلف "الديمقراطية العددية" الموْعدَ معكِ من خلال الاكتفاء بالتنصيب و الإطاحة بالرؤساء كبرنامج أساسي و وحيد أو بالحضور الشكلي و الجلوس على الكراسي الوثيرة ؟... كلٌّ أعلم بما هو مسؤول عنه، ثمَّ ليُسألن يومئذ عن التقصير... و هو أعلم بالمُقَصِّرين. أمازيغي أنا، جئتك من بعيد... خدومٌ ألتمس العشق و أدعو حتى أراك حقاً ... حضريةً متألِّقة.