عند مرورك بحي النجارين بخنيفرة المعروف في أوساط الحرفيين ب "اسماط" يُخيَّل إليك أنه في سبات عميق امتد من فصل الشتاء، مرورا بفصل الربيع وصولا إلى الصيف. هذا الحي الذي كان إلى وقت قريب عبارة عن خلية نحل نشيطة تحرك العمال والمستخدمين والمعلمين وأرباب كل الحرف ذات الصلة بالخشب، من كل الأعمار ومن كل الفئات. هذا الحي الذي يقصده كل من يرغب في تأثيث شقته أو منزله بأثاث رفيع مصنوع من خشب الأرز الذهبي الذي تفننت أنامل الصانع التقليدي في صقله وتجميله وإضفاء لمسات فنية عليه، تزيده رونقا و لمعانا. هذا الحي الذي جعل من مدينة خنيفرة قبلة لكل الزوار من مدن وجهات المغرب من عشاق نجارة خشب الأرز وتحفه المنقوشة، فيد النجار الخنيفري ومهنيته هي من يجلب الأسر كما المقاولون في البناء، معتمدين في ذلك على مهارته العالية وسلعته الرفيعة. إن هذه الأيام الذهبية ما لبثت أن أصبحت أثرا بعد عين، وأصبح الحرفي والصانع التقليدي/النجار، يعيش ظروفا مزرية في السنوات الخمس الأخيرة، انحدرت به من صفوف الطبقة المتوسطة إلى درك الطبقة الفقيرة أو الهشة. فقد كان النجار أو ضحايا الأزمة الاقتصادية ضرب بالدرجة الأولى قطاع البناء، فكما يعرف الجميع فبعد الطفرة النوعية التي عرفها هذا القطاع من بداية العشرية الأولى من الألفية الثالثة، والتي لا يتسع المجال هنا للتفصيل فيها، مني هذا القطاع بأزمة حادة انعكست على كافة القطاعات والمهن المرتبطة به. فكما لا يخفى على أحد فقطاع البناء هو قاطرة جذب أساسية في الاقتصاد الوطني، الذي تتحرك بموجبه عجلة عدد كبير من المهن والحرف واليد العاملة (نجارة ؛حدادة؛ كهربة؛ ترصيص ؛جبص؛ عقاقير؛ زليج …). وكان نصيب مهن النجارة من هذه الأزمة كبيرا بخنيفرة خاصة نجارة خشب الأرز التي كانت محورية في تجهيز ما عرف في الآونة الأخيرة بالسكن الاقتصادي والاجتماعي إلى جانب السكن الفخم (الفيلات، والرياضات، والفنادق)، لأنه كما سبق القول كانت خنيفرة جهة استقطاب بامتياز لتوفرها على غابات كبيرة من شجر الأرز، ويشكل منتوجها السنوي رقما مهما وأساسيا إلى جانب مناطق إيفران وآزرو وعين اللوح وتونفيت وبولمان. وللموضوعية هناك عوامل أخرى إلى جانب هذا العامل الرئيسي ساهمت بشكل كبير في ما آلت إليه وضعية هذا القطاع، الذي يشغل عددا كبيرا من اليد العاملة، ويعيل بالتالي عددا أكبر من الأسر. ويمكن اختصارها في النقط التالية حسب تأثير كل عامل: 1 – ارتفاع أثمنة الخشب حسب النوع والصنف. وسأتحدث هنا عن خشب الأرز فقط.، فقد عمد أرباب المناشر في العقد الأخير إلى تبني زيادات قياسية في ثمن المتر المكعب من الخشب في جميع الأصناف، كما سأبين فيما يلي: *الصنف الأول: انتقل سعره من عشرة آلاف درهما (10000 dh) إلى ستة عشر ألف درهما (16000 dh). *الصنف الثاني: انتقل سعره من ستة آلاف درهما (6000dh) إلى تسعة آلاف درهما (9000 dh). *الصنف الثالث: انتقل سعره من ثلاثة آلاف درهما (3000 dh) إلى خمسة آلاف درهما (5000 dh). *الصنف الرابع: انتقل سعره من ألف وثلاثمائة درهم (1300 dh) إلى ألفين ومائتي درهما (2200dh). *الصنف المختلط: انتقل سعره من ثلاثة آلاف درهم (3000 dh) إلى خمسة آلاف وخمسمائة درهما (5500 dh). ومما لا شك فيه، فإن هذه الزيادات كان لها كبير الأثر على الصانع والمستهلك معا، وحولت وجهة الثاني إلى أنواع الخشب الأخرى خاصة المستوردة. ولا تفوتني الإشارة هنا إلى أن هذه الأسعار هي للجملة، أما التقسيط فتلك حكاية أخرى تنضاف لها مصاريف النقل وأخواتها. 2 – المنافسة غير المشروعة للأخشاب المهربة: بعد المجهودات الكبيرة التي بذلتها مختلف السلط المعنية بمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة على مستوى الإقليم، وبعد الحصار الفعال الذي ضربته على ثمنه، هذه المافيات لاذت إلى مناطق أخرى وغيرت أساليبها من تهريب الخشب الخام، إلى تهريب المصنع أو نصف المصنع. فلا تكاد تخلو مجاميع النجارين والحرفيين من الحديث عما يجري في جبال وغابات تونفيت، وتقجوين وأغبالة، التي تحولت فيها، حسب ما يروج ، الإسطبلات والزراريب إلى ورشات للنجارة مستفيدة في ذلك من ولوج الكهرباء والمسالك إلى دواوير وقرى وسط الغابات. ولا نملك من دليل على ذلك سوى إغراق السوق المحلية والجوطية بمصنوعات من خشب الأرز الجيد والمتوسط بأثمنة بخسة جدا. (طبالي، ماريونات ، بيوت نعاس، سدادر ….). هذا الأمر شكل ضربة قاتلة لفئات عريضة من النجارين والحرفيين الذين يشتغلون بما يتعارف عليه في هذا الميدان ب "السواقي، وللإشارة "السواقي" يستعمل فيه الخشب من الصنفين الثالث والرابع، باعتبارها أقل جودة وثمنا بما يتلاءم وثمن السوق والقدرة الشرائية للفئة المستهدفة به. نقولها صراحة إن هذه الفئة وهي تشكل أغلبية النجارين والحرفيين تعرضت للإفلاس التام، وعدد كبير منها غير مهنته. ولمن أراد التأكد بنفسه فما عليه سوى التوجه إلى سوق أحطاب المعروف بجوطية يومي الجمعة صباحا والأحد. هذه الأخيرة التي كانت إلى عهد قريب هي الأخرى وجهة وقبلة للتجار بالجملة في الأثاث الخشبي المصنوع من الأرز وللقادمين من مدن: فاس، مكناس، تازة، تاونات، الخميسات، مراكش، وغيرها. فهذا القطاع "السواقي" كان هو باب الشغل الوحيد لكل الحرفيين البسطاء الذين لا يملكون لا رؤوس أموال ولا زبناء، فيعرضون ما صنعته أيديهم للبيع في السوق. ومن هذا المنبر ندعو كافة السلطات لبذل مزيد من الجهد لتطويق هذه الظاهرة التي خربت الاقتصاد الحرفي المحلي. 3 – المنافسة الشرسة والكبيرة لنجارة الألمنيوم التي عرفت في الآونة الأخيرة تطورا مدهشا سحب البساط من تحت أقدام نجارة الخشب، نظرا لجودته وكلفته وملاءمته للمستجدات في عالم البناء. 4 – ضعف تكوين وتأطير الحرفي والصانع التقليدي، ليساير المستجدات والمتغيرات الحديثة خاصة ما يتعلق بتسويق منتوجه وصنعة يده، وكذا تطوير أدائه وخفض كلفة إنتاجه من جهة، أو من خلال الاشتغال في شكل إطارات تعاونية أو جمعوية ترفع من قدرته الإنتاجية ومن تنافسية منتوجاته، إذ لازالت الأساليب البدائية والآلات القديمة والخطيرة هي سيدة الاشتغال، مما يتسبب في إصابات وعاهات مستديمة لغالبية الحرفيين ليس أقلها بتر الأصابع. هذا بالإضافة إلى العديد من المشاكل التي يتخبط فيها الحرفي، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: – غياب التأمين الصحي والتأمين ضد المخاطر، وغياب ضمان اجتماعي يكفل للحرفي كرامة خريف العمر. – غياب الإنصاف الضريبي، فلا زال التقدير الجزافي سيفا مسلطا على رقبة الحرفي مما أسهم في عجزهم عن تسديد ما بذمته لمصلحة الضرائب، التي تفتقر للحس التواصلي وإلى خطة واضحة للتعاطي مع هذا الملف الشائك. وأنتهز هذه الفرصة لتوجيه نداء لهذه المصلحة لفتح حوار مع الجمعيات والإطارات التي ينضوي تحتها مختلف الحرفيين للتوصل إلى تسويات ترضي الجميع. – غياب أحياء صناعية أو قرى حرفية بمفهومها العصري والحديث، التي من شأنها أن توحد مكان الأنشطة وتحقق تكافؤا للفرص بين كافة المهنيين. فباستثناء هذا الحي الصناعي في الصورة؛ والمتواجد بقرب القنطرة الرئيسية، والذي أصبح بدوره متجاوزا لا من حيث معماره ولا موقعه. فإن أغلبية الحرفيين يشتغلون داخل الأحياء السكنية، ويعانون من مشاكل كثيرة مع الساكنة. وفي بعض الأماكن يسيئون لجمالية واجهة المدينة. ولا تفوتني هذه الفرصة لأشير إلى تنصل كافة السلطات من مسؤوليتها بخصوص المبادرة التي أطلقها العامل السابق حجير أوعلي لتنظيم المدينة وإخلائها من الحرفيين كافة من خلال إحداث حيين صناعيين بكل من بوزقور قرب المسيرة العليا وتيزي نشكاك بطريق كاف النسور. إذ لم تقدم لهما السلطات المحلية ولا الإقليمية ولا الجهوية ولا الوزارة الوصية أية مساعدة تذكر، سواء كانت مالية أو تقنية أو حتى إدارية. مما جعل الإطارات المشرفة عليها تتخبط في مشاكل جمة ورتبت بذلك كل الأعباء المادية على كاهل الحرفي، الذي أضحى عاجزا عن تسديد الأقساط الشهرية، وآثر الكثير منهم الانسحاب للأسف الشديد. وفي الختام أود التطرق إلى نقطة شديدة الأهمية والخطورة في نفس الوقت؛ ألا وهي غياب الخلف الذي سيحمل مشعل هذه المهنة (النجارة وغيرها من المهن والحرف التقليدية)، مما يهددها بالاندثار لو استمر هذا الوضع على حاله. فمعاناة الحرفي دفعته إلى تجنيب أبنائه نفس مساره المهني، ولا غير الحرفي يوجه أبناءه إلى هذه الحرف، فقد أضحى في عرف الحرفيين الآن أنه من المستحلين أن تجد مستعلما أو مستعلمين جادين في تعلم الحرفة، باستثناء بعض الحالات المحتشمة القادمة من مراكز التكوين المهني، بشواهد لا تترجمها الأيدي والسواعد عملا وإبداعا في الورشات، والتي سرعان ما يهجرونها، وهم يشاهدون من سبقوهم إليها بسنوات فضلوا التوجه إلى الشركات والمصانع في المدن الكبرى. فللأسف أصبح شعارهم: "الحرفة مابقاتش تتوكل الخبز"، بعدما كان: "الحرفة إلا ما غنات تستر".