تقديم : تنفتح الحكاية على الألغاز كأقدم أنواع من المعارف التي عرفها الجنس البشري و انشغل بها كمفتاح لأسرار الوجود و عمق المتخيل البشري، ويؤكد ذلك أول الألغاز التي طرحها طائر العنقاء على البطل في الأسطورة اليونانية : ماهو الكائن الذي يمشي في أول النهار على أربعة و في منتصف النهار على اثنتين و في آخر النهار على ثلاثة ؟ لم تكتفي هذه الحكاية بالإشادة بعقل المرأة عندما يعتنق ألغاز الوجود ، بل ناقشت أحقية المرأة بالمعرفة و المشاركة في الشأن العام .. الحكاية يحكى فيما مضى من الزمان أن حاكما كان مولعا ولعا شديدا بفك الألغاز ، فأراد يوما أن يعرف ماذا يقول الماء عندما يغلي فوق النار ، و شغله ذلك كثيرا و أرقه و أعياه التفكير في حل اللغز، فلم يجد جوابا شافيا أو كافيا حتى هجره النوم و أدركه السهاد . و في يوم من الأيام قال لوزيره : اذهب و ابحث لي عمن يخبرني بحل هذا اللغز، ولا تعد إلي إلا و قد وجدت من يمكنه أن يخبرني بمعناه . فذهب الوزير وبحث في كل مكان عن حل هذا اللغز، وجال في البلاد كلها من شمالها إلى جنوبها و من غربها حتى شرقها ، و سأل كل من وجد في طريقه دون جدوى . و بعد أن تعب تعبا شديدا و يئس من العثور على من يمكنه حل هذا اللغز ، و كان لا يستطيع أن يعود عند الحاكم خائب السعي خوفا من غضبه ، فجلس مهموما ليستريح في ظل شجرة قرب بيت صغير، فخطرت على باله فكرة وقال في نفسه : سأرى هذا البيت الصغير فقد أجد فيه مرادي ، ولكن هل يعقل أن يكون من سينقذني من ورطتي يسكن في هذا البيت المتواضع المبني بالطين و القش ؟ نعم ، ولم لا ؟ فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر والمؤمن لا ينبغي أن ييأس أو يقنط . فاستجمع عزمه ودق باب البيت الصغير ففتحت له فتاة رائعة الجمال ، فسألها : أين أبوك ؟ فأجابته : ذهب يسكب الماء على الماء. فلم يفهم الوزير كلامها وقال لها : و أين أخوك ؟ قالت له: ذهب إلى سوق الخسارة . فزادت دهشة الوزير و قال لها : و أين أمك ؟ قالت له : ذهبت لتخلص روحا من روح . لم يفهم الوزير شيئا مما قالته الفتاة فانتظر في مكانه حتى عاد أبوها و حكى له ما قالته ابنته ، و رجاه أن يفسر له ذلك فلم يعرف كيف يشرح له قولها . ودخل الأب عند ابنته و قال لها : ماذا قصدت عندما قلت للوزير أبي ذهب ليسكب الماء على الماء؟ قالت له: أردت أن أقول له بأنك ذهبت لسقي الدلاح و هو كله ماء ، فأنت إذن ذهبت تسكب الماء على الماء . قال الأب : لقد فهمت الآن قولك ، فأخبريني ما أردت بقولك إن أخي ذهب إلى سوق الخسارة ؟ ردت عليه قائلة : قصدت بذلك أنه ذهب ليلعب القمار وهو سوق عامر فيه أهله و رواده لكن لا يجني منه الإنسان إلا الخسارة . قال: نعم يا ابنتي فهمت ذلك فما قصدك بقولك أمي ذهبت لتخلص روحا من روح ؟ قالت له: أردت أن أقول له أن أمي مولدة ذهبت لتخلص امرأة حامل و تساعدها على الإنجاب ، فالمرأة روح والجنين روح غيرها فهي إذن سوف تخلص روح الجنين من روح أمه و هو معنى قولي له أنها ذهبت تخلص روحا من روح . سر الأب من ذكاء ابنته و فطنتها و ذهب عند الوزير و أخبره بكل كلامها . فعجب الوزير غاية العجب من كلام الفتاة ورجاها أن تفك اللغز الذي من أجله تعب كل هذا التعب وقال لها متوسلا : من فضلك أخبريني ماذا يقول الماء عندما يغلي فوق النار؟ ردت عليه بسرعة : إنه يقول العود الذي سقيته بمائي حرقت به واكتويت. لم يفهم الوزير معنى كلامها فقال لها : أوضحي لي يا ابنتي أكثر . فأضافت الفتاة : إن الماء هو الذي يسقي الشجر و يتعهده حتى ينمو و يكبر ، فيقطع ويصير حطبا و يشعل فيه الناس النار و يضعون فوقه الماء ليغلي .. لذلك يقول الماء عندما يغلي أن العود الذي سقاه وكان له الفضل في نموه في السابق ، هو الذي يحرقه و يؤلمه الآن . ففرح الوزير بعثوره على حل اللغز. وذهب عند الحاكم و حكى له الأمر و أخبره أن الفتاة وحدها هي التي عرفت الحل ، فقرر السلطان أن يتزوجها لكنها اشترطت عليه أن تقعد وتحضر مجلس حكمه فقبل . و في يوم من الأيام حدث أن كان رفيقان في الطريق أحدهما يملك أتانا أنثى الحمار قريبة الوضع و الآخر له ناقة بدورها وشيكة الوضع ، و في الليل وضعتا حملهما في نفس الوقت ، فقام مالك الأتان وجعل البكر أي ابن الناقة مكان الجحش ، بحيث يظهر و كان الأتان هي التي أنجبته ،و جعل الجحش قرب الناقة . و في الصباح تبع الجحش الناقة و تبع البكر الأتان فاستغرب صاحب الناقة لذلك ، و أراد أن يسترجع البكر فاعترضه صاحب الأتان وقال له ،ألا ترى أن ناقتك قد وضعت جحشا لذلك فهو يتبعها لأنها أمه : من تبعه شيء فهو له. فاختلفا ورفعا أمرهما إلى الحاكم ، فلما دخلا مجلسه و خبر قضيتهما حكم لصاحب الأتان ليأخذ البكر، فخرج صاحب الناقة باكيا ، فرأته زوجة الحاكم و كانت قد سمعت الحكم الجائر الذي صدر في حقه ، فقالت له : سترجع عند الحاكم و تقول له : كنت قد غرست الشعير في جنب البحر فأكله السمك . و عندما يقول لك : و متى كان السمك يأكل الشعير؟ فأجبه : ومتى كانت الأتان تلد البعير ؟ وسيرد إليك حقك .. فرجع إلى مجلس الحكم كما أمرته زوجة الحاكم وقال له : كنت قد غرست الشعير في جنب البحر فأكله السمك . فاستغرب الحاكم من قوله و قال له : و متى كان السمك يأكل الشعير؟ فرد عليه صاحب الناقة : ومتى كانت الأتان تلد البعير ؟ فأدرك الحاكم خطأه فيما أصدره من حكم فتراجع وعدل عنه ، وأرجع لصاحب الناقة حقه الضائع . فقال السلطان وقد أدرك أن أحدا ما أوعز للرجل بذلك: لكن قل لي من أخبرك بمسألة السمك و الشعير؟ فقال له الرجل : إن زوجتك هي التي أخبرتني بذلك . فسر بذلك غاية السرور. و سيلي يا حكايتي من واد إلى واد و أنا أبقى مع الناس الأجواد المصدر : كتاب موسوعة الحكاية الشعبية د محمد فخرالدين الحكاية رقم 67 انتظروا معنا حكاية الغذ و هي تناقش عاقبة السلوك الأناني من خلال شخصية بونوارة