لذكرى المولد النبوي الشريف مكانة عظيمة في نفوس المسلمين جميعا ففي شهر ربيع الأول من سنة ثلاث و خمسين قبل الهجرة الموافق لسنة 571 ميلادية ، ولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، الرسول الأعظم و النبي الخاتم المبعوث رحمة للعالمين لهداية الخلق أجمعين وإخراجهم من ظلمات الجهالات إلى أنوار الهداية الربانية حيث قال الله عز وجل (الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) سورة إبراهيم {آية 1} حيث نالت هذه الذكرى اهتمام الفقهاء وكتاب السيرة و المحدثين و الشعراء في كل زمان ، فألفوا فيها عددا غير يسير من المؤلفات و الكتب وتحدثوا عنها بإسهاب في متن السيرة النبوية العطرة كما أفردوها بتآليف مميزة سميت بالمولديات في التعريف بالمولد النبوي الشريف وصاحبه عليه أزكى الصلاة و أطيب التسليم وفي مدحه و ذكر شمائله المحمدية الزكية و أنواره السنية ، خصوصا علماء الصوفية الذين يولونها مكانة جليلة ويخصونها بالاحتفال و الذكر و القيام و المديح لما يكنونه من محبة عظمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورغم أن الجمع الغفير من المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها درجوا على الاحتفال بالمولد النبوي الشريف منذ قرون عديدة ، إلا أنه قد ظهرت عدد من الآراء الفقهية خاصة من بعض المتأخرين تطعن في مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي باعتباره بدعة مستحدثة وأمر لم يقم به الرسول عليه الصلاة والسلام ولا السلف الصالح وقد تصدى الصوفية لهذا الرأي مدافعين عن مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي من خلال عدد من الدلائل الشرعية و اللطائف الحسية و كمثال على ذلك كتاب النور الرباني للشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني الذي نقدم منه هنا بعض الشذرات البلاغية الجليلة والرقائق الغزلية الندية في ذكر المولد النبوي و تأصيل مشروعية الاحتفال به و طريقة الصوفية في ذلك ، حيث يتناول الشيخ في كتابه المسمى النور الرباني في مولودية الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني في بدايته مسألة أولية النور المحمدي و أفضلية الرسول عليه الصلاة والسلام على جميع خلق الله من منطلق حديث ميسرة الضبي الذي رواه الإمام أحمد والبخاري في تاريخه و أبو نعيم في الحلية حيث قال ( قلت يا رسول الله متى كنت نبيا ، قال وآدم بين الروح والجسد ) وحديث عمر بن الخطاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا عمر أتدري من أنا ، أنا الذي خلق الله عز وجل أول كل شيء نوري ، فسجد لله ، فبقي في سجود سبعمائة عام ، فأول كل شيء سجد نوري و لا فخر ) و حديث الحافظ بن مرزوق نقلا عن أحكام بن القطان عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( كنت نوراً بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشرة ألف عام ) و الحديث الشهير لجابر بن عبد الله الذي رواه عبد الرزاق الصنعاني في مسنده ، كما يتناول الكتاب مسألة إسلام والدي الرسول عليه الصلاة والسلام وعمه أبو طالب ، و للشيخ الكتاني تأليف آخر في المولد النبوي تحت عنوان (السانحات الأحمدية والنفثات الروعية في مولد خير البرية ) حيث يستفيض فيه في الحقيقة الأحمدية بشكل أعمق من خلال شرح الصلاة الأنموذجية التي يتضمنها ورد الطريقة الكتانية وكتاب النور الرباني على صغره ( 46 صفحة من الحجم المتوسط طبعة 1981 مطابع الشويخ ديسبريس تطوان ) حافل بخطاب صوفي جليل حول المولد النبوي، حيث يقول الشيخ في ص 24 (...و نادى مناد في أطباق الأرض و السموات ألا إن مرآة الوجود المنطبع فيها كمالات الوجود في هذه الليلة يستقر في بطن آمنة الذي يتم به كل ذرة ثمينة ...) كما يقول في ذكر : نفحات مولده عليه الصلاة والسلام : (.....ولما ولد المصطفى راق العيش وصفا وزهق الباطل واختفى وظهر مصباح الإيمان وما انطفئ وهب نسيم مولده في جميع الأقطار فاكتسب من نوره عزاً وشرفاً كشميم الأزهار. فلما هب بأرض فارس أطفأ النيران فأول من نشقه سلمان فجاء يقطع المراحل و الكثبان ، حتى فاز برؤية سيد الأكوان وأقر بالوحدانية للرحمن ولما فاح ذلك النسيم المعطار حن لعرفه جميع الأنوار و الأشجار و الأزهار ، فلو نشقه السقيم المزكوم و العليل المريض المشموم لرحم به المرحوم وشفي به كل عليل شموم : ولو عبقت في الشرق أنفاس طيبه * وفي الغرب مزكوم لعاد له الشم ولما هب ذلك النسيم بأرض اليمن أول من نشقه أويس القرني في السر و العلن ، فبذل نفسه للمصطفى من غير ثمن و آمن به على بعد الوطن ولما هب ذلك الأريج بأرض الحبشة وجال فأول من نشقه بلال فجذبته عناية التوفيق للإيمان ، فأعلن بالأذان وبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ينشر له الرايات و الأعلام ، فخصه النبي بالمدح السامي ، بأن قال يا بلال أنت تنشر بالذكر أعلامي وترفع به قدري ومقامي ، فلأجل ذلك ما دخلت الجنة إلا وجدت خشخشتك قدامي ، ولما مر باليمين ذلك النسيم الغامر نشقه سيدنا عامر فاهتدى إلى الإسلام بعد عبادة الأصنام وفاز بتقبيل أقدام سيد الأنام ومات على محبته موت الكرام وقصته تحير العقول و الأفهام . ثم إنه ظهرت لولادته صلى الله عليه وسلم عجائب ، ودلائل وعلامات وغرائب ، فقد أخرج البيهقي و أبو نعيم و الخرائطي في الهواتف و ابن عساكر و ابن جرير في تاريخه كلهم من حديث مخزوم بن هانئ عن ابنه قال : لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ارتج إيوان كسرى وسقطت منه أربعة عشرة شرفة من شرفاته وغيض ماء بحيرة طبرية وخمدت نار فارس وكان لها ألف عام لم تخمد ومنها ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب التي هي الشعل من النار وتشبه النجم المنقض في رؤية الأبصار فما من أحد يريد استراق السمع إلا ويتبعه شهاب ثاقب ، لا يخطئه كالردع فيقتله أو يحرقه أو يفسده أو يذهب بعضو من أعضائه ويكسره ، قال الزرقاني وقد جاء عن ابن عباس أن الجن كانوا لايحجبون عن السموات ، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها ...... ص 3738، كما يقول في ذكر : يوم مولده عليه الصلاة والسلام : ....والمشهور أنه ولد يوم الاثنين كما جاء به حديث مسلم دون مين ، وذهب بعض أهل الكشف و الإتقان أنه ولد ليلا وآخر ليلة السابع كالجمان وكان ظهور هذا النور الرفيع في شهر ربيع من فصل الربيع فهو أفضل الشهور و أحسنها و أكثرها ضوءاً ونورا و أبهجها و أوفوا حرمة لياليه فكأنها لآلئ نظمت في مبانيه فسبحان من جعل مولده في القلوب ربيعا وحسنه بديعا رفيعا يقول لنا لسان الحال منه * وقول الحق يعذب للسميع فوجهي والزمان وشهر وضعه * ربيع في ربيع في ربيع في أفضلية ليلة المولد النبوي ومشروعية الاحتفال به قال العلماء رضي الله عنهم وليلة مولده أفضل من ليلة القدر الذي قال تعالى فيها إنها خير من ألف شهر فتعظم وتحترم ويتخذ ذلك اليوم عيداً وموسما لأجل ذلك النبي الحكم ، وقد ذكر في عقود الفاتحة عن الشافي أن بعض المشايخ رأى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ما يفعله الفقهاء من الولائم في المولد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من فرح بنا فرحنا به ) وذكر الشيخ زروق عن سيدي ابن عباد في رسائله ما يفيد كراهة صوم يوم المولد النبوي وإباحة ما يفعل فيه مما يدل على الفرح و السرور بالجناب المصطفوي من إيقاد الشمع و التزين باللباس وغير ذلك مما يفعله الناس و الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى ، قال صاحب روح البيان الكاشف عن وجه التبيان خمار الحرمان ، قال ابن حجر الهيتمي إن البدعة الحسنة متفق على ندبها ، وعمل المولد و اجتماع الناس له كذلك أي بدعة حسنة (ه )قال في المواهب ما نصه : ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه السلام ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويظهرون السرور ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركته فضل عميم قال ومما جرب من خواصه أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية و المرام ، قال السخاوي ولم يفعله في القرون الثلاثة الأولى أحد من السلف و إنما أحدث في زمن الخلف قال الزرقاني وأول من أحدث ذلك الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل قال الإمام الأسيوطي يستحب لنا إظهار الشكر لمولده عليه السلام ، قال ابن كثير في تاريخه : كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل فيه احتفالا هائلا وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عالما عادلا ، وطالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصر الفرنج بمدينة عكا في سنة ثلاثين وستمائة ، محمود السيرة و السريرة . وقد استخرج الحافظ ابن حجر أصلا من السنة وكذلك الحافظ السيوطي وردا على الفكهاني المالكي في قوله إن العمل بالمولد بدعة مذمومة كما في إنسان العيون . قال الحافظ في إعمالها : فتشتهيها الأنفس وتستلذها النواظر ويخالط حسن رياحها الأرواح ، ويخامر رتب الناس فيها على مراتبهم ترتيب احتفال وقد علت الوقار والإجلال ، وبعقب ذلك يحتفل المسمعون بأمداح المصطفى عليه الصلاة و السلام ويخرجون فيها من فن إلى فن ومن أسلوب إلى أسلوب ، ويأتون في ذلك بما تطرب له النفوس وترتاح لسماعه القلوب ، ثم قال هكذا حالهم إلى انبلاج عمود الصباح أو نداء المنادي حي على الفلاح .....) ص 41 42 43