اشتهرت مدينة مراكش كسائر المدن العتيقة بحرفة دباغة الجلود ، و هي المهنة التي تتموقع بالحي المعروف ب ” دار الدباغ ” بالجهة الشرقية للمدينة العتيقة ، حيث اشتهر احد الأبواب بالسور التاريخي للمدينة بهذا الاسم . ولا زالت دار الدباغ المراكشية تحافظ على هويتها القديمة، وتخصصها في صناعة الجلود التي تمارس منذ قرون بنفس الآليات وبنفس المواد.
وتستقبل دار الدباغ زوارها برائحة الجلود ممزوجة بالمواد للتقليدية التي تستعمل في دباغتها قبل ان تظهر بعض الدكاكين التي تخصصت في عرض المنتوجات الجلدية المختلفة الأشكال و الاحجام منها الأحدية التقليدية ” البلغة ” الحزام الجلدي ” السمطة ” بالإضافة الى حقائب و أكسوسوارات تثير انتباه السياح الاجانب .
و دار الدباغ فضاء شاسع تتوسطه احواض ” قصريات ” تهيئ فيها الجلود بالماء و الملح و الجير، و فضلات الحمام و النخالة بالاضافة الى بعض النباتات كالعفص التي يتم جلبها من المناطق الصحراوية، و قشور الرمان و مسحوق شقائق النعمان .
و يعمل الدباغ على تحضير الجلود بدءا من مرحلة تنقيتها من الصوف إلى صباغتها قبل ان تعرض الجلود تخت أشعة الشمس ، و بعدها تخضع للتجذيب بواسطة آلة حادة تسمى ” الصدرية “، داخل دكاكين بمحيط دار الدباغ تشبه الجحور ، ثم عرضها على ” الخرازة ” الذين يعملون على إعادة تصنيعها.
ويقول المثل الدارج ” كل ما لعبت المعزة فقرون الجبال تتخلصو فدار الدباغ ” في إشارة الى العمليات التي يخضع لها جلد الماعز ، قبل ان يتحول الى قطعة صالحة لإعداد منتوجات الصناعة الجلدية التقليدية .
وتنتطلق العملية بعد اقتناء الجلود من السوق ، يتم وضعها بالماء لمدة يومين ، بعد توضع بالماء و الملح و البازو، بهدف ازالة الشعر من الجلد ، لتوضع في الجير أو ما يسمى ” القاطع ” الذي يساعد الجلود على الانتفاخ بعد ذلك بتم غسلها من الجير، لتوضع في فضلات الحمام ” لبزق ” التي يتم تهيئها لمدة يومين او ثلاثة قبل إفراغها في حوض توضع فيه الجلود، وهي المرحلة التي تتطلب جهدا خاصا ، تصبح القطعة الجلدية بعده اكثر نعومة بعد ذلك بتم غسلها بالماء والملح والحامض النتريتي الذي يضفي عليها بياضا ، قم تنقل الى النخالة و الماء و الملح لمدة اربعة او خمسة ايام ، تأخذ خلالها القطعة الجلدية سمكا و انتفاخا ، قبل الانتقال الى مرحلة الدباغة تأخذ خلالها القطعة الجلدية لونها الخاص وهي عملية تحتاج قوة بسبب ما تستلزمه من تحريك مطول من أجل تشبع الجلد بالمواد الملونة ، قبل أن يتم عرضها تحت أشعة الشمس او ما يسمى ” انشاف ” و منه الى الدكان ليتم تشديبها بالصدرية و هي العملية التي يقوم بها ” لمعلم ” لتعرض الجلود ثانية تحت أشعة الشمس لتزداد تجفيفا ، ثم تنقل الى سوق ” النعال ” او سوق الجلد ، لتباع عن طريق ” الدلالة ” وهي مزايدة بين الحرفيين لانتقاء الأجود بثمن مناسب .
وفي الوقت الذي شهدت دور الدباغ اصلاحات في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ، لا زال بعضها الاخر يقاوم الانهيارات و الخصاص المجهول وهو الحال بالنسبة لدار الدباغ المسماة ” الحجرة ” التي تفتقر الى تجهيزات البنية التحتية الامر الذي يهدد دكاكينها المظلمة ، بالانهيار في اية لحظة ، ذلك ان اغلبها آيل للسقوط ، نتيجة تسرب الماء كما حدث باحد المنازل التي تهدد حياة الدباغين
” حنا تنموتو عرق بعرق ” يقول احد الصناع ، في إشارة الى وضعية دار الدباغ ” الحجرة ” التي بادر صناعها الى إعداد تقرير تم إرساله الى المسؤولين ، حيث زارت الورشة لجنة مختصة، دون ان تظهر نتائجها على دار الدباغ التي تسير نحو الاندثار ببطء .
واضاف صانع آخر ” دازت التنمية و ما شفنا والو” قبل أن يهمس في أذن المسؤولين بغرفة الصناعة التقليدية و ولاية مراكش ، بالاعتناء بحرفة الدباغة المهددة بالانقراض في الوقت الذي اشتكى بعض الصناع من إقحام بعض المواد الكيميائية في عملية الدباغة و التي تؤثر على الجلد و العينين ، في غياب القفازات و الأحدية البلاستيكية الطويلة ” البوط ” لوقاية أطرافهم من مخلفات تلك المواد .
واجمع العديد من الدباغين على غياب التغطية الصحية حيث يضطرون الى اكتتاب بينهم لمساعدة المحتاجين في الظروف القاهرة التي يمر منها الدباغ خلال مزاولة المهنة ، و كدا غياب المسؤولين بغرفة الصناعة التقليدية ، أو ولاية مراكش التي تصر على ادماج الحي صمن المدار السياحي بالمدينة دون التفاتة لوضعية رواده ، الذين يشتغلون الى عمر متقدم، قبل ان تتدهور وضعيتهم الصحية ليتوقفوا عن العمل مكرهين بعد ردح من الزمن في ظروف قاسية ، وسط روائح كريهة تنبعث من الجلود و المواد المستعملة في دباغتها ، بكون بعدها عرضة للتشرد و الضياع في خريف العمر .
و أوضح أحد المعلمين القدامى ” ان المسؤولين عملوا على تهيئة فضاء دار الدباغ ” الكبيرة ” و دار الدباغ ” الطنجير ” لتقديمهما لزوار المنطقة ، في الوقت الذي تعاني باقي الفضاءات من إهمال كبير ، كما ان الاصلاحات التي شهدتها فيما يخص التبليط و إعداد مجاري المياه العادمة سرعان ما ظهرت بها عيوب و تشققات .
وتجدر الاشارة الى ان الدباغين بمراكش ورغم قساوة الظروف ، و رغم أتعاب المهنة ، اشتهروا بخفة الدم روح الدعابة ، كما اعتدوا على إقامة حفل ” النزاهة ” كل يوم الجمعة ، لممارسة هويتهم المفضلة المتمثّلة في الدقة المراكشية و الطقيطيقات او ما يسمى ” كريف الميزان ” نظرا لصلابة اكفهم ، حيث كانوا يشتغلون بمواد طبيعية تلتصق بأظافرهم لمدة طويلة ، كما يستمر حفل زفاف الدباغ لمدة سبعة ايام يحتفل خلالها الدباغون بالعريس ، الذي يكون مضطرا للعودة مباشرة بعدها الى العمل .