بسم الله الرحمن الرحيم. والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أحبابي الكرام: قال تعالى: (أليس الله بِكافٍ عبدَه). استفهامٌ يَهْطُل بالطمأنينة. ويملأ القلب ثقةً بالله. ويَمسحُ ما علِق به من أوهام المخاوِف. ومن حيرة المتالِف. كلُّ تلك التخوفات القابعةُ في فؤادك. والنابعةُ من قلة زادِك. أو من شراسةِ مُتوَعِّديك. يَنتشلُها هذا الاستفهامُ الذي هو بمثابة خيوط نورٍ تتسلل إلى قلبك المهمومِ المتوجِّس. فتملأه نورا وسرورا وطمأنينة. إن أكثرَ مرضٍ منتشرٍ في دنيانا اليوم. مرض القلق. وهو مرضٌ ذو سلطان نافذ. مرض يجعل الإنسان مجرد جسد منهك تتلاعب به الريح. وتتقاذفه الهواجس. والقلق كرسمه. عبارة عن دائرتين مغلقتين بينهما لام.. تلك اللام هي العبد القلِق. القلقُ يرمي بصاحبِه في قعرِ بحرٍ لجِّيٍّ يغشاهُ موجٌ مِن فوقه موجٌ من فوقه سحاب. ظلماتٌ بعضها فوق بعض. فالفكرُ شاردٌ حيران. والنوم أبعد عن القلِقِ من الثريا. يتقلب على جمرٍ لظى. يدافع ويغالب سيْلَ الهواجس. ولكنه يعجز عن مغالبةِ سلطان قهرها. تنام كل نسمة .وتهدأ كل نئمة.وصاحب الهمِّ قد انفرد به الهمّ .فألبسَهُ لَبُوس القلَق .وقيَّده بأصفادٍ أشد من الحديد .والقلق دركاتٌ بعضها دون بعض. وبعضها مرتبط ببعض. وسبب ذلك كله خُلُوُّ القلبِ من معرفة الله. أو ضُعف هذه المعرفة. بحيث لا ترقى بصاحبها إلى مقامات الاستسلام واليقين والرِّضى. وإن أنماطَ العيش التي نعيشها اليوم والموغلة في المادية والسطحية إلى أبعد حدّ. لَمِنْ أسباب ذلكم التدني وتلكم الجفوة. لأن أغلب مايُتداول في دنيا الناس مرتبطٌ بالدنيا. ومعلوم أنّ الطمأنينة علويةُ المصدر. لا شرقية ولا غربية. لاترتبط بمال ولا جاه ولا منصب. إنما هي ثمرة معرفة واتصال بالله عز وجل وصدق في معاملته. ينالها الغني والفقير وذو الجاه ومن لا جاه عنده. شرط تحصيلها صلة قوية بالله. مبدأُ طريقِ هذه الصلةِ توبةٌ مُنقِّيةٌ ومُرقِّية. فلاصلةَ بلا توبة. وكلُّنا مطالبٌ بذلك بنصِّ قوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)، دعوةٌ لنا جميعا إلى التوبة مع تعليقِ الفلاح على هذه التوبة، يقول سيدنا ابن القيم رحمه الله كلاما يكتب بماء العين. يقول رحمه الله: (خيرُ أيامِ العبد على الإطلاقِ وأفضلُها يوم توبته إلى الله) صدق رحمه الله. وهذا كلامُ عارفٍ بربه موفقٍّ مسدَّد. إذ لا صلةَ ولا معرفةَ ولا تذوقَ بدون توبة. بل إنَّ الكبار مِن أهل العرفان كانوا يُحْدِثونَ كلَّ يومٍ توبة. فهذا كبيرُ الكبارِ صلى الله عليه وسلم يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة). لوقِيلَ لأحدنا اليوم.. تبْ إلى الله.. لأرعدَ وأزبد وتوعَّد. وعمد إلى أصباغٍ من القول يداري بها حقيقةَ مايعلمُه من نفسِه. وتلك المكابرةُ والمعاندةُ لا تَصدُر إلا من نفسٍ أغْرَقتْ في البعدِ حتى صارت تستعذِب الكذبَ على النَّفس. وتستبعدُ كلَّ صفة نقصٍ عنها. الغيرُ متَّهمٌ على الدوام والنَّفس براءٌ على الدَّوام. إنَّه لاهناءَ للنفس ولا طمأنينةَ لها إلا بالمسارعة والمصارعة. المسارعةِ إلى الخيرات. والمصارعةِ لأسباب الغفلات. وتاجُ الأمر وزينته وحِليته.ذكرُ الله عز وجل. فإنَّ الذكرَ حصنُ العارفين .وملجأ المتقين. ومفزعُهم مِن رُعود الفتنِ وبُروقِ المحن. يقول الله جل اسمه: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) فالطمأنينة مرتبطة بالروح. والروحُ علويةٌ قدسيةٌ تستمد حياتها وسعادتها من مصدرها (ونفخت فيه من روحي) لذلكم فإن السابحَ في عوالم الذكر والمحلِّقَ في أجوائه بعيدٌ عن أكدار الدنيا ولوثات الفتن. قد اطمأنَّ قلبه بالله وإلى الله. فنطقُه وصَمتُه وحركته وسكونه بالله. فإذا حزَبَهُ أمر أو فَجَأهُ كربٌ دافَعَهُ باللجأِ إلى الله. رافعا يدَ الضراعةِ رغبا ورهبا. يناجي بقلبٍ خاشعٍ ليس فيه أدنى تعلقٍ بغير الله. انظُرْ إلى الصفوةِ من أنبياء الله… وأيوب إذ نادى ربه… فاستجبنا له… فنادى في الظلمات أن لا إله إلا انت سبحانك إني كنت من الظالمين. فاستجبنا له…….وزكرياء إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا… فاستجبنا له.. ثم بعد ذلك يأتي الثناء عليهم في سياق ذكرِ صلتهم بالله مسارعةً إلى الخيرات..وتضرعًا في كل الأوقات (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين). إنها دعوةٌ لنفسي أولا وهي الأحْوج. ثمَّ لإخواني إلى التيقُّظِ مادام في العمر بقية. إلى محاولةِ إخراجِ النفس من هذا التيَّار الجارِف. تيَّار زخارفِ الدنيا وشهواتها. تيارِ الانبهار بسراب قاموس الاستغراب. والانبطاحِ أمام واجهته المادية وبريقه الذي ظاهرُه فيه الرحمةُ وباطنه يفور بالعذاب. دعوةٌ لبناءِ النفس انطلاقا من أنوار الذكر. وتحصينِها بتقوية الصِّلة وسقيِ اليقين بماء الوحي. وإيقادِ سراج الوعي بفهم الحقائق المُجلِّية. التي تجعل غَدكَ هدفًا مقدما على يومك (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ماقدمت لغد) مع الاهتمامِ بدنياك بناء وتشييدا وإنجازا. فإن القلب إذا اطمأنَّ أمدَّ صاحبَه بطاقةٍ يستطيعُ من خِلالِها أن يُزاوجَ بين الدنيا والدين. مع استصحاب الذكر في كل وقت وحين..ففيه التَّطمينُ والتَّمكين والتَّحصين..وما أجمل قول القائل: إني استعذت من المخاوف كلِّها == ومن المكاره كلِّها بالبسملهْ ومن المصائب في الديانة والدُّنى == من كل خطب مجزع بالحسْبلَهْ ومن الشماتة من عدوٍّ حاسد == أو من مُريبٍ حاقدٍ بالحوْقَلهْ متحصِّناً عند الممات وبعدهُ == من كل هول هائلٍ بالهيْلَلَهْ حتى أنال بقولها اقصى المُنى == وعليّ حينئذٍ لواءُ الحمدلَهْ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. محبكم وحافظ عهدكم وودكم عمر بن أحمد القزابري.