النضج سِمة المبدع الذي لا يرضى من غنيمة الإبداع بالإياب، بل ميزة لا يكاد يظفر بها إلا من أفاء الله عليه بعزيمة وثّابة، وطموح سامق يعانق به سماء الفكر فيجعله يتفنن في عرض بوحه بطرق أشد ألقا وروح أقدر على استيعاب الحياة بمتغيراتها، و(كلما نضج المرء كان أكثر تعبيرا عن ذاته) كما قال د. سلمان العودة. ومن يصافح الإصدار الأول للأديب المغربي ربيع السملالي " أفكار على ضفاف الانكسار" وإصداره الجديد " نبضاتُ قلم"، يلاحظ ذاك البوْن الشاسع بين الخطوتين الإبداعيتين لهذا الأديب الشاب الذي تجاوز عقده الثالث ببضع سنين، لكن حروفه تحكي نضجا وحكمة لا يظفر بها المرء إلا بعد مقارعة طويلة للأيام والليالي. ومع هذا النضج تستنشق عبير النفَس الربيعي ذاته الذي يصر على التفرد ويناوئ التقليد ، وكأن أحمد أمين عناه بقوله: (أصدق كاتب في نظري من احتفظ بشخصيته، وجعل أفكاره وعواطفه تمتزج امتزاجاً تامّاً بأسلوبه، وخير أسلوب عندي ما أدى أكثر ما يمكن من أفكار وعواطف في أقل ما يمكن من عسر وغموضِ والتواء، وراعك بجمال معانيه، أكثر مما شغلك بزينة لفظه، وكان كالغانية تستغني بطبيعة جمالها عن كثرة حليها)، بل هو كما قال شيخه محمد بن إدريس حين لخّص بكلماته البديعة مسار هذا الشاب المثابر الذي ذاق مرارة اليتم (يرفُضُ من المعاني فُتاتَ الموائد ويطلبُ أفصحَ الشّواهد على أصل الأصول والقواعد. واصلَ دربَه بين أمواج العلم الشّريف، والأدب المنيف ثمّ إلى الحبّ العنيف، فتحقّق له ما عجز عنه أمثالُه في العُنْفُوان، ولم يَفُتْه ما فات الرّكبانُ وتبوّأ أريكةَ القلم ليلقيَ شذراتِه الرّبيعيةَ في مِرآة صافية من منارة عالية تؤذّن في النّاس أن حيّ على الكتاب والله أكبرُ). تطالعك النبضات الربيعية الجديدة بإهداء بطعم الوفاء استُهلّ به الكتاب، إهداء لسيدة كان لها أعظم الاثر في تربيته وتنشئته، لكن شاء الله أن يفارقها ذاك الفراق الأبدي الذي لا يملك معه المرء غير الإذعان والرضا بصمت، فيقول (إلى التي كانتْ ومازالتْ وستظلُّ في أعماقي.. في روحي.. في قلبي مُطمئنّة راسخةً كشجرةِ من أشجار الزّيزفون لا تَرِيم…إلى جدّتي وحبيبتي الغالية (فاطمة السّملالي) عليها رحمة الله أهدي هذا الكتاب!)، نعم هي جدّته التي فارقتهم جسدا لكن ما فتئت روحها ترفرف بينهم كل حين. فكانت التفاتة جميلة أن يجعل هذا الكتاب إهداء لروحها الطيبة. ثم ما تلبث أن تصافحك عبارة صدّر بها الأديب نبضاته، تحكي في اختصار غير مخلّ طبيعة الكتاب ومنهجيته حين قال (إنِّي امرؤ أحبُّ الاقتصادَ في الكلام، والاختصارَ فيه ما وسعني الاختصار، وأكره أن أكون ثرثارًا مِهْذَارًا مِتْلافًا لأوقاتِ القارئ في غير منفعة.. لذلكَ تجدون أغلبَ ما أكتبه مختصرًا في غير إخلال فيما أعتقد). ولهذا أتى الكتاب في شكل شذرات وتغريدات نجح ربيع في تبويبها تبعا لوحدة معانيها إلى أربعة فصول أو نبضات، فكان النبض الأول عن الأدب، والثاني مع النفس، والثالث مع الناس والرابع عن قلبه العاشق، واختتم الكتاب بمجموعة من التغريدات القصيرة. وقد مهّد للكتاب بمقدمة بديعة بينت علاقته الوطيدة بالكتابة، فهي بالنسبة إليه (محاولة للهروب من وطن لا مكان فيه لأحلامنا، لأمنياتنا، لسعادتنا.. محاولة للانفلات من ذواتنا المُترعة بخيبات الأيّام وخِذلان اللّيالي)، وهي بالنسبة له مسؤولية جسيمة وسبيل للدفاع عن الحق والفضيلة، وله من الجرأة ما يجعله يكتب بصراحة ما يؤمن به غير هيّاب، لأنّ قلمه حرّ غير مأجور (حين تُداعبني الفكرة في الحقّ الذي أؤمنُ به أتخلّى عن كلّ شيء وأتركه ورائي ظِهْريّا.. ثمّ أكتب ما يمليه عليّ ضميري.. غيرَ مستحضرٍ القرّاء ولا أشباه القُرّاء حينها، لأنّ رضا القارئ لا يهمّني، ولا ينبغي له أن يهمّني = لاسيما إن كان على حساب مبادئي وديني واعتقادي في الله، فلتنتفخ الأوداج، ولتحمرّ الأنوف، ولتبلغ القلوب الحناجرَ من الغيظ، ما دمتُ لا أدعو إلى باطل، ولا أحرّض على معصية، ولا أنتظر على كتاباتي جزاءً من سيّد القبيلة، كما لا أنتظرُ شكرًا من حزب ضيّق الأفق يحرّكُ قلمي وقتما شاء وشاء له الهوى). ومع هذا الاعتزاز تستشعر حالة عدم الرضا عن قلمه وعمّا سطّره من حروف في كتابه، إذ يقول (ثمّ اعلم -بارك الله فيك- أنّ كلماتي هذه لا أزعم أنّني أبدعت فيها أو أفلحت أو أتيت بشيء استعصى على غيري الإتيانُ بمثله، بل هو كلام وصفتُ به حالاتي وانكساراتي وبعض أفراحي على قلّتها). ولأن السمة الغالبة على شخصية الأديب ربيع السملالي هي عشقه الجنوني للكتب والقراءة، كان من البديهي أن تحتل الشذرات الأدبية صدارة الكتاب، ابتدأها بالسؤال عن جدوى الأدب وأنه لا قيمة له مالم يخاطب قيمنا الإنسانية ويبعث فيها روح الأمل والحياة، ثم استرسل بعدها في الحديث عن جملة من القضايا الأدبية بأسلوب سلس يعرض من خلاله منهجه في القراءة والكتابة والنقد، موجها إرشادات ونصائح للكتّاب والقراء المبتدئين، محرّضًا على القراءة بكل ما أوتي من عزيمة في الحرف وسداد في الرأي من خلال تجربته الطويلة مع القراءة. محاولا مصالحة العقول مع الكتاب، وإيقاظ الهمم الراكدة في مستنقع الكسل، يقول ناصحا كل كاتب مبتدئ (لكي تكونَ كاتبًا جيّدًا يجب عليك أولاً أن تكون قارئًا أجودَ، تطّلعُ على أساليب الكتّاب المختلفة، فيتكوّن لك رصيد هائل من المفردات، والمصطلحات، والتّعابير الرّائعة. تقرأ كلّ شيء ولا تكتفي بفنّ دون آخر، تقرأ وتنسى، ثمّ تقرأ وتنسى، ثمّ تقرأ وتنسى من أجل تكوين أسلوب خاصّ بك، مبتعدًا عن تقليد الأدباء والانصهار في بوتقة المفكّرين و العلماء. وبعد مرور الأيّام وكرّ اللّيالي تجد نفسكَ وصلت لدرجة من الإنشاء والتّعبير والنّضج الفكري ما لا يخطر لك على بال). وقد أزاح ربيع السملالي السّتار عن بداياته الأولى مع الكتابة و التي كانت قبل بلوغه سن العشرين، وأشار للأدباء الذين تركوا بصمات بيّنة في حياته الفكرية والأدبية وكان لهم دور مهم في الإقبال النهم على الكتابة وفي مقدمتهم المنفلوطي. كما ألمح لبعض طقوسه في الكتابة ومنهجيته التي ظل وفيًّا لها منذ سنوات والتي لخصها في قوله (إنِّي امرؤ أحبُّ الاقتصادَ في الكلام، والاختصارَ فيه ما وسعني الاختصار، وأكره أن أكون ثرثارًا مِهْذَارًا مِتْلافًا لأوقاتِ القارئ في غير منفعة)، لكنه كان قاسيا بشدة في نقد قلمه الذي ما فتئ يردد أنه صعلوك لم ينتظم بعد في سلك العباقرة، وأن قناعته بما تخطه أنامله ويجود به فكره لم ترقَ بعد لما تصبو إليه نفسه:(كلّما مرّت الأيّام على ما أكتبه وأذيعه في النّاس، أجدني غيرَ راضٍ عنه، ولا مطمئنّ إليه، وأعترفُ بيني وبين نفسي أنّي مازلتُ ذا قلم ركيك لا يستحقّ الإشادةَ والتّنويه، بل لا يستحق أن ينتظمَ في سِلك الذين كانوا قليلا في الكتابة ما يخطئون، وفي تراكيب كلماتهم لا يتعثّرون، ولعربيتهم يعيشون وفي سبيلها يموتون) ولعل هذا من باب التواضع الذي دأب عليه كل متمكن في فن من فنون العلم. لأنّ ربيع السملالي له من البلاغة والفرادة ما يجعله على الدرب الصحيح لعباقرة الأدب، خصوصا أنه مازال في ريعان شبابه. يقول أحد معجبيه وهو الأستاذ خليل العناني الشاكري: (أسلوب مولانا "ربيع الأدب" سلس هادئ مطمئن واضح الفِكرة مُشرق الديباجة يكثر من استعمال الغريب في غير استكراه، حتى لكأنما تُعرض له قواميس اللغة ومعاجمها فينتقي منها ما شاء من الألفاظ، ويتخيّر مع هذا أحسن المواقع لها وأشبه المواضع بها؛ وهذه القاموسية إن جاز التعبير أظهر سِمة في أسلوب أديبنا "السملالي" بعد حرصه الشديد على إحكام أوزان فقراته وتساوقها في المبنى واتساق الجملة مع أختها حتى يخرج سبكُ العِبارة موسيقياً محضاً). نبض الكتاب الثاني كان مع النّفس، حيث جال في رحاب نفسه المتقبلة تقلب ظروف حياته، وابتدأها بهمسة لوالده الفقيد يثمن فيها اختياره لوالدته التي أحسنت تربيته وإخوته، وناضلت في سبيل أداء مهمتها كأم وأب في نفس الآن، لأن ربيع السملالي تجرّع مرارة اليتم وهو في سنّ السابعة، فكان لهذا أعظم الأثر كما تجلّى ذلك في قوله:(سأنهي همستي إليك بعتاب: قدّر الله وما شاء فعل، لكن ما كان ينبغي لك أن تكون متهوّرا في تلك السّرعة وفي تلك السّاعة المتأخرة من اللّيل وأنت تقود سيّارتك، وتحمل بعضًا من أفراد أسرتك.. فيباغتك الأجل وقد بُترت يدك، وفارقت روحك الجسد كما فارقت الابتسامة ملامحنا الصّغيرة لسنوات كئيبة لا يعلمها إلاّ الله…غفر الله لك ورحمك !) وسيلاحظ القارئ في هذ القسم أن الذكريات الحزينة قد أرْختْ بغيومها على هذه الروح التي شاخت في ربيع عمرها. بدءا بالحادث المأساوي الذي ظلت تختزله ذاكرته منذ الطفولة وهو وفاة والده – كما أسلفت – مرورا بوفاة جدته التي كانت بالنسبة له (الأب، والعمّ، والخال، والعمّة، وما شئت من حقيقة هذه الأوصاف التي تًشعرك بالدفء وأنت تنطقها أو تقرؤها على صفحات كتاب) فقد عاش في كنَفها ونهل من حكمتها، وتشرّب من عطفها ودفء قلبها ما جعله يتمزق ألما لفقدها (ثلاثة عقود ونيّف كانت كافية لترك ذلك الشرخ صارخا في أنحائنا، وأعماقنا، ووجداننا.. وقلوبنا هذه المنهكة بلوعة الفِراق.. ماتت و بموتها ماتت فرحة والدتي، وخالاتي، وأخوالي.. وإخوتي وأخواتي.. واندلع الحريقُ.. حريقُ الفقد.. وحريقُ الفِراق.. وحريق الوداع الأبدي). بعد هذا الحدث الجلل، سيعرف الربيع خريفا آخر أشدّ قسوة حين ابتُلي صغيره المحبوب أسامة بمرض مفاجئ، فكان الحدث هزة نفسية عنيفة أسالت دموعه وأرجفت قلبه وكدّرت عيشه وأسالت حرفه بمداد الحزن، فراح يصف مشاعره الفيّاضة تُجاه فلذة كبده، وبرزت ملامح الأب الحنون، فهنيئا لك يا أسامة بهذا الاعتراف الأبوي الصادق:(ممتلئ أنا بك حدّ الهيام.. رزقني الله حبّك من بين آلاف البشر.. ليس لأنّك فلذّة كبدي.. فلِي عبد الرحمن وهند -حفظكم الله جميعا-..لكن أنتَ أنتَ فيك شيء يميّزك.. شيء أستشعره في قلبي يشبه السعادة والفرح والحبور.. لا لا بل أكثر من ذلك بكثير.. أنت حبّ يمشي على أرضية قلبي بخطًى وئيدة مطمئنة راضية كلّ الرّضا.. باختصار حبيبي الغالي أنت تجري في دمي جريًا لا أستطيع وصفه لعيّي وحَصَرِي وركاكة حرفي). كما لم يخلُ سرده الماتع من ذكريات مختلفة مع شيخه بلبصير ومجالسه التي لا تنعدم فيها الفائدة. وسيلاحظ القارئ أنه ذكر شيخه في أكثر من موضع في هذا الكتاب، وهذا ما يؤكد تلك العلاقة الحميمية التي تجمع التلميذ بشيخه ومبلغ تأثره بشخصه وعلمه وأدبه. وهناك ذكريات أخرى ممتعة أترك للقارئ فرصة اكتشافها والتلذذ بطريقة سردها التي تنقلنا إلى حياة الربيع العائلية وذكرياته التي تتنازعها شتّى المشاعر الإنسانية من فرح وحزن وغضب. وللذات قسط من هذا الجلْد والتقريع، حيث تلمس في حديثه معها شدة في محاسبتها حتى باتت تخاطبه مستمطرة بعض عطفه ورحمته بها: (كن حذرًا يا ربيع وأنت تروم فِطامي في هذه السّن فما هكذا توردُ الإبل يا صاح.. فرويدًا رويدًا حتى أنقادَ للحق المرّ الذي تصبو إليه والاستقامةِ الخالدة التي تنشدُها.. ولا تعجلْ عليّ فإنَّ لي من الضَّعْف الذي ورثته عن مجتمعك هذا المتهالك الأثيم ما قد علِمْتَ.. وعاملني بتدرّج وارْفُقْ بي). وكان له من الشجاعة ما جعله يعترف بسلبيات نفسه حين انغمست في لحظة من لحظات الالتزام في نفق التشدد ورفض قبول الآخر، وطاعة الشيخ طاعة عمياء، حيث قال: (كنت قبل عشر سنوات ونيّف منغلقًا، لا أقرأ من الكتب إلاّ ما يوافق توجّهي (المُتشدّد) ولا أسمع إلا ما يرضي مشايخ طائفتي، ويوافق هوى في أفئدتهم، أنظر إلى الآخر نظرة سلبية قاتمة لا تسرّني الآن ولا ينبغي لها أن تسرّني).وأنت تطالع هذا القسم ستقف على الكثير من ملامح شخصية ربيع السملالي العاشقة للقراءة المحبة للجمال المجاهرة بالحق في غير مبالاة برضا أو سخط، النّاقمة من أوضاع تأبى إلا أن تعاند أحلامه. ولعلّه صدق في تسطير ترجمته كما تخيّلها حين قال: (كانَ ربيع بن المدني بن عبد القادر السملالي -رحمه الله- شديدَ الحب للكتب والدفاتر والأقلام، وكان في كتاباته يُسبِّب احمرارًا للأنوف، وانتفاخًا للأوداج، ولو لم يكن كثيرَ الانتقاد لغيره، لكان محل إجماع ومحبة من الجميع، وكان يَعتريه حزن شديد؛ بسبب ما يراه في ذلك الزمان من رداءة في الكتابة، وضعفٍ في اللُّغة، وحماقة في الأسلوب، انقطَعَ عن مخالطة الناس، وانكبَّ على إتمام مؤلفاته). ولأن (خير الأدب ما مسّ الحياة الواقعية، واستخرج من تافه الأشياء فكرة بديعة، أو رأيا طريفا) كما قال أحمد أمين، فقد جعل الأستاذ ربيع السملالي نبض الكتاب الثالث من رحم الواقع ومعاملاته مع الناس، حيث أشار لبعض الظواهر الاجتماعية التي يغصّ بها المجتمع من جهل بأمور الدين، وانسلاخ عن قيمه ومبادئه، وقصور في فهم الكثير من القضايا الفكرية والأدبية، وقد صبّ جام غضبه على الفرق الضالة والإعلام المضلِّل، وألمح للكثير من السلوكات المنحرفة البعيدة عن الذوق السليم، وكذا بعص العادات السيئة التي مازالت تحكم تقاليد الزواج عندنا. ولأنها أضحت أمرا مهما في حياته، ونبضا قارّا بقلبه مهما اضطربت رياحه، فقد أفرد لها فصلا ماتعا في نبض الكتاب الرابع، بثّ فيه كل لواعج قلبه، وأمتع عشاق هذا اللون الأدبي فكان أبهى من نزار بنثرياته الجميلة عنها. و قد استبد الحزن بأكثر الشذرات التي تحكي لوعة وحسرة ووجعا من ألم الفراق والبعد، لكن رسوخ حبها بقلبه جعله لا يفتأ يذكرها حتى في سجوده ( وَلقد ذكرتكِ في سجودي وأنا بين يديْ مولايَ كقَشّةٍ في فَلاة قاحلة لا تسمع فيها إلاّ دقات قلبي وزخّات المطر، أجأرُ إليه، وألهج بذكره داعيًا بكلّ صدق أن يرزقكِ سعادة غامرة، تتبدّد من خلالها سُحُبُ الحزن التي تُخيّم على دنياك التي كانت مستقرّةً وهادئةً، قبلَ معرفتك بالربيع النّاشر سلطانَ حبّه على هضاب قلبك الضّعيف، مستشعرًا ضآلتي وأنا أمرّغ مِعْطَسي في التّراب لعلّي أنتظم في سلك الخاضعين له سبحانه، ولعلّ أن يكون ذلك سببًا في الاستجابة لدعائي، إذ إنَّ سعادتَك حُلم من أحلامي الكبيرة التي تراودني كلّما اندلعتْ حروبُ الأماني في زوايايَ…!). وقد بث بشذراته رسائل أدبية راقية ورائعة تستحق أن تُخلد لجمالية حروفها وصدق نبضها لعلّ أرقّها وأجملها تلك التي عنونها ب " إليكِ و إلا لا تُشدُّ الرَّكائبٌ ". لكن من تكون هذه النائمة بين حروف الربيع، ذاك سؤال يراود الكثير من متابعيه، ووحده يملك ردّا شافيا عن ذلك، لكن الأكيد أنه لن يبوح بذلك الآن كما صرّح بذلك في شذراته لها: (عندما أصل إلى درجة عالية من النّضج والاستواء سأخبر النّاسَ عنكِ..سأذيع أشعاري التي كتبتُ، وخواطري الّتي دبّجتُ بحبر الوفاء في سنوات جفافي، وسأروي لهم حكاياتنا ونحن نختلس اللّحظات من جيوب الأيّام العطشى التي تبخل على أمثالنا بما لديها من نعيم، بعيدًا عن أعين الرّقباء… وسأحكي لهم بالتّفصيل المُملّ عن تضحياتك عندما كنتِ تتركين كلّ شيء من أجل هذه اللّحظات السّعيدة في سبيل حبّنا الطّاهر، الذي أشرف على الحياة أو كادَ في ظلّ صبرك الجميل على جفائي وتصرفاتي الطّائشة.. سأبوح لهم بكلّ ما كان يعتريني من شعور، وما يُساورني من إحساس عندما كنت تتركينني لليل الوحدة البهيم وتذهبين لحال سبيلك مرغمة، وكيف كانت الهواجس المضنية تستبدّ بقلبي السّابح في بحور الذّكريات… مع أرق آثم لا تبدّده إلا شموسُ عينيك وهي تشرق في مدائن أعماقي بفرح صبياني….وفي الأخير سأعلن عن أحلامنا النّاعمة في يقظتي المكتنزة بروحك، ونومك البريء المليء بربيعياتي الخالدة..!). وفي ختام الكتاب ستجد أيها القارئ بستانا ماتعًا تأنس بالتنقل بين زهوره المتناثرة بشتى ألوانها وبديع عطرها، ذاك البستان هو فصل التغريدات القصيرة التي توّج بها الكتاب فأكسبته نكهة جميلة بجملها القصيرة المركزة، وكأنها رسائل نصية تخاطب كل قارئ بما تهوى نفسه من أدب وفكر ودين وحب وغير ذلك من الأمور التي تطيب النفس بقراءتها. بين " أفكار على ضفاف الانكسار" و " نبضاتُ قلم " طاقة إبداعية شابة، تحمل هوسا عجيبا للكتب والقراءة، وترنو بنفس طموحة وفكر ثاقب وجرأة على قول الحق عزّ الظفر بها بين شباب اليوم اللاهث خلف تقليد الغرب، الآنفِ من لغته، المتبرئ من دينه، وما علينا سوى تشجيعه والأخذ بيده ليعلو صوته ويبلغ صداه أبعد مدى.وقد أبدع شيخه الشاعر بلبصير في تصوير هذا الميلاد الجديد حين قال في تقديمه للكتاب:(هناكَ فوقَ خَدٍّ من خُدودِ الأرض الشّاحبة، الغارقةِ في دموعِ الشّتاء نقطةٌ تمخّضتْ فجاءتْ بما ناداها أنْ لا تحزني فقد طلعَ الرّبيع . فتح هذا المولود الشّتوي الرّبيعيّ عينيه الصّغيرتين على كتاب كبير ليسَ لحروفه انتهاء، ولا يحيط بصفحاته إحصاء كلّ شيء لا يشبه ما حوله: شمس وشتاء، ليل ونهار، تصعّد وتسفّل، بياض وسواد، ضحِكٌ وبُكاء، عصافيرُ وصقور، غِزلان وذئاب..). ومسك الختام شهادة ممن اطلع على الكتاب فأبى إلا أن يسجل شهادته على صفحته بالفايس بوك مؤخرا، ذلكم الأستاذ الكريم وليد كساب الذي قال: (هل جربت عزيزي القارئ أن يأخذ كاتب من كُتَّاب هذه الأيام النحسات بتلابيبك فيسقيك من معين كالشهد بل هو أحلى؟! كم مرة أحسست بمتعة اللغة والفكر معًا وأنت تطالع كتابًا من الكُتب التي تعج بها الأرفف؟! هل وجدتَ بين كُتَّاب هذا العصر من يملأ عليك أقطار نفسك فكرًا ولغةً وسخريةً وبهجة ومرحًا؟! وإن تعجب فعجب ما يُحبِّر قلم هذا السِملَّالي! لقد أوتي من جوامع الكلم ما يجعله الأكثر ألقًا ورصانة وإبداعًا!! تقرأ له وكأنك تقرأ لأبي عثمان الجاحظ أو ابن قتيبة أو الثعالبي في غير تقعُّر ولا وحشية! إن السملالي لا يكتب عباراته كما نكتب نحن؛ إنما ينقشها على صحائف من ذهب مصقول! وإذا كان الجاحظ قد قال: "إنَّ شِعر الرجل قطعة من كلامه، وظَنُّهُ قطعة من علمه، واختياره قطعة من عقله"؛ فإن أدب السملالي دالٌّ على نفسه الشفيفة وروحه المحاربة الوثَّابة! باختصار؛ هذا الربيع صاحب مشروع أدبي وفكري مائزٍ أحسبه سيؤتي أكله بعد حين بإذن ربه!).