شكلت الأزمات التي يعرفها النظام الرأسمالي منذ الكساد الكبير (1870-1896)، مروراً بأزمة 1929 وأزمة النمور الآسيوية نهاية التسعينات والأزمة التي عاشتها الأرجنتين بداية الألفية الجديدة، قناعة لدى الباحثين والاقتصاديين مضمونها أن أزمات الرأسمالية تتجاوز الطابع الدوري الذي درج الرأسماليون المحافظون على تقديمه كمبرر، إلى واقع العطب البنيوي الذي يعرفه اقتصاد السوق، فعادت الدولة تدريجياً إلى واجهة الاقتصاد، ليس فقط من موقع التحكيم والضبط، ولكن من موقع أكثر جرأة ومبادرة، بخاصة في البلدان النامية. إن الأزمة المالية والاقتصادية التي يعيشها العالم بوضوح منذ 2008 وعمقتها جائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، أكدت مرة أخرى أن للدولة دوراً محورياً في الاقتصاد الكلي، ويعتبر نموذج الولاياتالمتحدة الأميركية أبرز مثال على فشل السوق في تحقيق توازنه، إذ اضطرت الولاياتالمتحدة، وهي مركز اقتصاد السوق "المثالي"، إلى نهج سياسات للتأميم من أجل إنقاذ مؤسسات مالية ومصانع من الإفلاس المحقق، وشكل الحفاظ على مناصب الشغل وإحداث مناصب جديدة، أبرز الشعارات التي وقفت وراء الممارسات الاقتصادية الجديدة، وعلى شاكلة الولاياتالمتحدة، سارعت العديد من الدول إلى تكريس تدخل قوي للدولة في الاقتصاد بغية التخفيف من تداعيات الأزمة وبحث أفضل السبل لإعادة تنشيط الاقتصاد، وهذا أيضاً ما حدث أخيراً لاستيعاب تداعيات الإغلاق الطويل الذي شهدته أغلب دول العالم بسبب الجائحة، إذ لاحظنا كيف تدخلت الدولة للمساهمة في تخفيف أعباء الجائحة، سواء على الأجراء أم على المقاولات. أحد مؤشرات التدخل القوي والمتصاعد للدولة في الاقتصاد يظهر من خلال الوقوف على التطور اللافت الذي عرفته مساهمة القطاع العمومي في الناتج الداخلي الخام (PIB) في الدول الصناعية، إذ انتقلت من 12% سنة 1913 إلى 45% سنة 1995، ومع ذلك لم تكن مسألة تدخل الدولة في الاقتصاد مسألة مقبولة عند العديد من الاقتصاديين، فشكل التقابل بين السوق والدولة محور نقاشات ووجهات نظر عكست مواجهات أيديولوجية وسياسية وأكاديمية، وكانت البورجوازية الصاعدة نهاية القرن الثامن عشر مع الثورة الصناعية ممثلة بالكلاسيكيين والنيوكلاسيك، من أكثر المتحمسين لدور السوق وقدرته على معالجة أعطابه بصفة مستقلة عن الدولة، وباختلاف كتاباتهم منذ آدم سميث، فإن فكر هذه المدرسة يؤسس رفضه للتدخل الحكومي على الأسس أو الفرضيات التالية: 1. اقتصاد السوق الخالي من التدخل، هو الأكثر كفاءة في عملية تخصيص الموارد والحرية الاقتصادية، والمنافسة هي الضمان لتحقيق أهداف المجتمع. 2. آليات السوق الحر هي التي تحقق مصلحة الفرد والجماعة معاً، إذ يتم الإنتاج عند أقصاه وبأقل تكلفة وفق فرضية أن السوق كامل. 3. انسياب المعلومات وتوافرها في بيئة ذات درجة عالية من الشفافية والوضوح. 4. التناغم بين مصلحة الفرد والمصلحة العامة. لم يكن هذا الطرح ليصمد طويلاً، بخاصة بعد التحولات التي عرفها الاقتصاد نفسه، وجملة كان أنصار تدخل الدولة يعتبرون أن التحول الذي عرفه الاقتصاد، وبخاصة الآثار الخارجية، يحد من إمكان إعطاء السوق إشارات سعرية مناسبة، وهذا ما يترتب عليه ضعف القدرة على تقدير كلفة الإنتاج والموارد المستخدمة فيه، وبالتالي فإن الأسعار تصبح غير قادرة على عكس التكلفة الحقيقية، ما ينعكس سلباً على الاستهلاك وبالنتيجة على التشغيل، فتدخّل الدولة يعالج نقص المعلومات في السوق، ويضمن للاقتصاد البعد الاجتماعي والإنساني، ويحد من سلطة الربح كموجّه وحيد للاستثمار، بخاصة مع ظهور الرأسمالية المالية والاقتصاد المبني على المضاربة والمبتعد من الاقتصاد الحقيقي. شكلت أفكار كينز في سياق أزمة 1929 أهم التنظيرات الجريئة لإعادة الدولة إلى ساحة الاقتصاد لزيادة الطلب الفعلي ووضع التشغيل الكامل كهدف للاقتصاد الكلي، وبعد الحرب العالمية الثانية تصاعد دور الدولة في الاقتصاد حتى كادت تكون اللاعب الوحيد، وقد أثبتت التجربة التاريخية حاجة البلدان النامية إلى تدخل الدولة، وذلك لتدارك العجز الكبير في البنيات التحتية المادية والاجتماعية وفق رؤية تنموية متكاملة، تضع الربحية الاجتماعية كهدف، وهو ما لا يمكن توقعه بالنسبة إلى القطاع الخاص، كما أن ضعف البورجوازية في هذه البلدان وعدم قدرتها على تعويض الفراغ الذي أحدثه رحيل الاستعمار مع موجات التحرر الوطني، ساهما، وبخاصة في بلدان العالم الثالث، في منح مكانة خاصة للدولة في الاقتصاد. إن أهداف السياسة الاقتصادية للدولة من منظور ماكرواقتصادي تتمثل أساساً في ما يلي: – الحفاظ على مستوى قريب من مستوى التشغيل الكامل لقوة العمل. – الحفاظ على مستوى عال من الإنفاق الاستثماري ( عام وخاص). – الحد من مقدار العجز في ميزان المدفوعات. – مكافحة الضغوط التضخمية في الاقتصاد الوطني واحتواؤها. – تخفيض حدة الفقر وحماية مستوى معيشة المواطنين. ولتحقيق هذه الأهداف الموضوعية لأي سياسة اقتصادية، لا بد من الرفع من إنتاجية العمل في الاقتصاد الوطني لزيادة المعروض من السلع والخدمات من دون أن تترتب على ذلك زيادة في الأسعار، وإحداث تحسن في شروط التبادل الدولية لمصلحة الصادرات الوطنية. مع ذلك لا بد من التنبيه من أن تدخل الدولة في الاقتصاد لم تكن له دائماً نتائج إيجابية، بل طرح إشكالات عميقة في وجه التنمية وفي وجه الديموقراطية أيضاً، بخاصة مع التجربة السوفياتية، ومختلف الأنظمة الشمولية التي كان يطغى عليها نظام الحزب الوحيد، إضافة إلى البيروقراطية والمركزية الشديدة والتبني الصارم للتخطيط وبعض الأطروحات النظرية التي كانت لا تنطلق من الواقع وخلفت نتائج سلبية، بخاصة في العديد من دول العالم النامي عند نهاية الحرب الباردة.