سكان "مقاطعة كيبيك" بكندا – وهم من أصول فرنسية – لهم نكتة معبرة، يقولون فيها: أقصر طريق إلى الثراء الفوري: هو أن تشتري فرنسيا بقيمته الحقيقية، وتبيعه بالقيمة التي يقدرها هو لنفسه.. فرنسا ما زالت إلى الآن تعيش حبيسة هذه النظرة إلى نفسها وإلى قيمتها ومكانتها.. تعتقد أنها دولة عظمى، يحق لها أن تتزعم القارة الأوروبية، وأن تضاهي أمريكا، وأن تتحكم في أفريقيا والعالم العربي، وأن تُسير لبنان وتملي عليه ما تريد.. وأن تمد نفوذها إلى الهند الصينية، وأن تنصب نفسها أستاذا دوليا في تلقين الديموقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان.. وهي في ذلك كله كالزوج المخدوع: آخر من يعلم الحقيقة.. منذ عقود نجح الفيتناميون في إذلال فرنسا وطردها تماما من جنوب شرق آسيا. ومنذ سنوات أصبحت علاقة فرنسا بدول المغرب العربي (مستعمراتها السابقة) لا تكاد تخرج من أزمة إلا لتدخل في أزمتين أو ثلاث.. وفي لبنان تعبنا من سماع الإملاءات والتهديدات التي وجهها الرئيس الفرنسي للساسة اللبنانيين، وكان يَظن أنها ستنفذ قبل أن يعود إلى مقامه، وإذا بها سراب بقيعة.. وها هي الصحوة الأفريقية تواصل الانعتاق والتحرر من القبضة الفرنسية، فيما يمكن تسميته بالاستقلال الثاني. ومع هذا كله، ما زالت فرنسا تحتفظ بوزارة "الجيوش" الفرنسية، وبإدارة ما وراء البحار، وبمنظمة دولية للفرنكفونية (أي لأصدقائها وأتباعها المفرنسين). وأكثر من هذا، تعيش فرنسا في داخلها انحدارا وتقهقرا فظيعا؛ حضاريا وثقافيا وحقوقيا وعلميا واقتصاديا. وحتى العقول والنخب المهاجرة من أبناء المستعمرات "الفرنكوفونية"، الذين تحملوا عبئا كبيرا في تحاشي الانهيار الفرنسي، بدأوا يشدون الرحال هربا من الانحطاط الفرنسي، ومن وطأة العنصرية والإسلاموفوبيا.. لقد آن الأوان للفرنسيين أن يدركوا أن قيمتهم الحقيقية ليست هي تلك التي يحلمون بها ويعيشون على أوهامها، وأن سعرهم قد هبط هبوطا حادا، بموازاة من الانتفاش المتغطرس الخادع، الذي جسده الرئيس ساركوزي وتلميذه الرئيس ماكرون.. ولو كان للعدل والديموقراطية نصيب معتبر في السياسة الدولية، لكان ينبغي أن تسحب من فرنسا العضويةُ الدائمة بمجلس الأمن، وأن تمنح للقارة الأفريقية، وللعالم الإسلامي، اللذين يضمان ما يقرب من نصف سكان المعمور.. ومع ذلك ليس لهما – لا منفردَين ولا مجتمعَين – العضوية والمكانة غير المستحقة التي لفرنسا..