هوية بريس – الأربعاء 06 أبريل 2016 طرح في غاية الوضوح، وفي غاية البساطة. يقبل الإجابة العقلية والإجابة الدينية والإجابة التجريبية. فالأتباع كثر يقدرون بالملايين، والمتبوعون قلة، إنهم زعماء فرق، وأحزاب، وجماعات، وهيئات، وقبائل، وفرق صوفية، ودول. هؤلاء يحملون من الأفكار والمبادئ والاقتراحات والمشاريع، ما يثير الانتباه في شتى المجالات، مجالات سياسية، ومجالات اقتصادية، ومجالات اجتماعية، ومجالات أخلاقية وفكرية ودينية وفنية. يعرضون ما تفتقت عنه أذهانهم وقرائحهم ومواهبهم من آراء، قدرتها المغناطيسية تتفاوت، مرة تسهل مقاومتها، ومرة تبدو مقاومتها صعبة المنال. وينظر إليها مرة على أنها من مبتكرات أصحابها، ومرة على أنها مستوردة دخيلة، ومرة على أنها تمطيط لمنتوج فكري جذوره ضاربة في القدم، بحيث إنهم صبغوها بروح العصر الذي هم من أبنائه. وبين الابتكار والاقتباس والنقل المباشر فوارق، نفوسنا الميالة إلى الجديد، تسعى وراء الإمساك ما أمكن بكافة خيوطه. فأن نتقدم بنظريات، أو بمناهج للرقي بالإنسان إلى مستوى عنده يحقق مطالبه الروحية شيء، وأن نتقدم بها للرقي به إلى حيث يحقق مطالبه المادية شيء، وأن نتقدم بأخرى للرقي به إلى حيث يحقق مطالب مادية وروحية في الآن ذاته شيء ثالث. إذ الإنسان جسد وروح، أو بعبارة أخرى جسم ونفس. فلا هو يقبل أن يكون مجرد حيوان، ولا هو يستطيع أن يكون مجرد ملاك، ولا هو يرضى أن يكون مجرد شيطان. مما يعني أنه مرغم على أن يظل حبيس إنسانيته أو بشريته. فالناصرية المتقدمة على البورقيبية بوقت قصير، لم تحرر شعب مصر من الهيمنة الرأسمالية، ولا حررته من الاستبداد الملكي الذي لم يكن يخلو من أضواء ديمقراطية، ولا وفرت له حرية الرأي والتكتلات في التعددية الحزبية، ولا طورت أوضاعه المادية من الأسوأ الذي كانت عليه إلى الأحسن الموعود به في الخطابات الثورية! ولا أفلحت في الاستفادة مما أممته من ممتلكات الأفراد والجماعات! ولا وفرت الاكتفاء الذاتي من مستلزمات العيش الكريم أو الكفاف، حتى لا نقول: العيش الرغيد، الذي لم يكن سوى من نصيب كبار الضباط الأحرار! ومن نصيب "الأقلية الخادعة" الحامية للأنظمة الاستبدادية في كافة عواصم الدول العربية من المحيط إلى الخليج!!! لكن الناصرية -إن لم تفلح في إرضاء تطلعات الشعب المصري -فإنها- وهي المتحكمة في الخزينة العامة للدولة- حاولت إرضاء طموحاتها الخارجية التي كانت تتمثل في تصدير الثورة، لا لمجرد نشر الفكر الناصري والترويج له على نطاق واسع يتعدى كافة الحدود -وكان الثوريون والتقدميون العرب من المروجين لها- وإنما كذلك لمحاولة تغيير مسمى الأنظمة الاستبداية الرجعبة! وتغييرها يتطلب ثروة مالية هائلة؟ وهذه الثروة من أين يأتي بها النظام الثوري الذي لا يريد أن يسمع أي حس للملكيات أو للإمارات، أو لجمهوريات رجعية لصيقة بالنظام الرسمالي والليبرالي المزيف! ومن يستطيع أن يقول للحكام الثوريين في مصر المحروسة، وفي سوريا والعراق البعثيين الثوريين، وفي ليبيا لاحقا: كفوا عن نهب المال العام؟ ثم إنه أي فرق بين هذا الرباعي الثوري من حيث الإساءة إلى الشعوب التي لا تريد أن تبدد ثروتها لتغيير الأنظمة الرجعية؟ وكم يلزم للقضاء على مملكة الحسن الثاني الذي هو في الوقت ذاته ملك وأمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين؟ وكم يلزم منها لمحو النظام البورقيبي من الوجود؟ وللقضاء على الملكية في كل من ليبيا واليمن؟ ومن يستطيع ستر فضيحة اعتقال محمد حسني مبارك غير بعيد عن الحدود الجزائرية من طرف المغاربة مطلع الستينيات من القرن الماضي؟ أو لم يبعثه دكتاتور مصر حينها لتفقد أحوال الجيش المغربي، كي يسهل على الحكام الاشتراكيين بالجزائر مهاجمته والنيل منه، وحرب الرمال حينها قائمة على قدم وساق؟ ثم من يستر فضيحة الهزائم التي تلقتها الجيوش المصرية على أرض اليمن، والتي كانت تقدر حينها بالآلاف، ومصر يومئذ تلقت هزيمة شنعاء من طرف الجيش الإسرائيلي المدعوم أمريكيا بالعتاد الذي بفضله ضرب الطيران المصري في القواعد، التي تركت هملا مكشوفة وبلا حراسة مشددة مطلوبة؟ وأي دعم إذن قدمته مصر الاشتراكية الثورية المنادية بالقومية التقدمية منذ عام 1952م إلى حين توقيع معاهدة مخيم داود المخزية؟ وهل قدمت للعرب غير العداء الذي لم تتردد في إذكاء أواره في مختلف العواصم العربية؟ وأية أهداف حققتها البورقيبية الرأسمالية الليبرالية لشعب تونس، الذي أغرته خطب المجاهد الأكبر النارية؟ أو لم يغرق بلده في الضلال بمفهومه السياسي والديني؟ أو لا يتضح من خلال تصرفاته السياسية مدى جهله بالليبرالية التي ترسو دعائمها على التعددية الحزبية، وعلى الديمقراطية، وحرية الرأي؟ وهو باعتماده على الحزب الوحيد كدكتاتور مصر، زعيم الضباط الأحرار، ألم يكن خصما لدودوا في بلده لليبرالية التي تتناقض مع الاستبداد والحزب الوحيد وتكميم الأفواه؟ وماذا عندما يبالغ في السخرية من الدين، ويزعم أنه من نتاج رجل كان يسافر في الصحراء، ويبحث عن تلك الخرافات التي ضمنها القرآن، هذا الذي يدعي أنه من عند الله؟ وهذا القرآن -كما قال- دعا إلى تأليه محمد كما يفهم من هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"، أو لم يضع القرآن -حسب ادعاء دكتاتور تونس- النساء في الحضيض، بحيث إنه أساء إليهن ببشاعة، لم تتقدمها في التاريخ البشري بشاعة مماثلة؟ وما الذي يضيره إن هو افتخر أمام المثقفين التونسيين والأجانب بإنجازاته التقدمية. ما الذي يضيره إن هو ادعى تحرير المرأة التونسية من كافة الأغلال مهما يكن نوعها؟ أو لم يضرب الدين والمتدينين في الصميم، حين ادعى أن جامع الزيتونة ببلده والقرويين بالمغرب والأزهر بمصر، لم يتخرج منها غير المتخلفين العاجزين عن مجاراة العصر الذي يجاريه حملة الشهادات العليا من الجامعات والمعاهد والكليات؟ أو لم يخبر بأن حكام مصر والمغرب معه في الأطروحة الداعية إلى إغلاق المعاهد الدينية المشار إليها قبله. لكن الحكام في البلدين، آثروا التقية على إظهار ما اقتنعوا به أمام الملأ؟ إنما ما الذي يعنيه أن نخضع المتدينين والعلمانيين في الوقت ذاته للمراقبة الأمنية البوليسية؟ وما الذي يعنيه أن نملأ السجون بالمعتقلين من أولئك ومن هؤلاء؟ أو لم يعتقل المناضل: منصف المرزوقي إلى جانب المناضل: راشد الغنوشي؟ أو لم يصبحا معا لاحقا لاجئين سياسيين لسنوات طوال خارج تونس؟ أو لا يشبه وضع تونسالرأسمالية وضع مصر الاشتراكية؟ أو لم تعرف سجونها كذلك آلاف المعتقلين العلمانيين والإسلاميين الذين دفعوا ثمنا باهظا لأجل انتزاع حرية الكلام لا أقل ولا أكثر؟ وحتى إذا ما آل الحكم بعد عجر الدكتاتور التونسي الهرم عن ممارسة مهامه، أو لم يكن من العدل أن تجري محاكمته، كما كان من العدل أن تجري محاكمة عبد الناصر بعد وفاتهما كليهما ليعرف الشعب في تونس وفي مصر مدى طغيان حاكميهما، ومدى الانحرافات التي أدت بالأمة إلى مهواة الضعف والانحدار في كافة الميادين؟ إن لم يقم هنا بتونس، ولا قام هناك بمصر مثل هذا الإجراء الذي نقترحه، فقد تم عندما حمل عمر بن عبد العزيز إلى السلطة بدون ما رغبة منه فيها. إنه فتح باب رد المظالم على مصراعيه، دون تقديم كيفيات ردها -كأمير للمؤمنين- بالتفصيل. وإنما نكتفي بنموذج واحد نقدمه في الآتي: "كان سليمان بن عبد الملك قد أمر لعنبسة بن سعيد بن العاص -من البيت الأموي الحاكم- بعشرين ألف دينار. فدارت في الدواوين حتى انتهت إلى ديوان الختم. فلم يبق لعنبسة إلا قبضها. فتوفي سليمان قبل أن يقبضها. وكان عنبسة صديقا لعمر بن عبد العزيز. فغدا يريد كلامه فيما أمر له به سليمان، فوجد بنو أمية حضروا بباب عمر، يريدون الإذن عليه بالدخول، ليكلموه في أمورهم، فلما رأوا عنبسة قالوا: ننظر ما يصنع به قبل أن نكلمه. فدخل عنبسة عليه فقال: يا أمير المؤمنين، إن أمير المؤمنين سليمان قد كان أمر لي بعشرين ألف دينار، حتى انتهت إلى ديوان الختم، ولم يبق غير قبضها. فتوفي على ذلك، وأمير المؤمنين (الآن) أولى باستتمام الصنيعة عندي. وما بيني وبينه أعظم مما كان بيني وبين أمير المؤمنين (سليمان). فقال له عمر: كم ذلك؟ قال: عشرون ألف دينار. قال عمر: عشرون ألف دينار تغني أربعة آلاف بيت من المسلمين، وأدفعها إلى رجل واحد! والله ما لي إلى ذلك من سبيل"!!! وهكذا نجد حكامنا الاشتراكيين والليبراليين، يتبجحون بالوطنية والتقدمية، والحداثة والعصرنة والقيم الكونية والإنسانية. لكنهم يمارسون الفكر الظلامي السلطوي والسياسي والحزبي! وفي الوقت ذاته يقفون وراء الترويج للفكر الظلامي الديني، على اعتبار أن موارده السياسية تساهم في إطالة عمر الأنظمة، وفي الإبقاء على العقلية الخرافية التي تؤدي من الأدوار ما خطط لها أن تؤديه! فصح أن المتبوعين الذين تقدر أعداد تابعيهم بالملايين، لا يمكن أن يكونوا كلهم على حق؟ والحال أن المتبوعين من الطرقيين والقبوريين عبر العالم الإسلامي حتى الآن، لا يرجى منهم بناء دولة أساسها الحرية والكرامة والديمقراطية والعقلنة أو العقلانية بمعناها المنطقي الواسع، الذي يرفض الأوهام والأضاليل والترهات والخرافات!!! [email protected]