يُصور لنا تصريح وموقف وزير العدل المغربي عبد اللطيف وهبي على خلفية الضجة التي صاحبت الإعلان عن نتائج الناجحين في الولوج لمهنة المحاماة نموذجا لتطور وتدهور الخطاب السياسي المغربي والعربي بشكل أعم، فبعد أن دأب السياسيون والقادة العرب في فترة ما بعد الاستقلال على نوع من التأطير والحشد الجماهيري مستعملين في ذلك لغة دبلوماسية فيها الكثير من المُداهنة والمغازلة وكثرة الوعود والأحلام والأوهام، فيما كان يعرف عندنا بلغة الخشب، فكانت هذه اللغة عند الكثيرين من أبناء الشعب خاصة من المثقفين ومن يعي ألاعيب السياسيين تثير الاشمئزاز وتبعث على الملل والضجر، خاصة عندما علم الشعب بعد عدة محطات ووقائع بزيف هاته اللغة ونفاق أصحابها، ووصوليتهم وانتهازيتم لنيل المناصب والمراتب، وإن كان من حسنات لهذه اللغة إن جاز أن يكون لها حسنات، فهي أنها كانت تتسم ببعض الدبلوماسية وتنميق الخطاب، فلم تكن تصدم الشعور العام، وكانت تحافظ على الحد الأدنى من اللباقة والذوق وإن لم يكن لها مصداقية أو نزاهة. ولهذه الأسباب، وبعد عقود من الكذب المُمنهج والشعوب صابرة تكظم غيظها وتصبر على هؤلاء السياسيين المتملقين المتحذلقين، وتلك الأوضاع الاجتماعية المتردية والخروقات المتتالية لحقوق الناس، قررت الشعوب الانتفاضة ولفظ أشباه السياسيين أولئك ومحاسبتهم، أو على الأقل إبعادهم وإقصائهم عن المشهد السياسي والاجتماعي العربي وتجريدهم من كل شرعية. وهكذا باتت لغة الخشب مكشوفة سوءتها، بَينا كذبها، مرفوضا سماعها، وفي أثناء تلك المرحلة الانتقالية القصيرة غداة ثورات 2011 العربية، برزت على السطح ظواهر سياسية جديدة وشخصيات سياسية غير معهودة قررت تجديد اللغة والخطاب والقطع مع لغة الخشب التي ما عادت تنطلي على أحد، كما أنها لم تعد مناسبة لمرحلة الثورات والدساتير الجديدة ذات اللبوس الثوري. فظهر عندنا في المغرب مثلا عبد الاله بنكيران الذي جاءت به أمواج ما سمي بالربيع العربي، كما ظهر سياسيون وقادة آخرون اتخذوا من اللغة الصريحة والمباشرة التي رآها الكثيرون آنذاك ذات مصداقية ونزاهة ونوعا من المصالحة التاريخية مع الشعوب، ونعم ففي السنتين أو الثلاث التي تلت هَبَّة الربيع، اتسمت الساحة السياسية العربية بنوع من النشاط والحيوية في العمل السياسي على صُعُد كثيرة، وظهرت بعض الشخصيات التي أعطت للمشهد السياسي العربي رونقا وطابعا خاصا حتى استبشر به الكثيرون، فظهر كذلك المنصف المرزوقي في تونس بكاريزما خاصة لسياسي وحقوقي مناضل، وهو كذلك أكاديمي ومفكر يستعمل لغة سياسية نظيفة وذات مصداقية حسب كثير من الملاحظين، كما صعد نجم الإخوان المسلمين في مصر وكانت هناك عدة شخصيات، ولعل أبرز من مثل هذه الصيحة الجديدة من اللغة السياسية ذات النفس الثوري الأقرب إلى قلوب الشعوب وضمائرها. وكان الرئيس الراحل محمد مرسي رحمه الله والذي برغم كونه عالما وأستاذا جامعيا في أرقى جامعات الغرب إلا أنه كان يتحدث إلى الفلاحين لغتهم، وإلى العمال لغتهم وإلى عامة الشعب بلسانهم ومنطقهم. وبالعودة إلى المغرب فقد بدا بنكيران بشكل استثنائي مُلفتٍ عقب تعيينه أول رئيس للوزراء لحكومة مغربية بعد الربيع العربي، وقد حاز اهتمام بل إعجاب لفيف من أبناء الشعب بُسطائهم ومثقفيهم، حتى أن الكثيرين أجمعوا آنذاك أن بنكيران قد بعث السياسة من موات وأعطاها حياة ومعنى وأحيى اهتمام عامة الشعب بالسياسة عندما استعمل لغة مباشرة أقرب إلى فهمه مصارحا إياه بالكثير من الحقائق وبعض ما كان يجري في دهاليز السياسة، فوجد الكثيرون ذلك جرأة منه حبذوها وخطابا مباشرا وصريحا كانوا بحاجة إليه. لكن ذلك كما أشرنا لم يدم إلا زمنا يسيرا حتى بدأت تعود فلول الأنظمة التي اعتقد الجميع أنها أصبحت بائدة، غير أنها في الواقع كانت فقط تعيد ترتيب أوراقها وتغير جلدها ليبدو أكثر اتساقا وتناسقا مع المعطيات الجديدة التي خلفتها موجات الربيع العربي، ولتبدو أكثر اقناعا وإسكاتا للمراقبين الأجانب الذين لم يعد ضمن مصلحتهم مناصرة الديكتاتوريات الكلاسيكية وأزلامها، لتعود إلى المشهد كائنات سياسية هجينة تحافظ على جينات الأنظمة السابقة ولكنها تتخذ أقنعة مختلفة خاصة عند قلبها الطاولة على الحكومات الأكثر مصداقية التي أفزتها انتخابات ما بعد الثورة، والتي أجمع جل المراقبين أنها كانت الأكثر شفافية ونزاهة في التاريخ الحديث للشعوب العربية. ففي مصر، وبعد أن لعب الإعلام لعبته بدعم وأموال سخية من بعض دول الخليج تمت شيطنة حكم الإخوان المسلمين وترهيب الشعب وباقي الجهات الإقليمية والدولية منهم، كما تم اختلاق كثير من الأزمات وتضخيمها إعلاميا مما زاد من احتقان الشارع بشكل تلقائي نتيجة للتهييج الإعلامي، أو نتيجة لخلق حركات احتجاجية بأكمها وتمويلها لقيادة التمرد وصناعة ثورة مضادة لكنها مزيفة، وبعدما نجح هذا المخطط وأزيحت حكومة الإخوان ورئيسهم، ثم التنكيل بهم أشد التنكيل حتى بلغ ذلك ذروته بما يشبه الاغتيال للرئيس محمد مرسي في معتقله، أما ما يهمنا في هذا المقال فهو ما حصل بعد ذلك في الخطاب السياسي الذي تبناه الرئيس المنقلب وجوقته الإعلامية، فقد كان خطابا قمعيا، بل تحقيريا للشعب، إعلام لم يتورع عن إعلان أخبار كارثية عن معيشة الشعب كارتفاع الأسعار و تفاقم الريع وضياع المكتسبات الترابية والمائية بكل صلافة وأحيانا وقاحة، بلغة صادمة خالية من أية محسنات أو مُرطبات، وكأن لسان حالهم يقول: ها نحن نفعل ما نريد ولا يستطيع أحد من الشعب تحريك ساكن! بل قد قالها جنرال الجيش صراحة حين صرح: إما أن نحكمكم أو ننكل بكم! ولعلها أعلى درجات القمع والتسلط في الخطاب السياسي العربي المعاصر الذي كان يتجنبه حتى الديكتاتوريات السابقة. ثم في تونس وبعد أن كانت مضرب المثل في نجاح الثورات العربية، حدثت الانتكاسة وجاء رئيس تظاهر في أول الأمر على أنه واحد من الشعب، أستاذ جامعي مثقف، مفوه بلغة عربية فصيحة، لكنه سرعان ما بدأ ينقلب على ثوابت الدستور ويضرب في مقومات الثورة ومكتسباتها، ليستحوذ على كافة السلطات ويلغي البرلمان وينصب حكومة صورية، أما خطابه، الذي لم يحافظ فيه إلا على لغته العربية الفصحى من حيث الشكل، فقد تحول إلى خطاب قمعي، يُخَون ويتهم فيه كل من عارضه، ويتوعد ويهدد كل خصومه مما رجع بتونس إلى زمن القمع والتسلط والشطط لتفقد الثورة وهجها، ربما إلى حين! أما في المغرب حيث ننتهي بما بدأنا، فإن تصريح وزير العدل حول مباراة المحاماة وتحديه للجميع بكونها مرت في نزاهة تامة رغم الكثير من الشبهات حولها، وفي سؤال حول نجاح ثلاثة أفراد من عائلته رد برد غاية في الاستفزاز ولا يخلو من وقاحة: أن ابنه قد درس في كندا ويتحصل على إجازتين في الحقوق وأنه بناء على ذلك يستحق النجاح بجدارة بعد أن صرف عليه أبوه الغني- عبد اللطيف وهبي- أموالا، في إشارة واضحة لا تخلو من غباء سياسي إلى أن النظام التعليمي للبلاد فاشل ولا يُخَرج طلابا أكفاء يستطيعون مجاراة من درسوا في الجامعات الأجنبية، قد يكون ذلك ممكنا في مجالات دراسية أخرى ولكن الغريب هنا أننا بصدد مباراة للمحاماة تتعلق بصميم القانون المغربي بخصوصيته كسائر القوانين المدنية التي تحكم أي مجتمع أو دولة، والمبنية على فقهها القانوني الخاص النابع في جانب مهم منه من مرجعيتها الدينية وأحوالها الخاصة وأعرافها، منظومة قانونية لا يصلح أن تطبق إلا في داخل البلد، فكيف إذن لمن درس قوانين بلد آخر مهما كانت درجة تقدمه أن يكون ذلك مؤهلا حاسما له وتجعله مفضلا على غيره لممارسة المحاماة في إطار قوانين بلد آخر الذي هو هنا لمغرب!! لكن الإشكالية هنا ليست عندنا في ذلك، بل هي في إصرار الكثير من السياسيين وخاصة عندما يكونون وزراء ومسؤولين على استخدام خطاب جريء حد الوقاحة، صادم حد الاستفزاز، في تجاوز للغة الخشب التي تستعمل المداراة والمراوغة إلى لغة صلبة متحجرة لا ليونة فيها ولا مراعاة لأي معايير اللباقة أو الدهاء السياسي. وهي محاولة من السياسيين ليظهروا أكثر شفافية وصراحة وتواصلا مع الشعب، غير أن ذلك فن وموهبة لم يُؤتها كل من هب ودب من سياسيي مع بعد الثورات المضادة! رهان وتحد كان قد نجح فيه إلى حد معين عبد الاله بنكيران وكسب به شعبية ومصداقية، لكن هو ذاته حدثت منه انزلاقات في أواخر عهده جعلت لغته تفقد الكثير من وهجها ومصداقيتها عن الكثيرين، أما الآخرون الذين يحاولون تقليد هذا النمط من الخطاب بركاكة، فإضافة إلى الشبهات الكثيرة حول نظافة ذمتهم السياسية وكون مصداقيتهم مضروبة عبر محطات عديدة، فإن عدم إتقانهم لتلك اللغة التي تتطلب حذرا وحنكة، جعلهم في الكثير من الأحيان يُكرسون الخطاب الصادم، المستفز والمؤلِّب للرأي العام، وهذا الخطاب المندفع الأرعن والمستفز هو ما سيفقدهم ما تبقى من شرعية. ويجب أن يعلم هؤلاء أن اللغة السياسية الصادقة المباشرة والأقرب إلى ضمائر الشعوب وقلوبها واهتماماتها هي من قبيل السهل الممتنع، فهي وإن كانت تبدو بسيطة وسهلة، فليس كل من هب ودب من السياسيين يُتقنها ويتفادى مطباتها، حيث تلزمها الكياسة والحنكة والدماثة، والتفكير في الكلام مهما كان بسيطا قبل نُطقه، فهي لغة بسيطة عميقة، مباشرة لا تصدم، فيها صراحة دون وقاحة، وقد يكون فيها تلميح خاطف ذكي يغني عن تصريح متهافت غبي، وهذا أحد فنون الخطاب السياسي الذي لم يؤته أي كان. لكن واقع الحال أن واقع الخطاب السياسي العربي عموما قد تدهور وتقهقر كانعكاس لانتكاسة العمل السياسي نفسه وخفوت بريقه بعد أن تزعزعت الكثير من المفاهيم والآليات، وضُربت مصداقية أغلب الحركات والهيئات بعدما ضعضعتها معاول الثورات المضادة فبات من الضروري إعادة البناء النظري والأخلاقي للعمل السياسي وجعل المشروع المجتمعي الحقيقي في صلبه، وحينئذ سيتغير الخطاب السياسي نحو الأفضل والأرقى وقد نشهد روحا متجددة للثورة والنهضة والبناء الحضاري الحق.