الجزء الرابع خصّ الدكتور محمد شقير، أستاذ باحث في العلوم السياسية، جريدة هسبريس بدراسة مفيدة حول زعماء الأحزاب السياسية بالمغرب، انتقالا من قيادات توصف بالتاريخية، إلى أخرى تنعت بكونها تقنوقراطية، ثم وصولا إلى زعامات حزبية شعبوية. ونظرا لطول دراسة شقير، ارتأت جريدة هسبريس الإلكترونية أن تُقسم المقال إلى خمسة أجزاء. وفيما يلي نص الجزء الرابع: الخطاب الشعبوي يرى سعيد العلام، رئيس مركز الدراسات والأبحاث في منظومة التربية والتكوين بالرباط،أن "الشعبوية سلوك أصيل في الفعل السياسي ببلادنا يمارسه كل الفاعلين؛ لكن بأساليب مختلفة. فطبيعي أن تنتعش الشعبوية في جل البلدان العربية؛ لأنها مرتبطة بحجم التحولات التي يعرفها كل مجتمع على حدة، فكلما اتجهنا نحو تكريس مفهوم السيادة للشعب اتسعت دائرة الخطاب الشعبوي. ويبدو أن النظام المغربي ينتج هو أيضا "خطابا شعبويا، منسجما مع مرجعتيه الأيديولوجية ونمط المشروعية التي ينهل منها سلطته". كما يعتقد العلام أن من يمتلك ناصية الشارع هو من يكون خطابه مبنيا على "الاتصال المباشر بالجماهير ومخاطبتهم بلغة يفهمونها عوض لغة الخشب التي يروجها عقلاء السياسة". أما عبد العلي حامي الدين،عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، فيرى ضرورة التمييز بين البساطة في الخطاب وبين شعبوية الخطاب، معتبرا أن من سمات الأولى الصدق والواقعية والصراحة، بينما ترتكز الثانية على المناورة والخداع وتضليل الجماهير. وبالتالي، فإن البساطة في الخطاب الحزبي "أصبحت تمثل ثورة حقيقية في عالم السياسة، لأن روادها يعيشون مع الشعب ويشعرون بمعاناته ويزعجون بتصرفاتهم كل من يحتكر العمل السياسي، إذ إن بعض القوى السياسية تحارب منطق البساطة عند بعض السياسيين المغاربة بملاحقتهم بتهمة "الشعبوية"، معتبرا أن سر نجاح عبد الإله بنكيران في تواصله مع الناس ليس في شكل الخطاب فحسب، ولكن في "مصدر الخطاب ومضمونه، وفي مصداقية صاحب الخطاب وخلفيته السياسية والتاريخية". وقد حاول أحد الباحثين تشريح هذا الخطاب الشعبوي لبنكيران من خلال تحليل أحد حواراته التلفزيونية، حيث كتب بهذا الصدد ما يلي: "عرف عبد الإله بنكيران بخطبه، ومحاضراته، ولقاءاته التي غالبا ما تلفت الأنظار، وتشد الانتباه إليه. وقد ازداد هذا الأمر بعد وصول حزبه –العدالة والتنمية- إلى السلطة بعد انتخابات 25 نونبر، في ظل حراك سياسي بالشارع المغربي، وفي ظل سياق إقليمي ودولي جد حساس، هذا الحدث الذي سيسلط الأضواء أكثر على شخصية بنكيران، بين منتقد ومأخوذ بنتفه وكلماته. إن صعود حزب بنكيرانوترؤس هذا الأخير للحكومة يقتضي منا الوقوف ولو لحظة أمام الخطاب السياسي الذي يقدمه إلى المغاربة، والوقوف على مضامينه وخلفياته، باعتباره يصدر اليوم عن شخص سيتقلد أمور وشؤون المغاربة، وسيكون مسؤولا عن مستقبلهم، وعلى اعتبار أن هناك رؤى مختلفة حول العامل الذي كان السبب في صعود هذا الحزب؛ فالبعض يرد هذا الأمر إلى استعماله للدين في السياسة، في حين يردها البعض إلى السياق الإقليمي أو إلى شعبويته الزائدة. ومن هذا المنطلق، أي من منطلق محاولة الفهم، حاولت، من خلال الحوار الذي أجراه مع القناة الأولى، أن أقف على مضامين هذا الخطاب وبنيته اللغوية والحقول التي ينهل منها؛ وهو أول حوار يجريه مع القنوات الإعلامية بعد تعيينه من لدن الملك وتكليفه بتشكيل الحكومةوار يأتي في وقت حساس قد يستحق منا اعتماده على الأقل في عملنا هذا كموضوع للدراسة والتحليل. وعند الحديث عن خطاب بنكيران كما هو الشأن في أي خطاب، فإنه يقتضي جمهورا يتوجه إليه، ورسائل يرسلها بشكل مباشر أو غير مباشر عبره، ووظيفة يؤديها وتكون الغاية الجامعة لكل هذا. إن هذه المستويات الثلاثة ستتبدى لنا من خلال رصدنا وتحليلنا لنص خطاب بنكيران: فمن حيث اللغة نجد بنكيران في حواره مع الصحافية فاطمة برودي التي ابتدأت معه الحوار مسائلة إياه باللغة العربية الفصيحة، يمزج بين الفصحى وبين الدارجة المغربية، وبعض العبارات الفرنسية؛ لكنه يعتمد في أغلب حديثه عن اللغة العامية، في بساطتها، وكما هي متداولة عند الفئات المختلفة للشعب المغربي. فنجده يستعمل الفصحى في مواضع حمد الله، أو ذكر بعض العبارات الدينية، وفي أحيان أخرى قليلة بالقياس إلى الاستعمال الكبير للدرجة المغربية، ومن حين إلى آخر يطل علينا بعبارة فرنسية؛ وهو ما يثير الانتباه، خصوصا أنه حين يقف مصطفا في المعارضة كان من أشد المعارضينلوجود هذه اللغة في الإدارة المغربية وسيطرتها عليها. كما يبين أنه ربما يريد أن يخاطب العامة أكثر من مخاطبة النخبة، لأن الدارجة المغربية أقرب إلى أفهامهم وتداولهم اليومي، وأراد أن يكسر الصورة النمطية لشخصية الوزير الأول الرزين الذي يتكلم بلغة عربية فصحى، أو على الأقل لا يغلب عليها الدارجة. هذا مع العلم أن بنكيران كان في الشبيبة الإسلامية، وهم أشد إتقانا للفصحى وأكثر ميلا إليها. إن بنكيران في حديثه يستعمل تقنية التعريف، فهو قبل الخوض في الإجابة عن أسئلة الصحافية التي تحاوره، فإنه يشرع في شرح مفهوم ما، أو طريقة ما، كما يفعل في مسألة النسبة التي يجب أن يتوفر عليها لكي يحكم، وهو أسلوب يفترض أن الجمهور الذي يتوجه إليه ليس على علم بهذه الأمور؛ وهو ما يعني مرة أخرى أنه خطابه موجه إلى الطبقات ذات الثقافة السياسية المتواضعة. وبالإضافة إلى أسلوب التعريف، يحرص بنكيران على التبسيط والشرح ما أمكن ليجعل كلامه في متناول الجميع، ومختلف فئات المجتمع. ومن الملاحظ أيضا أن عبد الإله بنكيران يستعمل الزمن الماضي كثيرا في حديثه، فنجد أفعالا من قبيل {درنا، مشينا، قلنا، تمنينا،...} وهو زمن الحكي؛ لكن ممكن أن يكون علامة على هوسه بالماضي، خصوصا أنه ذو مرجعية سلفية، تستمد روحها من الماضي لا من المستقبل. كما يسجل المتتبع لحوارات عبد الإله بنكيران أنه لا يتمم في الغالب في حديثه الجملة وينتقل من فكرة إلى أخرى، ولا يحافظ على التسلسل المنطقي للأفكار، وهو يعترف بهذا الأمر للصحافية قائلا: "سمحي لي إلا دخلت ليك شي فشي". إن هذا الاعتذار يحيلنا إلى تقنية أخرى يستعملها بنكيران في خطابه، وهي تقنية الحكي، فهو حكواتي ماهر ومحترف، يأخذ السامع معه، وفي لحظة يخرق التسلسل العادي للأحداث، وهذا عامل إثارة، ونجده يقول معلقا: "دابا مغاديش نقول شي كلمات كنت كنقولها"، أي يعمل هنا على عامل التشويق، تشويق المستمع إلى سماع ما لا يريد بنكيران أن يفصح عنه في أسلوبه. ذاك الأسلوب الحواري الذي يعتمد في سرد الأحداث وهو يحكي عن مشاوراته لتشكيل الحكومة مع الأحزاب (قلت له، فقال لي، تكلم وانصت اليه،....)، أحداث يكون فيها السي بنكيران بطل الحكاية دائما، والمتحكم في فصولها، وخيوط أحداثها. ومن المسائل الأخرى التي تلاحظ في خطابه هو جوابه عن السؤال بالسؤال المضاد، أنه يريد أن يحرج السائل، ويتحايل بالتالي على سؤاله، أو ربما لأنه يريد السيطرة على الحوار، ويصبح هو الموجّه لا موجَّها، حيث تجده يستعمل التكرار، إما للتأكيد على ما يقول أو تمهيدا لبناء ما يود قوله لاحقا. وحينما يفشل في ذلك، يستعمل لازمة، لا تفارقه في حديثه {فهمتني ولا لا..}، إن هذه اللازمة كمحطة راحة، منها ينطلق لمواصلة حكاياته الطريفة والمثيرة. إن خطاب بنكيران يستعير كثيرا من المعجم الديني، حيث نجد أن كلمة الله وحدها مذكورة أكثر من أربعين مرة في الحوار نفسه، بالإضافة إلى العبارات الأخرى التي تنتمي إلى الحقل نفسه "البسملة، الحمد، القدر، الله خلق الإنسان حرا، المتقبل بيد الله، الا يسر الله....)، وهو يستعمل هذا المعجم في محطات معينة: أولا عندما يتعلق الأمر بمسؤوليته المستقبلية كرئيس للحكومة، فيربط مسألة تحقيق وعوده بمشيئة الله {الضامن هو الله....}، أو ما يتعلق بذكر مكانه الملك {أنا كنطلب الله ميخيبناش مع الله..... ومع جلالة الملك} و{إلا قلت ليك سيدي محمد..... هادي احسن سمية هي سمية النبي صلعم}، إذ غالبا ما يذكرهما في الجملة نفسها؛ ثانيا لتبرير مواقفه التي قد يؤاخذها عليه من معه توجهه، كما هو الشأن عندما تحدث عن الحريات، فقال (الله حمى الشأن العام...}، و(إذا ابتليتم فاستتروا....)... إذن، هو معجم يمسح فيه نواقصه، ويتهرب فيه من مسؤولياته، بدعوى القدر ومشيئة الرب، ومعجم يدغدغ به عواطف الجمهور الذي أغلبيته مأخوذ بالعاطفة الدينية ومسكون بها، وللتأكيد على مرجعيته التي كانت سببا في إيصاله إلى سدة الحكم، ممزوجة بشعبويته اللامحدودة؛ لكن نجد معجما آخر يستعير منه بنكيران وهو المعجم الرياضي، فنجد مصطلحات {اللعبة، إلا وصلتي انت الاول...، لاربيت، البيت بيت.. الماتش...} حاضرة في خطابه، والملاحظ هو أن هذا المعجم يستعمله حينما يتحدث عن قواعد الممارسة السياسية، أي أنه لا يلتجئ فيها إلى مرجعيته الدينية، بل يتصورها وفق هذا التصور كملعب لكرة القدم، وعلى كل واحد أن يؤدي دوره على أحسن وجه؛ لكنه في الوقت نفسه، هذه الأدوار عندما تتعلق بشخصه، يتم تغليفها بمسحة قدرية وجبرية، في أن مصير الأمة والمستقبل بيد الله، ولا نعلم ماذا يمكن تحقيقه، أو عندما تتعلق الأمور بدغدغة عواطف الشعب والفئات الدنيا فحدث ولا حرج. إن رصيد بنكيران غني، كما رأينا، بالمصطلح الديني؛ لكن هناك أيضا رصيد من بعض المصطلحات التي تنتمي إلى مجالات أخرى، والتي ربما نحتاج إلى الوقوف عندها لنرى ماذا يقصد به بنكيران، فمثلا ترد في كلامه كلمة "التشبيب" نجد أنه لا يعني بها حق الفئات العمرية الشابة أن تشارك تحمل مسؤوليات داخل الدولة بالموازاة مع الفئات العمرية الأخرى، بل يريد منها فقط أن تكون ليصبح بمقدوره إصدار الأوامر إليهم بسهولة، ولأنه كما يقول يكون حضور الدين لديه أكبر. كما نجد كلمة "الحريات" تحضر في كلامه على مستويات، من قبيل حرية المعتقد أو الحريات المدنية الأخرى، نجد لها إشارات، فمثلا عندما يقول يجب أن لا يخرج المرء بما لا يتوافق وعقيدة المغاربة إلى الفضاء العام، وهنا تصبح الحرية غير ذات معنى؛ لأن ذلك الفرد بمستطاعه أصلا سواء برخصة بنكيران أو عدمها أن يفعل ما يشاء في خلوته أو وهو مستور. إن الحريات عندما تثار للنقاش تثار وهي يقصد بها حضورها وتمثلها في المجال العام، الشيء الذي يتهرب منه بنكيران بالتدليل من الشرع {إذا ابتليتم فاستتروا...}.. إذن، مجال الحريات في خطاب بنكيران، بالرغم من المستملحات التي يقدمها بشعاراته، فإن الرسالة الضمنية التي يرسلها تدل على أن ثقافة الحجر والاضطهاد لا تزال مسيطرة على فكر الرجل وخطابه، وتحضر فيه بشكل ضمني. إن بنكيران يريد أن يخلق عالما جديدا من الشخصيات نفسها، فهو يحاول أن يفرض قاموسا خاصا به، وهذا الأمر أول ما نجده هو تسميته للملك، وتعويضه باسم {سيدي محمد...}، ويسمي الحوار ب{اذكرنا..}، ومجموعة من الأسماء الأخرى، لأن الأسماء أحيانا من كثرة تكرارها تفقد حمولتها، ولعل بنكيران يريد أن يمنحها قوة جديدة ودفعة أخرى في ولايته. كل هذه الأمور فيما يتعلق بالبينة اللغوية والتركيبة التي يتكون منها خطاب بنكيران؛ لكن بالإضافة إلى هذا، فإن هذا الحوار يتضمن أيضا النشاط العلاماتي مثل المسرح الذي يجري فيه الحوار، حيث نجده فضاء بسيطا، يحضر فيه العلم الوطني وصورة الملك وغير ذلك ديكور متواضع، هذا بالإضافة إلى لباس بنكيران، حيث لا يحضر فيه هندام رؤساء الحكومة السابقين، الذين نجدهم دائما حرصين على أناقتهم، وربطة العنق؛ لكن بنكيران نجده بلباس بسيط، غير منسجم، لا تحضر فيه ربطة العنق، فوضى كبيرة في هيئتها، خصوصا مع حذائه البسيط، وطريقة جلوسه التي توحي لك بأنه شيخ من "شيوخ الحومة". كما أنه يحضر في هذا الخطاب اتصال غير الشفهي – مثل حركات الرأس أو الأيدي...- حيث نجده يستعمل اليد اليمنى كثيرا في حين يتكئ على اليسرى، هل لأنه ذو مرجعية إسلامية تحث على استعمال اليد اليمنى فاعتاد في حياته ذلك، أو أن طبيعة حواره تقتضي ذلك؟، يبدو أن وضعه هذا يوحي بأنه في حالة قلق ومواجهة، حيث يهاجم باليمنى ويحافظ على توازنه باليسرى، إنه يحرك يده اليمنى كثيرا، ويذهب بها بعيدا، تكاد تبدو قريبة من وجه محاورته، وكأنه يحاول أن يسيطر على الحوار. إنه يحضر بملامح تتفاعل مع سياق الخطاب، ويبدو عليها الجد، خصوصا مع لحيته الخفيفة البيضاء، التي لطالما اقترنت في مجتمعاتنا بالوقار والرزانة. كل هذا ربما يساعد بنكيران على تكسير تلك الحواجز بينه وبين المستمع من الطبقات الدنيا والتي تشكل فئة عريضة من الكتلة الناخبة، والتي ترى صورتها في هذا الشخص بهيأته وعناده، بل وشعبويته وبساطته. نستنتج مما سبق أن وصف البعض لخطاب بنكيران بالشعبوية هو فيه كثير من الصواب، باعتباره لا يعير أيّ اهتمام لتناسق أفكاره أو لتقديم تصور معين لما جاء من أجله، بقدر ما يعطي اهتماما أكثر للتأثير على المتلقي البسيط، وتخديره باعتباره هو أعرف بهمومه {خاص لمغاربة اترشحو كاملين... باش انزلو لبرارك اويعرفوكيفاشعايشين فيها الناس....}، وأنه يمثلهم، أي تلك الفئة التي لا تستطيع أن تعبر عن وضعها، والتي يقول إنها أحق بالاهتمام، أي تلك الكتلة من الناس التي لا تحتج. إن بنكيرانكان حريصا، في أول لقاء له مع قناة تلفزيونية، على توجيه رسائل عدة إلى مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في هذا البلد وخارجه، رسائل طمأنة بالدرجة الأولى؛ لأنه جاء بعد نقاش طويل وقلق من صعود تيار الإسلاميين. ومن ثم، كان طبيعيا أن يحاول كسب ثقة الجميع، حتى يجد الجو المناسب للعمل خلال ولايته في أفضل الأجواء. وأول من يوجه إليه رسائل الطمأنة هو الملك، ونجد هذا في عبارات (الذي يحكم هو جلالة الملك) وكأنه يقدم تأويله للدستور، ويطمئن الملك أنه لن يتجاوز حدوده، ويغازل المؤسسة الملكية مرة أخرى بقوله (الملك هو الضامن لنزاهة الانتخابات وليس هذا الحراك في الشارع) وكأنه يريد حجب دور حركة 20 فبراير، وفضلها في جعل "البيجيدي" يصل إلى السلطة، ويصور لنا العلاقة معه (لما التقيته، كنت أستمع وهو يتكلم..) أي بلغة أخرى أنا تلميذ وهو الأستاذ، هو الآمر وأنا المطيع المنفذ، ويخيّره بنكيران بأي لفظ يخاطبه.. ولعل الصورةالتي قدمها بنكيران عندما سئل عن الأقطاب الكبرى التي يمكن أن تفرز وتوضح الخارطة السياسية بين الفرقاء ذوي الخلفيات المختلفة إيديولوجيا، أجاب {المغاربة كعائلة.. والملك اب ديالها}، أيضا في موضع آخر وكأنه يقول بالرغم من كل مكانة الملك هذه إلا أنها لا تفرض عليّ شيئا.. وهذا يتبين في قوله {لم أتفق معه على أي سقف زمني حول وقت تشكيل الحكومة بل هو مفتوح. وبما أن الحزب كان موضع شك وحذر من لدن الحقوقيين والغرب نظرا لمواقفه من قضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة والحريات الأخرى، فإنه سارع إلى طمأنتهم.. وهذا نجده مثلا في ما يتعلق بفرنسا استعماله لعبارات فرنسية، بالرغم من كونه كان ضد الفرنكفونية لما كان معارضا، وفي الوقت نفسه يلمح إلى اللغات الأخرى كالإنجليزية والصينية والإسبانية، تحت ما سماه بالتوازن. وفي السياق نفسه، نجده يقول بأن الغرب شريك فلسفي للمغرب، وهو حليفنا، ولن يتغير هذا الوضع، لأنه حتى المصلحة لا تقتضي ذلك...}، وهذا تطور في خطابه، على اعتبار أنه كان بالأمس القريب من دعاة التحالف مع الشرق على حساب الغرب. وهذا كان بشكل أوضح عندما طرحت مسألة الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي، حيث كان موقفهم يبنى على حساب الغرب لصالح الانضمام إلى الشرق. كما نجد عبارات أخرى تنحو هذا المنحى، سواء في طمأنة الغرب، أو الحقوقيين وعلمانيي الداخل، مثل {أنا أؤمن بالحرية، لأن الله خلق الإنسان حرا} و{لن أتدخل في شؤون الناس الخاصة}، {مشاكلتنا هي الديمقراطية وليس الاسلام }. وهنا، يطرح سؤال لماذا هو في حاجة إلى تكرار أمور تعدّ من قبيل المسلمات؟ ربما لأنه أحس بحذر وتخوف الجميع من صعود حزبه الذي لطالما لم يخف مواقفه اللاديمقراطية من مجموعة من القضايا؛ ومن بينها قضية المرأة، التي نجده يغازلها بقوله {المرأة عنصر أساسي في المشاركة المباشرة منذ زمان، ويجب أن تكون المرأة في الحكومة، لا لكونها امرأة، بل لكونها ذات كفاءة تتعدى الرجل أو مساوية له} أو {لا يمكن أن نتراجع عن الاستحقاقات إلى الوراء، المغرب خطا خطوات في الحريات والحقوق ويجب أن نعمل على تطويرها وليس التراجع عنها}، مع العلم أنه كان من المشاركين في المسيرة التي نظمت بالدار البيضاء مع المعارضين لمدونة الأسرة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن خطابه يحتوي على رسائل إلى الشارع المغربي المتحرك، الساخن، وهذا يتبين لما يقول: {لا بد أن تستجيب لمن يناضل في الشارع وإلا سيوقف لك سير العادي للأمور ولكن ليس له وحدهم، بل يجب الاهتمام أيضا بأولئك الذين يعانون ولا يعرفون كيف يدافعون عن حقوقهم، أو الذين لا يخرجون إلى الشارع للاحتجاج}، وربما هنا يريد أن يعطي لنفسه صورة بأنه يرى ويأخذ على عاتقه إنصاف حتى أولئك الذين لا يخرجون إلى الشارع، أو لربما لثنيهم عن فعل ذلك مستقبلا على اعتبار أن بنكيران يعرف همومهم، وسيعمل على الاستمتاع لشكواهم على قدم المساواة مع من نزلوا إلى الاحتجاج). من خلال هذا التحليل، يلاحظ أن الخطاب الشعبوي لبنكيران يعتمد على جملة من الميكانيزمات اللغوية واللفظية، كبساطة اللغة المستعملة، واللجوء إلى بعض التعابير الكروية أو الكلمات الدينية، بالإضافة إلى الحكي وتفسير بعض القضايا والأمور بغرض التواصل مع أوسع الفئات الشعبية التي تشكل بالنسبة له جمهوره وخزانه الانتخابي؛ لكن هذا الخطاب الشعبوي، بمختلف مكوناته، لن يبلغ الهدف منه إلا بالتصاقه بشخصية مثل شخصية بنكيران التي تتميز بمواصفات جسمانية وسلوكية خاصة. وبهذا الصدد، كتب طلحة جبريل ما يلي: (عبد الإله بنكيران (57 سنة) رجل يسهل على زملائه أن يحبوه لمزاياه الشخصية، وقدرته واضحة في جمع الناس حوله، وهو يعتمد شيئا من الشهامة والكثير من الشجاعة، لإرضاء الجميع. عندما صرح، خلال الحملة الانتخابية، بأن حروف اللغة الأمازيغية مثل اللغة الصينية، اعتذر علنا عن هذه الهفوة، وقال للشخص الذي ذكره بقوله: «أنا مستعد أن أحضر حتى عندك لتصفعني على هذا الخطأ»، وفعلا هبط من المنصة نحو الشخص الذي لم يصفعه بل عانقه. مرح المزاج.. يمكن أن يوجه انتقادات لاذعة إلى أي خصم من خصومه السياسيين؛ لكن ما أن يلتقيه حتى يمازحه بصوت مرتفع، ويستعمل المستملحات، ليبعد التوتر عن أي لقاء. فولاذي الأعصاب، إذا تعرض إلى موقف حرج. يعرف كيف يخرج منه ليضع الآخرين في الحرج. هو رجل واضح أكثر مما ينبغي، لذلك كثيرا ما يتعب خصومه وأصدقاءه على السواء، بهذا الوضوح، خصومه لا يعرفون بالضبط ما هي الفكرة التي تستأثر باهتمامه أكثر، طالما أن الأفكار تنزلق مباشرة إلى لسانه، وأصدقاؤه يقولون: «هذا هو بنكيران». أحيانا يحلق بأفكاره عاليا، وتارة يخمد وكأنه لا يوجد. يجمع بين المتناقضات ببراعة، وفي كثير من الأحيان بعفوية. يملك طاقة عمل كبيرة. يرد على جميع المكالمات الهاتفية، ويقبل الدعوات لإلقاء المحاضرات، ويحرص على حضور كل الاجتماعات الحزبية، وفي كل لقاء يطلق فكرة أو موقفا، يجعله يحتل باطمئنان الصفحات الأولى من الصحف. هو حاضر في الإعلام أكثر من ما هو مطلوب أحيانا. البعض يرى في أسلوبه دهاء وآخرون يعتبرونه مدرسة متقدمة في علم الخطابة، والحقيقة أنه الاثنان معا. يدافع عن موقفه بغطرسة وبلغة عنيفة أحيانا، وله جرأة في أن يقول كل شيء. عنيد طموح شجاع وشعبي. عندما يتحدث يثير الزوابع والأعاصير. لا يحقق نفسه إلا عبر التصادم. بعض الناس يعتقدون أنه يمتلك الجرأة والصراحة ليقول ما لا يقدر الآخرون على قوله. بالنسبة إليه «كلام السياسة الهادئ» من الكماليات. لا يكترث لأخطاء الخصوم، لكنه يعرف كيف يكيل لهم الانتقادات. يحرص على أن يقدم نفسه بلا تزويق، صريح إذا ناقش، متدفق إذا تكلم، لا يبحث عن الكلمات؛ لكنه يعطيها المعنى الذي يريد، صوته مليء بالتموجات والطبقات ودرجات كثافة عالية وخافتة، سريعة أو بطيئة. بسبب لغته الخشنة أحيانا، يبدو حازما أكثر مما ينبغي، أو كمن يدعو «إلى الجنة بعصا غليظة». إنه رجل هادر إذا دخل معركة ذهب فيها حتى نهاية الشوط. وإذا اختار معركة لا يتراجع حتى لو كان موقفه ضعيفا، ولا يساوم عندما يكون قويا. عندما دخلت حكومة عبد الرحمن اليوسفي في معركة لتغيير قوانين المدونة الشخصية الخاصة «المرأة»، سمعت شخصيا من عبد الإله بنكيران يقول إنهم سيخوضون معركة لإسقاط تلك القوانين، حتى ولو كان ظهورهم إلى الحائط. ونزل بنكيران عام 2002 ليحرك الشارع ضد تلك الخطة. كانت معركة ضارية انطلق فيها ضعيفا لكنه لم ينكسر حتى سقطت الخطة التي أطلق عليها «خطة إدماج المرأة في التنمية»، وهو ما أدى إلى تدخل الملك محمد السادس ليكلف امحمدبوستة، وزير الخارجية الأسبق، الذي استطاع بمهارته السياسية أن يقدم خطة تعمدت تهدئة «مخاوف الإسلاميين» وأرضت «الحداثيين». وعلى الرغم من أنه يتحدث كثيرا مع الصحافيين، لكن إذا وجد أن أحدهم يريد أن «يأكل الثوم بفمه» سرعان ما يرد مزمجرا، وبعد ذلك يصبح اللقاء به في حد ذاته موضوع تفاوض. هو يعرف معظم الصحافيين ويخاطبهم بالاسم. لغته السياسية بعيدة نسبيا عن لغة المثقفين المقعرة. لا يحب اللغة المتعرجة والملتوية بل يفضل الخطاب الصريح والمباشر. هو رجل فعل ولم يكن أبدا رجل فكر. يمزج بين العامية والفصحى مزجا موفقا. عندما يجد أنه سيجر إلى حيث الكلام الأيديولوجي الكثيف، يتدخل مقاطعا لينقل الحديث إلى المساحات التي يبرع فيها. هو قارئ جيد، تشعر دائما بأنه قرأ كل صحف الصباح، واستمع إلى عدد كبير من الإذاعات، وشاهد الكثير من القنوات. يقرأ أيضا على الإنترنيت. ولعله من قادة الأحزاب المغربية القلائل الذي يعتمد على الإنترنت للتعرف على التفاصيل. وجه مستطيل، شعره غطاه البياض، لحيته ازدادت تشذيبا في الآونة الأخيرة. له قدرة على تغيير ملامح وجه كما يريد، فهو متجهم، وهو مبتسم، وأحيانا يضحك إلى حد القهقهة حتى تظهر نواجذه، يعتمد كثيرا على طبقات صوته المتموجة، ذقنه مرتفعة تدل على الاعتداد بالنفس، عيناه صغيرتان لكنه قادر على أن يرسل نظرات قوية لافتة، جسمه يميل إلى البدانة، يمشي على مهل، لا يعتني كثيرا بأناقته). وبالتالي، فالخطاب الشعبوي لا يمكن أن يكون له تأثيره داخل المشهد السياسي إلا من خلال الشخصية الشعبوية التي تشخص هذا الخطاب وتجسده، والتي لا بد أن تكون لها مجموعة من المؤهلات الخطابية والمواصفات الجسمانية والسلوكية لكي تخلق الفرجة السياسية، إذ على الرغم من امتلاء المشهد السياسي بالعديد من الشخصيات الحزبية التي تشتغل وتتحرك يوميا داخل هذا المشهد، فالقليل منها هو الذي يتوفق في شد الانتباه على غرار بنكيران، وشباط، ولشكر. وفي هذا السياق، كتب أحد الصحافيين ما يلي: (وأخيرا، صار للمغرب نجومه في السياسة الذين يخطفون الأضواء ويصنعون الحدث في كل صغيرة أو كبيرة، بعد مشهد سياسي بارد لا ينتج إلا الرتابة.. هم معشوقو الإعلام وأصحاب العناوين الكبرى، وصناع الحدث ومفجرو الفضائح والملفات، وأصحاب التصريحات الثقيلة التي تخلق الفرق والصخب والقيل والقال).