"مغاربة ضد الزواج بالموظفة" مبادرة قادها بعض الشباب المغاربة، وجعلوا لها مجموعة فيسبوكية تمكنت من حشد عشرات الآلاف من المنخرطين في سويعات قليلة، تحركت ضدها نسوة لإنشاء مجموعة مضادة اتخذت لها اسم: "مغربيات ضد الزواج بالمزاليط"، في سويعات قليلة احتدم النقاش وثارت الأسئلة وتناثرت الأجوبة، فأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أشبه بحلبات صراع الديكة. لكن هذا السجال بين الرجال والنساء المغاربة ليس مجرد تعبير عن موقف لأفراد أو مجموعات مختلفة حول قضية ما، بل يعكس معاناة اجتماعية يعيشها الجميع، فإن لم تكن زوجتك موظفة فستكون ابنتك موظفة، أو الوظيفة حالة أختك أو أمك أو قريبتك، فالأمر يتجاوز سؤال: هل أنت مع الزواج بالموظفة؟ أم ضده؟ فمن الحمق أخذ موقف حاسم من الزواج بالموظفة يتجاوز الشأن الفردي، ونعطيه طابع العموم، لأن لا الشرع ولا العقل والعادة لها موقف صارم في المسألة، وذلك لكون الأمر تعتريه حالات الحاجة والضرورة، كما أن رد الفعل الذي نتج عنه اتسم بالرعونة والحمق أيضا فكيف يمكن أن تكون هناك معركة عنوانها: "مغربيات ضد الزواج بالمزاليط". ومع ضعف العرض وحماقة الرد، يبقى هذا السجال يعكس معاناة اجتماعية يعيشها الجميع -كما أسلفنا-، ويجب أن ينصت له العاقلون بأذن السابر لأغوار القضية في بُعدها القيمي/الديني، وبُعدها الاجتماعي/الاقتصادي، وبعُدها الثقافي/السياسي، وذلك حتى نتمكن جميعا من ترشيد المواقف، وبنائها على الرشد والحكمة لا على ردود الفعل التي لا تنتج إلا ردود فعل مضادة. وقبل الخوض في التحليل أوثر أن أقدم للموضوع بالقواعد التالية: 1- إن المعضلات المركبة التي تتجاذبها قطاعات متعددة ولها مستويات متراكبة لا يكن أن تعالج بالحلول البسيطة. 2- إن ما أصبح ظاهرة اجتماعية متجذرة في واقع الأمة لا يعالج بالقوة وحشد تأييد الناس، وإبداء المواقف الحدية، بل يحتاج إلى حلول مبنية على خطة وميزانية تسبقهما دراسة واعية للقضية وتجاذباتها (أما إبداء القناعة الفردية والعمل بها فهذا لا مانع منه ما دام جائزا). 3- إن سنة التدرج في الأمور التي تم إرساؤها في مجتمع ما ولو كانت مخالفة للشرع والدين هي السبيل الأمثل لتفكيكها ثم إصلاحا أو إزالتها بالمرة، وهذا يتطلب الفعل الواعي والنظرة البعيدة التي تصدر عن مشروع إصلاحي متكامل العناصر شمولي البناء. كما نؤكد قبل الخوض، أن المرأة حرة في مالها، ومن حقها أن تنميه كيف شاءت، بشرط ألا تخل بالشرع والدين، وبواجبات بيت الزوجية، الذي له أحكام لا يراعيها اليوم إلا من يلتزم بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سواء من الرجال أم من النساء. ولا شك أننا في مقاربتنا للقضية المذكورة أعلاه، يلزمنا أن نستصحب هذه القواعد لكونها ترتبط ارتباطا وثيقا بالموضوع. وليس من قبيل المستور ما يلتف بعمل المرأة سواء كان وظيفة عمومية أو شغلا في شركات أو منشآت خاصة، فنتائج تجربة لها عقود مديدة أصبحت معلومة لدى الجميع، فاحتكاك الرجال بالنساء طوال اليوم لمدة طويلة قد تصل إلى 30 سنة، مع التبرج الفاضح، وعدم الالتزام بقواعد الشرع، والحرية غير المنضبطة، له تداعيات كثيرة تفضحها القضايا المعروضة في المحاكم والمتعلقة بالزنا والتحرش، هذا فقط ما وصل إلى المحاكم، وحقيقة الأمر نراها في ارتفاع الأطفال المتخلى عنهم نتاج الزنا، وكذا في الأمهات من زنا، وغيرها من القضايا المرتبطة بنمط العيش الليبرالي المهيمن على الاقتصاد والفكر والتشريع. إلا أن الانحرافات التي تصاحب قضية عمل المرأة وتوظيفها تبقى موضوعا لا يمكن أن توجد بشأنه حلول سريعة حاسمة، لأنه محلُّ تجاذبٍ بين قطاعات كثيرة، كما تتعلق به مفاسد ومصالح لا بد من الموازنة بينها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، هذا بالإضافة إلى أهم عنصر وهو التأثير الذي تمارسه مرجعيات الدول والشعوب والتي تؤطر قوانينها وتشريعاتها، كما تختلف حسب مدى التزام الشعوب والدول بدياناتها وقوانينها وأعرافها. بل تتدخل في الموضوع كذلك سياسات دولية ومحلية لها مرجعيتها الفكرية ومصالحها الاقتصادية. وبالنسبة للمغرب بَلدنا الشامخ، ما ينبغي أن نستوعبه بالنسبة لحالتنا هو أننا ولجنا إلى عصر الدولة الحديثة، ولوجا اضطراريا، بحكم الضغط الإمبريالي الفرنسي والإسباني، والذي تلاه احتلال مباشر للبلاد وإرساء للدولة المغربية الحديثة وفق منظور "استعماري" علماني ليبرالي، عمل على تفتيت القبيلة والأسرة الممتدة من خلال إرساء نمط اقتصادي أثر بشكل كبير على الأسرة والقيم، وهذا ما نتج عنه ما نسميه "التطوير القسري" للمجتمع المغربي العظيم، والذي نجد فيه التفسير الواضح لسرعة التفاعل الاجتماعي الذي حدث على مستويات متعددة خلال القرن العشرين، والذي أدى إلى اندثار المظاهر الاجتماعية العتيقة النبيلة بسرعة، وحلول ظواهر اجتماعية غريبة ودخيلة حلت مكانها. إن موضوع توظيف المرأة -الذي أثار هذا الجدل- يرتبط بشكل وثيق بموضوع تعليمها، الذي أثار بين النخبة المغربية جدلا واسعا بقي محتدما إلى غاية نهاية الربع الأول من القرن العشرين، وكان لكلا الفريقين حججه القوية التي دافع بها عن موقفه ورأيه، وهذه النخبة كانت تتضمن رجال الدولة والعلماء من أمثال الصدر الأعظم المقري والعلامة المجتهد الوزير محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، والدارس لهذا السجال القديم يدرك بأن تخوفات أجدادنا وتوقعاتهم وقعت كما وصفوها، وهذا يحتاج دراسته دراسة مستوفية على ضوء النتائج التي نعيشها نحن اليوم، فنحن نعيش اليوم نهاية قرن على سجال الأمس، وجدير بالباحثين أن يربطوا في الدراسة بين الأمس واليوم لأن الظاهرة الاجتماعية تتطلب في دراستها الإحاطة بكل ارتباطاتها وامتداداتها. إلا أننا في هذه العجالة لا يمكن أن ندعي الدراسة المستوفية ولا الإحاطة الشاملة، فالموضوع يحتاج مجلدات، لكننا نكتفي بإشارات لها أكثر من دلالة -في نظرنا-. أولا- على المستوى القيمي/الديني: لم يحرم الإسلام عمل المرأة ولم يندب إليه، بل نجد القرار في البيت هو رأي الفقهاء وما كان عليه العمل، وترك الشرع الأمر مباحا للحاجة والضرورة، توسعة على الناس ورحمة بهم، ولم يعرف المسلمون مِهنا للنساء منظمة في الأسواق والقيساريات، وإنما كانت هناك وظائف كالعريفة والممرضة والفقيهة والأستاذة والمربية والمساعدة في البيوت، والخياطة والطرازة وغيرها من الوظائف التي ليس لها حضور في الأسواق والمتاجر والمجمعات التجارية، وكانت هذه المجتمعات تساس بالشريعة وتحافظ على احترامها وسيادتها والانضباط بقواعد حفظ المروءة ومراعاة الآداب العامة. وكانت النساء يخرجن للحاجة ويشتغلن للضرورة، لذا لما بدأ الاحتلال الفرنسي في بناء المدارس واستقطاب بنات الأعيان للتمدرس، اضطر العلماء في مواجهة هذا الواقع إلى فتح نقاش حول قضية تعليم البنات دون سن البلوغ، وفق النظام الجديد، وكانت مجمل التخوفات التي أبدتها النخبة لها ارتباط بقيم ودين المرأة، ولا أحد كان يناقش أصل وجوب تعليم المرأة، لذا لما تم "التطوير القسري" للمجتمع اتسع الخرق على الراتق، وبدأنا نرى المعضلات المرتبطة بخروج المرأة إلى التعليم غير المنضبط بالشروط الشرعية، والذي أعقبه التوظيف الذي لا يراعي القواعد الفقهية ولا العادات المرضية، ولا الشريعة الإسلامية. علما أن هذه الوضعية لم تكن خاصة بالمغرب، بل كانت عامة في البلاد الإسلامية وتداولتها النخب، ولا زلت أحفظ من طفولتي قصيدة حافظ إبراهيم عندما تحدث عن المرأة وتربية البنات في سياق ما كان يعرف بقضية "تحرير المرأة"، أستشهد منها بهذه الأبيات الواردة بعد أن طالب بإصلاح أوضاع المرأة: أنا لا أقول دعوا النساء سوافرا///بين الرجال يجلن في الأسواق يَدْرجن حيث أرَدن لا من وازع///يحذرن رقبته ولا من واقي يفعلن أفعال الرجال لواهيا///عن واجبات نواعس الأحداق كلا ولا أدعوكم أن تسرفوا///في الحجب والتضييق والإرهاق ربوا البنات على الفضيلة إنها///في الموقفين لهن خير وثاق فهل وضعية المرأة المغربية اليوم تسر من طالب بخروجها وتعليمها بالأمس بعد تجربة 100 سنة؟ وهل حال النساء في الوظائف اليوم في مجتمعنا تحفظ لهن دينهن وكرامتهن؟ الجواب واضح! ثاني- على مستوى البعد الاجتماعي/الاقتصادي: من الناحية الاجتماعية أصبح عمل المرأة مطلبا تلقائيا، فأغلب الإناث يدرسن ابتداءً وانتهاءً من أجل الوظيفة والمال، وليس لمجرد التعلم فقط، سواء كن في حاجة للعمل أم لا، ولم يعد الناس (الآباء والبنات، والنساء والأزواج) ينضبطون لا بالحاجة إلى العمل ولا بالضرورة، إلا قلة تشكل الاستثناء، وهذا لا يحتاج إلى استدلال. فنسبة نجاح الإناث مثلا في مباراة التعليم الخاصة بالأكاديميات بلغت هذه السنة (2022) نسبة 83 في المائة، مقابل نسبة 17 في المائة لدى الذكور، وهذا ليس رقما فارقا جديدا، بل قد توالى تسجيله على مدى السنوات الأخيرة، وقُل نفس الشيء بالنسبة لأغلب الوظائف، وهذا لا شك يؤذن باضطرابات على مستوى العلاقات الاجتماعية بين الرجال والنساء، فإذا كانت أغلب الوظائف تستحوذ عليها النساء، فكيف سيصل الرجال إلى الوظائف؟ وكيف سينشؤون بيوتا في ظل هذا الوضع؟ ناهيك عن الوضع الاقتصادي المتأزم والبطالة المستشرية. إلا أن العامل الأساس في هذا التباين بين معدلات توظيف النساء والرجال، وارتفاع نسب تشغيل الإناث يكمن في إرادة سياسية دولية لتأنيث المجتمعات، فهناك برامج كبرى للدول الليبرالية (أمريكا مثالا) وللأمم المتحدة تشتغل في المغرب وغيره على صنع ولوجية سهلة لسوق العمل، وتأطير المرأة والبنت لتكتسب كفايات تمكنها من الانخراط في سوق العمل، فالنظام الليبرالي الدولي مبني على توسيع دائرة الإنتاج حتى تتحرك الأموال والقروض والضرائب والمعاملات الربوية، وعنصر المرأة مستهدف بالأولوية لأنه يشكل 52 في المائة من الشعب، كما أنه يحظى بالأسبقية في سوق العمل لسهولة إخضاع النساء في المعامل والشركات والمصانع استغلالا لطبيعتهن وحاجتهن إلى المال. وإذا ما أردنا أن نفسر ظواهر اجتماعية مثل العنوسة وتأخر سن الزواج، وعزوف الشباب عن تأسيس بيوت الزوجية، وارتفاع معدلات العلاقات الجنسية خارج إطار رابطة الزوجية، وارتفاع معدلات الطلاق، وغيرها من المعضلات الاجتماعية لا بد لنا من أن نفكك الجانب الاقتصادي وآثاره على العلاقة بين الرجل والمرأة. ثالثا- على مستوى البعد الثقافي/السياسي: إن موضوع عمل الإناث أصبح مرتبطا بمفهوم المساواة بين الرجل والمرأة، والذي تم استيراد كل مفاهيمه من المرجعية الليبرالية العلمانية، بل أصبح من المقدسات عند المنظمات والأحزاب المغربية، وكل من يشكك في هذا المبدأ فهو بالضرورة عندهم من منتهكي حقوق المرأة، وما دامت ثقافتنا بيد المستغربين فسياساتنا الثقافية والتعليمية لا تخرج عن استنساخ المفاهيم الغربية التي تم خلع صفة العالمية والكونية عليها، بل أصبح دستور (2011) يقر بسمو المواثيق الدولية على القوانين والأعراف الوطنية، وسياسيونا اليوم وكذا من يشتغل في المنظمات الحقوقية المحلية يطالب أغلبهم بملاءمة القوانين المغربية لمقتضيات تلك المواثيق. وبعد هذه الإشارات، نقول: إن أي دعوى للإصلاح فيما يخص دور المرأة في المجتمع ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار الواقع الذي لا يرتفع إلا بواقع أشد منه قوة وأكبر منه تأثير، فإذا أرادت فعلا أن يستجيب الناس لدعوتك وما تنادي به من مفاهيم قد تكون صحيحة فلا يصح أن يشوهها أسلوب العرض، وتصد عنها الطريقة التي تعالج بها. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.