يثار منذ مدة نقاش وجدل حول مراجعة مدونة الأسرة وتعديل بعض مقتضياتها، وهو نقاش تشارك فيه أطراف مختلفة من علماء ذوي اختصاص وغيرهم، إضافة إلى جهات حزبية وحقوقية وهيئات من المجتمع المدني. وأحب قبل أن أبدي رأيا في بعض القضايا المثارة، أن أقف أولا عند مشروعية هذا النقاش والجدل بحكم ما اطلعت عليه عند البعض من رفض مبدئي لهذا الجدل ولا ينظر إليه إلا من زاوية اعتباره انسياقا وراء موجة التخلص من الأحكام الشرعية والثوابت التي قام على أساسها مجتمعنا وتبنتها دولتنا. ولئن كان هذا الأمر صحيحا جزئيا بسبب وجود جهات لا يهمها من مطالب المراجعة إلا هدم كل ماله صلة بالشريعة والفقه، فإن هناك زاوية أخرى جديرة بالاعتبار، وهي زاوية تحري الإنصاف ورفع كل وجه من وجوه الفرك وهضم حقوق المرأة عامة، والزوجة والأسرة بخاصة، بتحقيق أعلى درجات العدل الذي هو عزيمة من عزائم الدين وقيمه الثابتة. وقد علمنا القرآن الكريم أولا فضيلة الإنصات للمرأة وتعرّف معاناتها من خلال سورة من سور القرآن يحيل اسمها على هذا المعنى ابتداء وهي سورة المجادلة التي مطلعها: "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير". قصة هذه السورة وسبب نزول هذه السورة فيما يذكر رواة السنن والمفسرون يتعلق بخولة بنت ثعلبة التي ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت على عادة العرب في تحريم الزوجة بالظهار، حيث يقول الزوج لأمراته: أنت علي كظهر أمي! فتحرم عليه أبدا، فجاءت خولة تعرض مظلمتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتجادله في ذلك على نهج المحاورة والمرافعة. قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ) رواه ابن ماجه. قال أهل التفسير: إن الإيلاء والظهار كان طلاقا في الجاهلية، فلما سألت خولة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: حرمت عليه، فجعلت كلما قال لها :قد حرمت عليه ، قالت : والله ما ذكر طلاقاً، ثم تقول : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت الآية. وقد كان من نتائج محاورة هذه المرأة ومراجعتها للنبي عليه الصلاة والسلام أن أنزل الحق سبحانه وتعالى قرآنا يتلى متضمنا أحكام هذه النازلة ومقيدا لها بما يضع حدا لتعسف الأزواج في حق زوجاتهم واستخفافهم بمآلهن ومآل الأسر التي جهدن لإقامة بنيانها وتحقيق مراميها. يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسيره: " افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها تنويها بالمرأة التي وجهت شكواها إلى الله تعالى بأنها لم تقصر في طلب العدل في حقها وفي بنيها، ولم ترض بعنجهية زوجها وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصر ولا روية، وتعليما لنساء الأمة الإسلامية ورجالها واجب الذود عن مصالحها (التحرير والتنوير: ج 28. ص7، ط.دار سحنون). وفي موضع آخر يضيف:" وقد استُحضرت المرأة بعنوان الصلة تنويها بمجادلتها وشكواها لأنها دلت على توكلها الصادق على رحمة ربها بها وبأبنائها وبزوحها " (ن.م: ص8). فهل نغفل عن هذا المعنى العظيم للسورة في حق المرأة اليوم حين تجادل عن حقوقها المشروعة في ظل الشريعة الغراء ومقاصدها الحكيمة، ووجوب الإنصات والاهتمام بمطالبها بما يحقق هذه المقاصد جمعا بين اجتهادات السابقين وإبداعات اللاحقين، أم ننكر كل ذلك بداعي المحافظة على الكسب الفقهي الموروث، وكأن بنيان الشريعة هش إلى الحد الذي يخشى منه مراجعة أي مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة ، وهو الأمر الذي لا نشك أن عاقلا يقول به أو يعتقده. إن مراجعة لبعض ما في مدونة الأسرة من مقتضيات دونما تعطيل لحكم شرعي قطعي الثبوت قطعي الدلالة، أمر يتوافق مع سعة هذا الدين الإسلامي العظيم وصلاحيته الممتدة في الزمان والمكان.