يقدم الأستاذ علي عزت بيجوفيتش ( 1344 ه / 1925 – 1424 ه / 2003 ) رؤيته الإسلامية انطلاقًا من إدراكه لثنائية تركيب الإنسان. فيبدأ بنقد مفهوم التقدم المادي الذي يهيمن على الحضارة العلمانية المادية الحديثة السائدة في الغرب وتغلغله في كثير من المفاصل العلمية والثقافية في الشرق، فيرى أن هذا التقدم لا يؤدي إلى سمو الإنسان، إذ هو منفصل تماما عن القيمة؛ لأنه يقوم على التقدم البيولوجي في الإطار المادي "الدارويني" المنفصل عن القيمة فيؤدي إلى النتيجة التي تقول إن الأقوى يقهر الأضعف (البقاء للأقوى) في المفهوم المادي الغربي. إن علي عزت بيجوفيتش يقدم رؤية مختلفة من خلال نظرته للحياة في تصوره أنها نتيجة تفاعل متبادل بين عاملين مستقلين هما الأساس المادي والتأثير الخلاق لعامل الوعي الإنساني متمثلا في الشخصيات والأفكار الكبرى والمثل العليا. فالوضع التاريخي في أي لحظة من الزمن هو نتيجة التفاعل بين هذين العاملين المستقلين بصفة أساسية، لذا فالتأثير الإنساني على مجرد التاريخ يتوقف على قوة الإرادة والوعي. وكلما عظمت القوة الروحية المشاركة في الأحداث التاريخية عظم استقلالها عن القوانين الخارجية، والعكس صحيح. والتاريخ قصة متصلة ومتواصلة من مجموعات صغيرة من أناس تميزوا بالحسم والشجاعة والذكاء؛ تركوا طابعًا لا يُمحى في مجريات أحداث التاريخ وتمكنوا من تغيير مساره. فكلما كان العامل الفردي خاملا وغير فعال نقص قدره من الإنسانية وزاد نصيبه من الشيئية. ونحن نمتلك القوة على الطبيعة، وعلى التاريخ من خلال قدرتنا على أنفسنا؛ هذا هو موقف الإسلام من التاريخ. وبهذا يكون هدف التاريخ ليس هو التقدم المادي وإنما هو أمر مختلف تماما؛ فالهدف هو خلق إنسان يمتلك تناسقًا تامًا بين روحه وجسده في مجتمع تقوم قوانينه ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية على هذا الاتساق لا تحيد عنه وهذا هو المفهوم الإسلامي للتقدم. يرى الأستاذ "بيجوفيتش" أن الإسلام قائم اليوم على فكرة التوازن الجواني (الداخلي) والخارجي وهو واجبه التاريخي القائم عليه في الماضي والحاضر وسيكون في المستقبل. ومن هذا المنطلق يرى أن وحدة الإسلام انشطرت على يد بعض من قصر الإسلام على جانبه الديني المجرد، فأهدروا وبددوا وحدته التي هي خاصيته التي يتفرد بها عن سائر الأديان الأخرى، فهي خاصيته دون غيره . . فهؤلاء اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية مغرقة في السلبية فتدهورت أحوال المسلمين وأهملوا دورهم في العالم؛ فأصبحت الدولة الإسلامية كأي دولة، وأصبح تأثير الجانب الديني في الإسلام كتأثير أي دين آخر وأصبحت الدولة لا تخدم إلا نفسها . . وحين يبدأ التدين (الخامل) يجر المجتمع نحو السلبية والتخلف يتشكل الملوك والأمراء والعلماء الملحدون ورجال الكهنوت وفرق الدراويش والصوفية السلبية والشعراء السكارى. ثم يشكل كل هؤلاء مجتمعون الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الإسلام في هذه المرحلة ودفع ببعض أبنائه إلى تبني المناداة الغربية ذات الصبغة المسيحة التي تقول "أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله" !!! . ويقرر "بيجوفيتش" أن الثنائية – المادة والروح – قائمة في بنية القرآن الكريم نفسه الذي يرى البعض أنه "من الناحية الموضوعية لا يتبع نظاما محددا ويبدو وكأنه مركب من عناصر متناثرة . ولكنه في حقيقة الأمر لابد أن نفهم أن القرآن ليس كتاب أدب، وإنما هو في حقيقته كتاب هداية وكتاب منهج حياة، والإسلام نفسه طريقة حياة أكثر من كونه طريقة تفكير" . الثنائية وأركان الإسلام: يرى الأستاذ: "علي عزت بيجوفيتش "أن من المستحيل تطبيق الإسلام انطلاقا من مستوى واحد,, فثنائية المادي والروحي تقعان في عمقه وذروة سنامه,, فالصلاة هي جانب روحي لا يمكن أداؤها أداء صحيحا إلا من خلال إجراءات عملية محددة بالوقت والاتجاه في المكان (القبلة)، وتحديد مواقيت الصلاة تحديدًا توقيفيًا، ولا يختلف هذا كثيرا عن الزكاة التي تحتاج إلى حساب وإحصاء ونصاب محدد بزمن وقيمة. وهذه الثنائية تبدأ مع أول ركن من أركان الإسلام، وهو النطق بالشهادتين الذي من خلاله يعلن الإنسان اعتناقه للإسلام ولابد أن يُؤدى أمام الشهود لأن الشخص الذي يعتنق الإسلام ينضم إلى جماعة لها جوانبها الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يترتب عليه التزامات قانونية وليست التزامات أخلاقية فقط. فالإنسان الذي يلتحق بدين روحي مجرد لا يحتاج ولا يستلزم وجود شهود ولا يتطلب إعلانًا؛ فهذه علاقة بين الإنسان وربه, فبمجرد عقد النية أو اتخاذ قرار باطني كاف تماما بهذا الخصوص. وبعكس الإسلام فهو ليس ديناً مجرداً، ولذا يصبح الشهود والإعلان أمراً لازماً لكل من دخل في دين الإسلام. وكذلك يرى "بيجوفيتش" هذه الثنائية الإسلامية في ركن الصلاة الذي يؤكد الجانب الروحي – الجواني- ولكن الصلاة في الإسلام تقوم على العناصر المادية أيضا – الطبيعية – فهي تنتمي للعالم الذي يحدد المكان والزمان، فالصلاة لها بعدها الاجتماعي أيضا، فهي ليست مجرد اجتماع الناس لأداء الصلاة في جماعة ولكنها أيضًا مناسبة لتنمية العلاقات الإنسانية، وبهذه الصفة تكون الصلاة ضد الفردية والسلبية والانعزال، وإذا كانت الدنيا تفرق الناس عن بعضهم فالمسجد الذي تقام فيه الصلاة يجمعهم ويعقد العلاقات وينميها بينهم. وفي الزكاة يشير "بيجوفيتش" إلى أنها كانت في المرحلة المكية تمنح للفقراء على سبيل الهبة أو التطوع (التكافل الاجتماعي) ولكن في مرحلة المجتمع المدني (دولة المدينة) التي يرى أن الجماعة المسلمة تحولت من جماعة روحية إلى (دولة) أصبحت الزكاة التزاما قانونيًا (فريضة شرعية) أي ضريبة يدفعها الأغنياء للفقراء من المسلمين. وقد ربط بين الصلاة والزكاة من خلال رؤيته التي ترى أن المنطق الذي حول الصلاة التأملية المجردة إلى صلاة إسلامية هو نفسه الذي جعل من الصدقة التطوعية زكاة واجبة. والخلاصة أن الدين المجرد تحول إلى إسلام، أي ثنائية الدين والدنيا. ونجد "بيجوفيتش" يشير إلى ظاهرة فريدة في الحضارة الإسلامية تميز بها العالم الإسلامي، وهي ظاهرة الأوقاف التي يصفها بأنها "ثورة هادئة" حدثت كنتيجة طبيعية لإصرار التعاليم الإسلامية على تجسيد مبدأ العطاء الذي مكن لسيادة روح التكافل والتضامن في المجتمعات المسلمة. ويؤكد أيضًا على وجود هذه "الثنائية" في شعيرة الصيام التي يعتبرها مظهرًا لروح الجماعة المسلمة، ويعتبرها ليست مجرد إيمان وليست مسألة شخصية تخص الفرد وحده، وإنما هو التزام اجتماعي وأن الصيام الإسلامي شعيرة تجمع التنسك والسعادة؛ بل والمتعة في حالات معينة. ويختم "علي بيجوفيتش" بالركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج إلى مكةالمكرمة بيت الله الحرام الذي يراه مركبًا من ثنائيتين فهو شعيرة دينية وتجربة روحية مع إضافة أنه تجمع سياسي ومعرض تجاري، بالإضافة إلى كونه مؤتمرًا عامًا يجتمع فيه المسلمون من كافة أنحاء الأرض. وينتهي "عزت بيجوفيتش" إلى أن وجود هذه الثنائية لا تعني – الازدواجية – فالإسلام ليس وسطًا حسابيًا ولا قاسمًا مشتركًا بين تعاليم هاتين العقيدتين بل إن الصلاة والزكاة والوضوء شعائر لا تقبل التجزئة ولكنها تمثل دلالة؛ الإنسان هو مقياسها وهو مفسرها وعامل وفقها. ومن هنا ينعقد نظم هذه الثنائية التي تجمع بين المادة والروح وفق منهج الإسلام الذي جاء مُعتبرا لهذه الثنائية في أحكامه الشرعية في توازن دقيق من لدن خبير عليم بشأن خلقه فهو الذي خلق فيهم هذه الثنائية وهو أعلم بها سبحانه وتعالى.