هوية بريس – السبت 20 فبراير 2016 خرجات العلمانيين في الأوطان العربية الإسلامية متفاوتة الجرعة، تُوقع في وعلى فضاءات ومنابر هذا الخروج بدرجات متباينة الحدة في دائرة توزيع الأدوار وتكامل الاختصاصات. وليس معنى هذا التفاوت إنكار أو تنكرٌ لحقيقة ومسلمة أن رؤية وقصد وأمل القوم في ظل هذا التفاوت تظل واحدة موحدة بين كل الأطياف وعلى اختلاف الملل والنحل، تتلخص فصول ملاحمها وأوراق خريفها وأحلام ليلها ونهارها في مسؤولية مواجهة والتصدي والوقوف في وجه هذا الدين العظيم، في محاولة لفصله وركنه وتسريحه والشط به بعيدا آويا إلى ركن قصي شديد، وربما في مرحلة لاحقة اجتثاث عراه وشعائره ونسمات حياته المباركة من وجدان وأفئدة الجماهير المتشبثة به حد الإخبات والإنابة والتسليم المطلق. ولا شك ومع الإقرار بذلك التفاوت أن تظل هذه المسؤولية هي الأمنية الغالية والسيرة الغالبة التي سيطرت حد الإسكار على فئام العلمانية وكان لها الحظ الأوفى والأوفر من هامش مخططات سخائمها الحاقدة في جحود والمعاندة في صدود. ومهم لدي أن تعرف الأجيال طبيعة الصراع ونوعه بين العلمانية كفكر؛ وأصحابها كدعاة لها؛ والإسلام كدين؛ والمسلمين كمنتسبين له انتساب شعيرة وشريعة، ذلك أنها معرفة تتحصل بها حسنة الوقوف على حقيقة هذا الصراع وماهيته، كما يتحصل بها نخل مضمون وتطلعات تلك الخرجات ومن ثم التعرية على وجهها الحقيقي في غير تقية ولا خفاء استعارة، ولا شك أن المهم مفض إلى الأهم من مبتغى تجنيب هذه الأجيال كبيرة السقط والتماهي أو التخبط بمس الضلال فالإضلال، من جنس الاعتقاد أن العلمانيين يتأبطون مشروع علمانيتهم ويتدثرون بثوب حداثتهم مواجهين التدين لا الدين، والإسلاميين لا المسلمين، والمتطرفين لا المعتدلين، والغلاة لا المتسامحين، والرجعيين لا التقدميين، بينما الواقع يشهد بالصوت والصورة والركز والرائحة على أن القوم قد تسفلوا في نقيصة كرههم وبغضهم وإنكارهم وإلحادهم وازدرائهم لهذا الدين كتابا ورسالة ونبوة وصحبة وتاريخا وعينا وأثرا إلى الدركة التي لا يستحيى المنصف المتجرد معها أن يقر ويقرر أن الإسلام لو نهى عن فت البعر لفتوه؛ ولو أمر بالسفاح لانتصروا للنكاح؛ ولو أمر بالسفور والفجور لشقوا المروط وأسبلوها على الكاسيات العاريات؛ المائلات المميلات. ولك أن تطلق لمقادير العطف حرية الركض في أعنة حباله رجاء أن تكتمل لك الصورة السريالية ويحصل بعد اللمس والتَحسس لناتئ سطحها التأكد على أن الصراع والمواجهة والضجيج المشهر والحرب التي لن تضع أوزارها ولن يستأذن غاسقها لإسفار الصبح إلا عند النقطة التي يتم عند منعرجها تشييع هذا الدين ملفوفا في كفن الردة والمروق؛ موؤودا في جبانة السلو والترك والنسيان؛ مؤبنا في شماتة من معشر المتربصين في الداخل والخارج. ولسنا نبالغ إذا اعتقدنا بإقرار أن هذه الأجيال المتهارشة لن يهدأ لها بال ولن يستقيم لها دفع ولن يطيب لها وجود إلا إذا استحال هذا الدين بين دفتي أملها ومناها إلى أثر بعد عين، وهيهات هيهات أن يحصل لها هذا حتى في ضغث أحلامها وسراب أوهامها وبقيعة إترافها، فإن سوي المعتقد وصحيحه يحكي بالسابق والمتصل اللاحق مستشرف الحكاية بتواتر في غير تمريض أننا أمة محفوظة الأنفاس والنفوس؛ مخلدة الذكر خالدة التنزيل؛ موعودة بالإرث والتمكين ولو بعد حين. وحتى لا يكون خيط الكلام هلاميا فنتهم في دائرة العويل المصاحب لذلك الضجيج المفلس بالرمي رجما بالغيب، نعرج في ابتسار غير مخل بمعناه على ذكر موقف هؤلاء من «قصاص النفس بالنفس» نموذجا، ولست أميل إلى استعمال لفظ «عقوبة الإعدام» وهي حيدة صد عن ميل له ما يبرره ويحمل في مسماه كل أدوات التسويغ ستفهم في سياق متصل لاحق، ذلك أن القوم ليست معركتهم مع الإعدام كحكم تنضح نطقا به المرجعيات التشريعية والقضائية الوضعية الغربية ولازمها من الوافد على محاكمنا التي كانت في يوم من أيام دهرنا تُنعت بالشرعية. ولا يغرنك تعالي الأصوات هنا وهناك وهنالك فإن هذا الصياح في الغالب يخرج عن طوق المواطأة لما تخفيه الصدور وتختزنه من مواقف حقيقية تُجاه عين الحكم في زيه الغربي المدني، ففي ولاية تكساس الأمريكية مثلا سجلت المحاكم الفيدرالية منذ سنة 1982م وإلى يومنا هذا 500 حكما مشفوعا بالتنفيذ الشبه فوري للإعدام، ولسنا هنا نحمل همّ الكلام عن وسائل الإعدام هناك من حقن قاتلة؛ وصعق كهربائي جائر؛ ورمي بالرصاص قاهر؛ وإنما يهمنا الوقوف مع الكم ورقمه، وهو رقم له وزنه ودلالته عند التفصيل عدلا وظلما وإنصافا وإسفافا ومقارنته بما سجلته محاكمنا ليس نطقا وإنما تنفيذا، ومع ذلك لم نسمع أن «التكساسيين» انتفضوا ضد هذه العقوبة بل نجد أن معظم الأمريكيين لا يعتبرون عقوبة الإعدام شديدة القسوة أو غير اعتيادية على ما أسلفنا ذكره من وسائل إعدام في غير تفصيل، وقد أفاد متخصصون في علم الجريمة أن تطبيق عقوبة الإعدام في ولاية تكساس الأمريكية أدى إلى انخفاض في جرائم القتل بالولاية. فهل كان علمانيوننا أكثر علمانية من الشعب الأمريكي؟؟؟ وهل كان لوبي العلمانيين الضاغط هنا أقوى وأثقل من سلطة الكونغرس الأمريكي الذي فشل في إلغاء عقوبة الإعدام بالنسبة لكل الولايات؟؟؟ مع واجب التنبيه بعد هذا الاستفسار على أن الكل يصير متشاكلا متجانسا متراص الجبهة عندما يتعلق الأمر بحد القصاص وقضية تطبيقه في بلاد الحرمين مثالا لا حصرا، ولعل من وقف على ملحظ الفارق اسطاع أن يمسك برأس الحبل الموصل إلى فك شيفرة هذا الضجيج، والتباكي المدخول الذي كان همّ أصحابه الأول والأخير حصول نتيجة إلغاء حد وقصاص النفس بالنفس دون تكبد عناء الإقناع أو تحمل كلفة جبر ضرر الضحية قبل الجلاد، اللهم رفعهم لشعار موبوء مفاده «يجب أن يصلح الجاني لا أن ينتقم منه»، والذي لا نملك مقابله غير رفع تحدي «أرجعوا الحياة إلى جسد الضحية نصلح لكم الأجساد ونبق على روح الجلاد». ويا ليت القوم أخذتهم العزة بالإنصاف والتفتوا إلى حكمة الله في تعليقه سبحانه وتعالى قضية التخفيف الذي هو رحمة منه على إرادة واختيار ولي الدم وآل الضحية، وأنه الوحيد الذي يعود له حق العفو أو قبول الدية إن شاء، وبالتالي تظل إمكانية إسقاط حد القصاص من اختصاصه بعيدا عن أي ضغط قادح في حر إرادته وجميل تنازله، قضاء ولو كان المحكوم عليه ذا نفوذ وقوة بضابط قول الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام «وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». والغريب أن تقف على حقيقة أن القوم في إطار غلو تعاطيهم مع هذا الحكم، وفي إطار تحاملهم وضيق صدرهم جراء كل ما فيه نفس وريح إسلامي صاروا أقرب إلى إدانة إن لم نقل أنهم فعلا بلغوا من السفالة حد إدانة الضحية القتيل باعتباره المسؤول عن الذي وصل إليه الجلاد القاتل السفاح المخرب المفسد في الأرض الباغي والمعتدي في غير حق من قصاص عادل، وهو من هو من جهة المنطق والمعقول الوحيد الذي ورط نفسه في مثل هذه العقوبة القاسية، ولربما احتجنا أن نضيف من باب العدل ملمح الفارق الذي عاشه القاتل من حياة إجرام وسيرة بغي وانحراف مع ما كان يعيشه الضحية من حياة كريمة ومستقبل حالم، ولعل بل أكيد أن لهذا الفارق ثقله في مقام توجيه وتقييد وحصر ما جاء في الدستور المغربي عند تنصيصه في فصله العشرين على أن: «الحق في الحياة هو أول الحقوق لكل إنسان ويحمي القانون هذا الحق». على أن الإنسان المراد هنا من باب الأولى في دائرة الحقوق هو الضحية لا الجلاد، والقتيل لا القاتل، والمعتدى عليه لا المعتدي، ولا أدل على هذا هو مجيء هذا الفصل متلوا بالفصل الواحد والعشرين والذي نص على أن : «لكل فرد الحق في سلامة شخصه وأقربائه». والمستغرب أن يدخل القاتل المغتصب الباغي المفسد نحيفا متهالكا صلب الملامح ذميم الوجه إلى السجن لينعم في زنزانته المصنفة بما لذ وطاب؛ تحميه جمعيات المجتمع المدني؛ وتكفل له الحياة التي يستشرف الشرفاء الأتقياء مع امتياز الحرية التي هي هنا مرادف للسراح عيشها وأكلها وشربها وتفكهها واحتفالاتها واهتماماتها ونظافتها وتطبيبها وتمريضها، موقعة عنه بالنيابة والوكالة صك الضمان الذي يحميه ويفديه من طارق يطرق بوابة غرفته «الهلتونية» ليقطع عليه لحظة شكره على جميل فعله بمنطق وفلسفة المدافعين، ثم ليسوقه في صمت قبيل الفجر إلى مقصلة الجزاء الوفاق، وليس هذا من أحلام اليقظة ولكنه أمر تذوقته العيون المخلصة في مرارة وهي ترى كيف تحول ذلك القاتل النحيف المتهالك القبيح بعد دوران الحول عليه داخل سجنه إلى جسد مكتنز ووجه قد قتل الورد نفسه حسدا منه وألقى بدمائه على الوجنتين في حمرة وبياض قد لا تراهما على وجه المارة في أرقى الشوارع التي ينعم أصحابها بامتياز السراح…. فهل كان هذا من العدل والفضل في شيء، ذلك العدل والفضل الذي يمكن أن تنهدم به قواعد الثأر والانتقام ويسلم المجتمع من ولوج أتون الفتنة والجاهلية، وقد علمنا من سياق التاريخ وما راكمته التجارب على ظهر صفحاته أن من قُتل له عزيز قد يقتل في عوضه ومقابله قبيلة بأكملها. وإنها لنظرة وواقع يحكي بالعقل قبل النقل إفلاس المنظومة العلمانية وتهافت ضجيج ذويها من صنف من كانوا أرحم بالقاتل المفسد من المقتول الضحية وذويه، ومن الذين غاب صوتهم ولم تطّرد قواعد الدفع عندهم ولم تتحرك في دواخلهم خليقة الرحمة المزعومة، وهم يرون كيف تقطع وتحنذ وتؤكل وتشرب دماء وأجساد المسلمين أو الإسلامين على حد تفريقهم بغير مفرق، تسويغا منهم وإسكاتا لضمائرهم الميتة كي لا تسجل معهود احتجاجها ضد كل ذلك التقطيع والتحنيذ والأكل والشرب والسحل والاغتصاب والتمثيل بجثث الأبرياء منا في مشارق الأرض ومغاربها، وإلى الله المشتكى وعنده تلتقي الخصوم. [email protected]