هو مرثد بن كناز بن الحصين بن يربوع الغنوي، صحابي جليل وشهيد مجيد، وأبوه من أكابر الصحابة والمجاهدين شهد "بدرا" و"أحد" والغزوات كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووهب حياته للجهاد والنضال في سبيل الله حتى وافته المنية في خلافة أبي بكر الصديق وقد بلغ من العمر ستة وستين سنة. أما ابنه البطل مرثد فآخى الرسول بينه وبين أوس بن الصامت بن قيس الأنصاري، وقد كانت له قصة عجيبة في جهاد النفس وجهاد العدو، إذ أوكل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم مهمة قيادة بعض السرايا في صدر الإسلام، عدا عن أنه شهد "بدرا" و"أحد"، وأثناء غزوة "بدر" لم يتوفر للمسلمين العتاد الكافي، إذ لم يكن لهم غير فرسين، أحدهما لمرثد والآخر للمقداد ين عمرو- بحسب ما ورد في تاريخ الطبري- وقد تناوب مرثد وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه مع النبي صلى الله عليه وسلم على الركوب، فأراد الاثنان أن يتنازلا عن دورهما في الركوب للرسول صلى الله عليه وسلم فأبى ذلك وقال: "ما أنتما بأقدر مني على المشي، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر". ومن المهام الفدائية التي أنيطت بمرثد كذلك تخليص ضعاف الأسرى المسلمين من أسر قريش وحملهم على ظهره من مكة إلى المدينة، لما كان يتمتع به من بنية جسمانية قوية.أما بخصوص جهاد مرثد لهوى النفس، فقد أورد "ابن عبد البر" في كتابه "الاستيعاب" هذه الحادثة التي تبرز عفة هذا الصحابي الصادق الذي ترك مذ أسلم كل نزوعات الطيش والآثام وراء ظهره، يقول ابن عبد البر: "وكان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، قال: وكان بمكة بغي يقال لها: عناق، وكانت صديقة له، وكان وعد رجلا أن يحمله من أسرى مكة، قال: فجئت حتى انتهيت إلى حائط من حيطان مكة في ليلة قمراء، فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجانب الحائط، فلما انتبهت إلي عرفتني، فقالت: مرثد؟ قلت: مرثد. قالت: مرحبا وأهلا، هلم فبت عندنا الليلة. قلت: يا عناق، إن الله حرم الزنى قالت: يا أهل الخباء، هذا الذي يحمل الأسرى. فاتبعني ثمانية رجال وسلكت الخندق، حتى إذا انتهيت إلى كهف أو غار فدخلته، وجاؤوا حتى قاموا على رأسي وأعماهم الله عني ثم رجعوا، ورجعت إلى صاحبي فحملته […] ثم جعلت أحمله حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت، يا رسول الله، أنكح عناق؟ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي شيئا، حتى نزلت هذه الآية:" الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" [سورة النور، الآية: 3] فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا تنكحها". لقد تخلق الصحابي مرثد بأخلاق الأنبياء، فرغب عن حب الأشخاص وآثر حب الله ورسوله، ولا جرم أن مضى في رحلة الجهاد مؤتمرا بأمر رسول الله ومنافحا عن العقيدة الصحيحة، وواهبا دمه الزكي في سبيل توطيد دعائم الدين الإسلامي القويم، ولذلك انتدبه الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام للمهام الجسام، فأرسله أمير وقائدا في مهمة حربية متصلة باستطلاع أخبار المشركين، وقد سميت هذه السرية باسمه، وهناك من يسميها باسم "سرية الرجيع"، والرجيع نسبه للمكان الذي حدثت فيه غزوة الرجيع، ويقول "ياقوت الحموي" صاحب (معجم البلدان) "إنه الموضع الذي غدرت فيه قبيلة عضل والقارة بالسبعة نفر الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم عاصر بن ثابت… وحبيب بن عدي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي، وهو ماء لهذيل قرب الهدأة بين مكة والطائف". أما تاريخ هذه السرية فكان في السنة الرابعة للهجرة، وقد تمت الإحاطة بالنفر السبعة وهم في طريقهم إلى مكة من طرف المشركين الذين قارب عددهم المائة نفر، وقد أمّنوهم على أنفسهم إن هم استسلموا، لكن مرثد اشتم رائحة الخديعة فأبى أن يستسلم لإيمانه بأنه لا عهد لمشرك" وهو بذلك يهتدي بالتوجيه الإلهي الوارد في قوله تعالى:" كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" [سورة التوبة آية 7].هكذا إذا، وبدافع من الحماسة والغيرة على دينه وإيمانه خاض مرثد في قتال شرس مع أعداء الله، فانتهى به الأمر شهيدا وقد نال نعمة الشهادة، وفي رثائه يقول حسان بن ثابت: صلّى الإله على الذين تتابعوا يوم الرجيع فأكرموا وأُثيبوا رأس السرية مرثد وأميرهم وابن البكير إمامهم وخبيرُ رحم الله الصحابي الشهيد مرثد، فقد كان بحق واحدا ممن قال في حقهم رب العزة:" وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ" [سورة آل عمران، آية: 169 -171].