يحسب البعض أننا عندما ننتقد السادة العلماء الأجلاء في المجالس العلمية، أو نلومهم على ما نراه تقصيرا، نكون بذلك نغض من قيمتهم، ونزري بهم، ونقلل الاحترام في حقهم، كلا وألف كلا، فإنما الإسلام بعلمائه فهم ورثة النبوة، وحجة الله في أرضه، وهم صمام الأمان الذي يمنع جانبي التدين أن يميلا. فماذا نقصد إذن بمقالاتنا الموجهة إليهم، أو المنتقدة لما نراه خطأ في تعاطيهم مع الشأن العام؟؟ بداية ينبغي وضع مقدمات مهمة بين يدي النتائج نجملها في التالي: 1- لا نتصور إسلاما بلا علماء يربون الناس ويعلمونهم الخير، ويحرسون الدين من عبث العابثين، الذين حدّدهم نبي الأمة في أصناف ثلاثة في قوله الشريف صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين). فالعابثون بدين الله في كل زمان هم: – الغالون. – المبطلون – الجاهلون. وما أكثرهم في زماننا هذا حتى صار القرآن الكريم والسنة النبوية وسير الصحابة ورواة الحديث محل انتهاك يومي من طرف العابثين. 2- أن الشريعة والعقيدة الإسلاميتين غير قابلتين للنسخ، لا بفعل التطور ولا بفعل المصلحة، وإنما تخالَف الشريعة بالشريعة، بالقواعد والأصول المعتبرة عند أهل العلم، وذلك عند الاقتضاء الذي يحدد ماهيته وقدره وزمنه ومدته أهل العلم المجتهدون. فلا يجوز أن نجعل الواقع المنحرف حاكما على الشرع بدعوى تطور المجتمع، وإنما يؤثر الواقع في تنزيل النصوص والأحكام بضوابط وقواعد، ريثما يتم تغيير الواقع الفاسد حتى يستجيب لمراد الله، ومن هنا لا يمكن أن يقنع العلماء بما تجود عليهم به هيمنة العلمانية الوافدة على المغاربة، كما لا ينبغي أن يخنع المصلحون لقوة الضغط الممارس عليهم داخليا وخارجيا. فالإسلام قد جاء في وضع جاهلي طغى عليه الانحراف في كل مناحي الحياة، فاستطاع أن يغير ذلك الواقع ليستجيب لمراد الله، بالحكمة والموعظة الحسنة وكذلك بالصدع والصبر والمدافعة، وهذا هو منهج الإسلام في الإصلاح. 3- إننا نعلم ونتصور تصورا كاملا أن العلماء الرسميين لا يمتلكون الحرية الكاملة في التطرق إلى كل الموضوعات الحارقة التي تثار على الصعيد المجتمعي، وذلك نظرا للتضييق الذي تمارسه وزارة الشؤون الإسلامية، هذه الوزارة التي عملت على احتكار الدين لغرض سياسي، سيعود في نظرنا بالوبال على الدولة والوطن والشعب، فلم يكن الدين يوما ملكا للدولة ولا حكرا على وزرائها أو صدورها العظام، وإنما اكتسبت الدول المتعاقبة على حكم المغرب قوتها من الدين عندما كان حرا، وكان علماؤه فوق الوزراء والقادة. 3- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية خاضعة في تدبيرها للمساجد والوعظ والإرشاد والخطابة والتوجيه للنظرة التي جاء بها "سي توفيق"، وأملتها الضغوط الدولية في سياق ما بعد أحداث 11 من شتنبر، والعمود الفقري لهذه النظرة الحرصُ على ألا يتصادم الخطاب الشرعي والدعوي مع ما هو سياسي، وما دام الثقافي والفكري والتشريعي والتعليمي والإعلامي هو في قلب السياسة، فالوزير يحس بنفسه مطالبا بالتدخل كلما قام الخطباء والوعاظ والمرشدون برد أي انتهاك للدين يقوم به العلمانيون، الأمر الذي يجعل العلماء يتعرضون إما للتوبيخ أو للعزل والطرد، فالوزير يتجنب على الدوام التصعيد العلماني، لذا يكون الضحايا هم العلماء والخطباء، هذه الوضعية المهينة المشينة تجعل فضلاء أهل العلم يعيشون في حرج وغم وهم دائم، وهذا هو ما يفسر ابتعاد كثير من العلماء المصلحين الأفذاذ عن ممارسة الدعوة والتعليم والإرشاد من داخل مؤسسات الوزارة. 4- إن المغرب المسلم يعيش ضغطا داخليا وخارجيا، حتى يخضع لما ينتجه الفكر الغربي في كافة الحقول التشريعية والحقوقية والثقافية والتعليمية، انطلاقا من تصور هذا الغرب للكون والإنسان والحياة، وقد تجلى في إقرار سمو المواثيق الدولية بامتثاله، هذا الضغط يمارس من خلال أذرع وطنية لمنظمة الأمم الكبرى المتحدة علينا، وهذه الأذرع تتمثل في منظمات وجمعيات ومؤسسات يرأسها مغاربة من أصول مسلمة تحمل أسماء من قبيل: أحمد وأمينة وخديجة، لكنهم جميعا لا يخرجون عما يشرعه ويأمر به جاك وبيير وشمعون، فلا عجب أن يناقش المسلمون استحلال الزنا وحقوق اللواطيين وتحرير شرب الخمور. 5- إن سكوت العلماء الرسميين في كثير من القضايا عن عبث الأصناف الثلاثة التي ذكرها الحديث خصوصا الجاهلين والمبطلين، له أسباب عدة مختلفة ومتفاوتة من عالم لآخر، والعلماء ليسوا سواءً، لكن التضييق والإحراج يجعل المواقف متقاربة إن لم نقل موحدة متماهية، وقد تصنف في خانة اللامبالاة أو تجنب الإحراج مع الوزارة والمسؤولين، ويسوَّغ ذلك بأن الإسلام هو ثابت من ثوابت المملكة، والمغاربة مسلمون لا يؤثر فيهم صبية بني علمان، وأن الله حافظ دينه. 6- الصراع العلماني الإسلامي ليس بين علمانيين وإسلاميين كما يريد أن يصوره العلمانيون تقليدا لأطروحة الغرب، واستغفالا لحكامه المسلمين، من خلال تمييزها بين المسلم والإسلامي، وخلقها لمفهوم الإسلام السياسي، لفصله عن كل من يشتغل في السياسة بمرجعية إسلامية عن باقي المسلمين، وهذا يجعل العلماء الرسميين في حرج سياسي كبير إن هم تحدثوا في قضايا متناقضة في تنظيمها بين القانون والشريعة، فإذا تكلموا بالشرع خالفوا القانون وإذا تكلموا بالقانون خالفوا الشرع وخانوا الأمانة، فيلوذون في الغالب بالصمت الوقائي، وهذا هو الحرج بعينه. 7- يزداد الحرج والتضييق عندما يتعلق الأمر بأحكام شرعية معلومة من الدين بالضرورة كبيع الخمور ولحم الخنزير ولعب القمار وأخذ القروض الربوية وغيرها، ويبلغ ذروته عند الجدل حول الأمور المتعلقة بالحريات الفردية والعقدية والتحاكم إلى ما يخالف الشرع من القوانين الوضعية المناقضة للإسلام، وكذا عندما يتطلب النقاش إبداء الموقف الشرعي الصريح من العلمانية، والتصدي لانتهاكات الأحزاب والجمعيات العلمانية للدين والإسلام والشريعة وانتقاص كُتابها من البخاري والتشكيك في القرآن الكريم ومسلمات الدين. 8- الدستور المغربي يتحدث عن الدين ويجعل للدولة المغربية دينا ويحدده في الإسلام، كما يتحدث عن مبدأ سمو المواثيق الدولية التي هي مجموعة من التشريعات أو أصول ينبغي التحاكم إليها عند سن التشريعات، وقد تكون موافقة للشرع كما قد تكون مخالفة له، لكن الدستور نفسه ربط إعمال المبدأ المذكور بشرط عدم مخالفته للإسلام والثوابت المغربية. 9- الدستور في المغرب يجعل من مؤسسة إمارة المؤمنين جهازا قويا للحكم، قاعدته البيعة التي هي أساس نشوء الدولة عبر تاريخ المغرب إلى اليوم، وأناط بهذه المؤسسة حماية الملة والدين، لكن السيد الوزير ينزِّل اختصاصات هذه الإمارة بشكل يعطي الأسبقية والأولوية للحضور والغلبة العلمانية كلما تناقضت السياسة والسياسيين مع المعلوم من الدين بالضرورة، والمشهور من المذهب المالكي والمعمول به عبر قرون الحكم الإسلامي في بلاد المغرب المسلم. ويمكن من خلال هذه المقدمات التسع أن نَخْلص إلى نتائج نذكر أهمها حتى لا نطيل: أ- أننا عندما نتحدث عن العلماء أو نعتب عليهم، فإنما القصد رفع الحرج والتضييق عنهم، لعلمنا بأن غالبيتهم لا يرضون على ما يحدث، لكنهم يراعون كونهم يشتغلون من داخل المؤسسات وهذا يفرض على كل مَن يشتغل خارج المؤسسات من العلماء، أن يقوم بالواجب المفروض عليه من أجل حماية مصلحة الهوية والدين، ويشارك في رفع الحرج والتضييق عن السادة العلماء الرسميين، أما مكانتهم فينبغي أن تحفظ مع كامل الاحترام والتبجيل ولو أخطأوا، فبيان الخطأ غير موجب للمساس بمكانة العلم والعلماء بل على العكس هو مما تحفظ به مكانتهما من الابتذال والاستغلال. ب- على العلماء أن يستفيدوا من المؤسسات في بناء أمن عقدي يحصن الشباب، ويعمق تمسك المغاربة بالدين والشريعة، دون أن يمنعهم الحرج من القيام بواجبهم، فلا مكان للمسلمين في العالم دون إسلام عملي نافذ يحقق العدالة والمساواة والأخوة الحقيقية لا كما تم رفعها لتفتيت الدين والتدين بعد الثورة الفرنسية. ج- على العلماء الكبار الذين لهم قبول عند جمهور المغاربة أن يشاركوا في الملفات الكبرى التي ترقى إلى مرتبة قضايا "رأي عام"، ويكثر فيها السجال بين العلمانيين والمسلمين، فالناس ينتظرون مواقفهم، وهذا ليس بدعا من القول أو الفعل، فقد وقف العلماء على عهد الراحل د. عبد الكبير المدغري رحمه الله بقوة عندما تقدم الوزير العلماني الاشتراكي سعيد السعدي عن حزب التقدم والاشتراكية، بخطة إدماج للمرأة في التنمية، والتي كانت تستصنم النموذج الليبرالي، فلم يتم الاستجابة لبعض ما جاء فيها إلا بعد الضغوط وتكميم الأفواه والترهيب الذي حصل بعد 16 ماي، وما أعقبها من استغلال دولي للإرهاب الذي تم تطويره واستثماره من كل دول الغرب وعلى رأسهم أمريكا، والذي انتهى بالتطبيع مع الصهاينة، والإخضاع لكل ما هو إسلامي. د- ينبغي على السادة العلماء أن يقوموا بدورهم الذي أناطه بهم الشرع، ويتسنموا المنزلة التي أحلّهم فيها القرآن والسنة، والتي كانوا فيها قبل الدولة الحديثة التي وضعها ليوطي في المغرب واستنسخها من النموذج الفرنسي العلماني، فقد كانوا على مر التاريخ الإسلامي في الطبقة العليا من الهرم يقتسمونها مع الحكام والأمراء ومن تحتهم باقي طبقات المجتمع من نقباء وممثلي القبائل والأشراف، وكان الإسلام هو المحيط الذي يكتنف بحدوده كل الطبقات حاكمهم وعالمه وعامتهم وخاصتهم، فلا يجرؤ أحد أن يخالف الدين إلا بفتوى علمية محررة من طرف رؤوس العلماء وزبدتهم، والتي كانت تسمى أهل الحل والعقد، فلا ينعقد إلا ما عقدوه، ولا ينحل إلا ما أذنوا بحله، في مراعاة واحترام لنصوص الدين والمشهور من مذهب الإمام مالك الذي كان هو مستند القضاة والحكام والعلماء، إذ كان هو القانون المنظم لكل القطاعات، بدءًا من السياسة الشرعية وانتهاء بالأحوال الشخصية، وبينهما كل المعاملات والممارسات التجارية والاجتماعية.. ه- لا ينبغي أن نفهم مما تقدم أن الدولة الحديثة تتناقض بالضرورة مع الدولة في الإسلام، فليس من شرط الدولة الحديثة أن تكون علمانية، كما يحلو للعلمانيين أن يصوروه للناس، بل الحداثة والتحديث مورسا في الدول الإسلامية، من بلاد الأندلس إلى دمشق وبغداد، لكن الحداثة عندما بناها الأوربيون الجدد على أنقاض المسيحية والإسلام أسسوها على ما أنتجته الحضارتان الرومانية والإغريقية، فصارت الحداثة مقرونة عندهم بالكفر بما وراء المادة، وحاربت الإله وما تفرع عن وجوده من شرائع ومعتقدات، نتيجة تسويتهم لله الخالق الواحد بما ابتدعته الميثولوجيا الإغريقية. والعجيب أن هذا المنهج قد نجح في تفتيت العقيدة النصرانية فتركت مكانها للعلمانية، حتى صارت الكنائس تقبل بزواج اللواطيين، وهو الأمر نفسه الذي يستورده علمانيو المغرب والبلاد الإسلامية بتوجيه وضغط وإصرار من الساهرين على عولمة العلمانية فوق الكوكب الأرضي. لكن لا نشك في بقاء السادة العلماء، سواء الرسميون أو من يشتغل خارج المؤسسات، صمام الأمان الذي يمنع هذا الغزو الغربي من الاستحواذ والعبث بمقومات الهوية والدين ومستقبل الأسرة والمسلمين. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.