«الأَولى أن يتجه الإنفاق إلى بناء المستشفيات ودور الأيتام بدلا من إنفاقها على بناء المساجد»، عبارة لطالما تلقيناها من خلال وسائل الإعلام العربية، وهي صائبة لدرجة كبيرة إذا كانت المساجد تتسع للمصلين وتزيد عن حاجاتهم، فحينئذ سيكون التوسُّع في بنائها -من دون الالتفات إلى تحقيق مصالح الناس الصحية والخدمية- أمرا بعيدا عن فقه ترتيب الأولويات. أما إذا كان قائل هذه العبارة لا يضع دعوته لبناء المستشفيات والمؤسسات الخدمية إلا كبديل عن بناء المساجد وحدها، من دون أن يطالب بها كبديل عن الإنفاق في الأنشطة الترفيهية، فهذا بلا شك لديه مشكلة مع وجود المساجد. هذه صورة من صور التعامل المشين مع المساجد، التي هي في أصلها عامل مهم وحيوي لبناء لُحمة المجتمع الواحد، ففي المسجد يلتقي الناس على أداء شعائر واحدة، يتصافحون، يتعارفون، ويتقاربون. في المسجد تُحل المشكلات، وينتقي الحضور أطايب الحديث، كما ينتقون أطايب الثمر، إذ أن قدسية المكان تُربّيهم على صيانة الألسنة والجوارح عن الزلل والإساءة. لكن مثل هذه الصورة في التعامل مع المساجد التي ذكرناها آنفا، توحي بأن هناك رغبة في تزهيد الناس في بيوت الله، ويتضح ذلك عندما تضيف إليه ما يردده البعض من أن المساجد هي مصانع الإرهاب. لكن الصورة الأكثر بشاعة في التعامل مع المساجد، هي التباين الشاسع في تطبيق الإجراءات الاحترازية من فيروس كورونا، بين المساجد وسائر الأماكن والمؤسسات. تأتيني رسائل كثيرة من مختلف البلدان العربية تشتكي من كون المساجد تحديدا تحظى بتشديد في الإجراءات الاحترازية بصورة مبالغ فيها، وتضع هذه الرسائل ما يقابلها من تعامل مرن مع الأماكن الأخرى. ففي المساجد تغلق دورات المياه، وصنابير المياه، بمعنى أن الفرصة في أداء الصلاة في المسجد تكون متاحة لجيران المسجد وحدهم، أما عابرو السبيل والمسافرون وكثير من أصحاب المحلات، فهؤلاء لا تتاح لهم الصلاة في المساجد غالبا. سوف نتفهم في هذه الحالة مخاوف العدوى وانتقال الأمراض والفيروسات إذا كانت هذه الإجراءات عامة، لكن المشكلة في أن دورات المياه العامة في الشوارع، وفي محطات القطار وفي مراكز التسوّق ونحوها، غير معطلة وتعمل بشكل مستمر، وهنا من حق الناس أن يتساءلوا: هل الفيروس انتقائي إلى هذا الحد؟ وهل هذه الصورة الانتقائية، أمرٌ غير مقصود؟ هل تتحقق خطورته في دورات المياه في المساجد، وتنتفي خطورته في دورات المياه العامة؟ هذه الشكوى تحمل مخاوف الناس من هجران المساجد، وانحسار عدد رُوّادها، فالمسافر الذي يريد قضاء حاجته والوضوء للصلاة لن يتاح له أداؤها، وأصحاب المحلات الذين يعتمدون على المساجد في هذه الأغراض لن يتاح لهم أداؤها. ثم تأتي الإجراءات الاحترازية داخل المسجد، حيث يُلزم المصلون بأن يبتعد كل منهم مسافة متر أو متر ونصف المتر من اليمين واليسار، وحمل سجادته الخاصة بالصلاة وفرشها على سجاد المسجد، وارتداء الأقنعة الواقية، وعدم القراءة في المصاحف، وعدم استخدام مُبرّدات المياه، وكل هذا حسن، ولا غبار عليه، لكن ماذا عن وسائل المواصلات العامة التي يتلاصق فيها الناس؟ ماذا عن مُبرّدات الماء في عيادات وصالونات التجميل المُكتظّة بالنساء؟ وماذا عن الأسواق التي تحتشد فيها الجماهير، وقَلّما تكون هناك مراعاة لارتداء الأقنعة الواقية فيها؟ وماذا عن المؤسسات الحكومية التي يدخل إليها الآلاف يوميا ويقفون فيها بالطوابير؟ بل اترك هذا جانبا وتساءل عن الحفلات الغنائية التي يحتشد فيها الناس بالآلاف؟ وتساءل عن قاعات المناسبات والأعراس والمطاعم والفنادق، التي تختفي فيها معالم الاحتراز من الفيروس؟ وماذا عن مدرجات مباريات الكرة التي تضم الآلاف بعد السماح بها مؤخراً؟ً العجيب، أن هناك رقابة صارمة على تطبيق هذه الإجراءات الاحترازية بحذافيرها في المساجد، يضاف إليها التأكيد على الإسراع في الصلاة وسرعة إغلاق المساجد بعد الانتهاء منها مباشرة، وعدم السماح للأئمة بإلقاء المواعظ والدروس العلمية، وقد يتم التعامل مع المساجد المخالفة لهذه التعليمات بشكل عقابي شديد يصل إلى حد الإغلاق. وفي المقابل تختفي هذه الصرامة إذا كانت التجمعات في غير المسجد، بما يعطي الحق للناس أن تتساءل: لماذا المساجد تحديداً؟ من حق الجماهير أن تتساءل وتضع العديد من علامات الاستفهام أمام هذه الأوضاع التي لا يجدون لها تفسيرا. وأتساءل في هذا المقام: ألا يلتمس العذر للجماهير في أن تفسر هذه الإجراءات على أنها رغبة رسمية بانحسار التدين في هذه الدول؟ واستباقا لما قد يُعلق به المتشنجون أدعياء الفكر التنويري وهواة الاصطياد في الماء العكر، أقول إنها ليست دعوة تحريضية باسم الدين، وليست تهييجا لجهالات التكفير في رمي الحكومات بمحاربة الإسلام، ولكنها تساؤلات منطقية، تستدعي إجابات منطقية تريح الجماهير المتضررة من هذه السياسات الحكومية في التعامل مع المساجد في زمن كورونا، فإما أن تكون هناك ردود مقنعة بعيدا عن التصريحات العائمة المزخرفة، وإما أن يكفوا عن هذه الانتقائية في تطبيق الإجراءات الاحترازية الصارمة مع المساجد دون غيرها، وهذا عين ما تقتضيه المصلحة وسلامة المواطنين، فما فائدة أن يتباعد المصلون في المسجد ثم يخرجون بعدها ليتلاصقوا في وسائل المواصلات أو في الأسواق ويتناقلون العدوى؟ وما الفائدة من أن تغلق دورات المياه في المساجد ثم يذهب الراغبون في الصلاة إلى دورات المياه العامة للوضوء فيها؟ هذا العبث يُعَدّ صورة غير مباشرة لإنتاج التطرف الفكري، حين تنغلق أفكار الجماهير على تفسير واحد لهذه الإجراءات وهذه الانتقائية: إنها مُعاداة لشريعة الله، وهي التهمة التي تحرص الأنظمة في الدول الإسلامية على نفيها، ولكن مع الأسف تراها تحشر الناس في زاوية واحدة للتحليل بسبب تعسُّفِها، ويحضرني هنا نشأة التكفير في سجون عبد الناصر، إذ أنه نبت بسبب التعذيب الشديد الذي ذاقه الإسلاميون في السجون على يد زبانية ناصر، ومن هول ما رأوه لم يجدوا لذلك تفسيراً سوى أن هؤلاء القوم لا يعرفون الله، وليسوا بأهل إيمان، فلم يترك لهم النظام مجالا لتفسير آخر، فقاموا بتكفير المجتمع كله من رأس النظام إلى أصغر جندي مُكره على أمره، إلى عموم الناس باعتبارهم راضين عن حكم الطواغيت كما قال منظرو هذه الفكر التكفيري. ينبغي عدم حشر الجماهير في هذه الزاوية تحت ضغط التعسّف والعنت، وإلا – ونُخاطب هُنا أنظمة الحُكم في بلاد المُسلمين، ونقول: «أنتم من زرعتُم شجرة الإرهاب وأنتم من سقيتموها، فلتحصدوا غدا ما تزرعون»، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.