هوية بريس – عبد المنعم أديب شهدتْ العقود الفائتة في غالب البُلدان العربيّة تفشِّيًا في الاهتمام البالغ باللُّغات الأجنبيَّة. بل بلغ بالكثير من العرب السفاهة الشديدة في هذا السلوك المُقبل على هذه اللغات. ونرى جميعًا كمْ ينفق الكثير مِنَّا الأموال الطائلة ليدرُسَ أولادُه في المدارس الأجنبيَّة. ولعلَّ البعض يفسِّر هذا بأنَّ أصحاب هذا السلوك يريدون تحقيق فرص عمل أوسع لأولادهم. وهذا قد يكون -في نظرهم مُبرِّرًا- لولا أنْ صاحَبَ هذا السلوكَ سلوك واعتقاد آخر باحتقار اللغة العربيَّة، وتفضيل اللغات الأوروبيَّة عليها. تاريخ الظاهرة وليست هذه الظاهرة ببعيدة عن ذهن مَن يستقرأ التاريخ الحديث؛ فمنذ وطأ "نابليون بونابارت" غازيًا أرض الوطن العربيّ (1798م)، وإعرابه أنَّه جاء بالعسل واللبن لهذا الوطن، تولَّدتْ طبقة من المِصريِّين والشَّاميِّين مُوالين لهذا المُحتّل. وينقل لنا الدكتور "أحمد زكريا الشِّلْق" أستاذ التاريخ الشهير في كتابه "إمبرياليُّون ومستشرقون" ص53 -وهو كتاب جيد يُنصح بقراءته- أقول ينقل أقوال مُؤلِّف كتاب "مصر النابليونيَّة، غزو الشرق الأوسط" (2007م)؛ الأمريكيّ "خوان كول" الذي يتعجَّب من أنصار القوميَّة المصريَّة؛ حيث يجد منهم مَنْ يصفون الحملة بأنَّها كانت دَفعةً قويَّةً نحو حداثة نشطة زلزلت مجتمعًا تقليديًّا، بالرُّغم من أنَّ هذه الفِريَة قد دُحضتْ من مُؤرِّخِيْ الاجتماع في سبعينات القرن العشرين؛ حين أثبتوا أنَّ "مصر" لمْ تكنْ صحراء جرداء تنتظر "بونابرت" ليكتشفها، ويقودها نحو الحداثة. فضلًا عن أنَّ ما جاء به من مُخترعات رحل به بعدها عام (1801م). من بعد هذه الحملة الفرنسيَّة توالتْ الحملات الغازية على الشرق العربيّ. ونشط المستعمر الإنجليزيّ، والفرنسيّ، والإيطاليّ في نشر ما يريد نشره من أفكار ومعتقدات. وكان أهمُّها تفوُّقَ المُحتل على أهل البلاد. ومن أعظم علائم هذا التفوّق امتياز لُغته عن لغة أهل البلاد. وبدأ هذا في توليد طائفة كبيرة، تولَّتْ الكثير من المناصب، وأصدرت العديد من المؤلّفات في تثبيط العرب عن عربيِّتِهم وعن نحوهم، بل عن طريق كتابتهم. وبدأوا في إنشاء مشكلة من لا مشكلة. فكانت هذه القضيّة التي أعالجها الآن. حتى إنَّ المصريّ "عبد العزيز فهمي" اقترح أنْ يكتب العرب "اللغة العربيّة" بالحروف اللاتينيّة!! والأسخف من الاقتراح هو سببه؛ حيث إنَّها بهذا ستصير أيسر في وجهة نظره!! ثم توالى الجهد من المُتغرِّبين (أقصد بهم مَنْ نحَوْا اتجاه الغرب بالعموم، ولا أقصد التشكيك في أحد دون أحد) في هذا المجال. فراحت المُؤلَّفات تُصدَر، وصاحَبَها في القرن العشرين طلائعُ الغزو الثقافيّ، واشتداد موجته بعد انفراد "الولايات المتحدّة الأمريكيّة" بالعالَم؛ عقب انهيار "الاتحاد السوفيتيّ" عام (1989م) وما بعده. حيث نشطتْ هذه الأفكار، وصارت تنبع من نفوس العرب، لا من دعوات خارجة عنهم. وهذا أخطر ما في الأمر. حيث تحوّل الأمر من مشكلة مُصطنعة، إلى قضيَّة تُطالعُك وكأنَّها حقيقة مُستقرَّة. وها نحن في يومنا الحاضر نرى ثمار هذه الحركات؛ فأبناؤنا في المدارس يشيع بينهم هذا الوهم بعموم شديد، وطبقات من المُثقفين؛ من الذين حملوا الراية عن المُتغربين الأوائل يكملون طريقهم، والآخرون من المُثقفين يغلب عليهم طابع الفكرة، ويظهر في تصرُّفاتهم، والكُتَّاب على مثالهم يعمهون. ونرى الكثير من الكُتُب الآن؛ خاصّة منها كتب المقالات الهيِّنة، وبعضًا من الروايات تظهر فيها الكلمات الأجنبيّة، مكتوبةً بحروفها، أو بحروف عربيَّة. ونرى الأساليب الأجنبيَّة ظاهرة في التأليف العربيّ. وكثير غيرها من مَأتيِّ ثمار هذه الدعاوى، وهذا الوهم. الأسباب العُظمى لشيوع هذا الوهم الغزو الثقافيّ الذي يحيق بالمجتمع العربيّ من كلّ جانب. حيث ساعد المساعدة الأكبر في تغذية هذا الوهم في نفوس العرب. وأنشأ فيهم حَنَقًا خفيًّا على لغتهم، مَدخلاً لكلّ ثقافتهم. وهنا يجب أنْ أعرب أنَّ هذا الغزو الثقافيّ -الأمريكيّ منه خاصّةً- لمْ يؤثّر على العرب وحدهم، بل استطاع التأثير على أمم أخرى عريقة مثل العرب، كاليابان. ونستطيع أن نطمئن نحن العرب حين نعلم أنَّ هذه المظاهر التي طغت -بعض الشيء- على كثير من بُلدان العالم. مِمَّا يؤذن بقُرب نهايتها، فهي موجة وستعبر. الانهزاميّة الحضاريّة؛ حيث عمَّقتْ هذا الوهم، ووطّدتْه في نفوس العرب. وأدَّتْ إلى احتقار العرب لذواتهم. الاستعمار الأوروبيّ للوطن العربيّ؛ وهو أحد أهمّ أسباب جلب هذه القضيَّة لعالمنا. يكفي أن نعلم -فوق ما ذكر- أنَّ أوّل مَن دعا المصريين للتخلِّيْ عن لغتهم، واعتماد العاميّة بدلًا منها كان المُستعمر. وحركة "ولكوكس" ليست ببعيدة. عداء الضمير الجمعيّ الأوروبيّ للعرب والمُسلمين. حيث ساعد على موجات من التحقير لرموزهم الدينيَّة والتاريخيَّة، ولغتهم. وأيضًا زادتْ من رغبة المُتغرِّبين في الهجوم على لغتهم، والاستمساك بلغة الغير. حركة "الفرنَسَة" في البلاد التي احتلّتْها فرنسا. حيث حرصت "فرنسا" على فرض لغتها، وتاريخها، وآدابها على تلك البلاد، والتحقير والتهميش للغة العربيّة. وإهمالها في مراحل التعليمْ، حتى صارت بلاد المغرب العربيّ تُعاني من ثنائيَّة لُغويَّة، ما بين العربيّة والفرنسيّة. حيث يجيد الجميع الفرنسيَّة -على درجات- ولا يجيدون العربيَّة، والبعض منهم له لغة هجين بين العربيَّة والفرنسيَّة؛ لا هي هذه، ولا هي تلك. ربط اللغة الأجنبيَّة بحال مُتحدِّثيْها الأجانب، وأنَّ دولهم مُتقدِّمة الآن لذا -قياسًا على هذا- لغتُهُم أيضًا لا بُدَّ أنْ تكون مُتقدِّمة مثلهم، أو دليلًا على التقدُّم. ويتوهَّم العربيّ المسكين أنَّه -بلُهاثِهِ وراء تلك اللغة- بها يستقوى، بل بها يستعدي ويتسلَّح على أبناء وطنه الذين يتعلَّمون لغتهم القوميَّة التي ارتبطتْ في نظره بالتخلُّف والتأخُّر الحضاريّ. كثرة المدارس التبشيريَّة المسيحيَّة في العالَم العربيّ. وليست هذه المدارس ظاهرة حديثة العهد، بل قديمة راجعة إلى عهد الاحتلال الأوروبيّ للعالَم العربيّ. فمنذ تلك الأيام وهذه المدارس تُنشأ وتُقام، وتساعد في تغيير التربة الفكريَّة لأبناء الوطن، بل تجرِّفها تجريفًا. ومن أعظم آثارها هذا التعظيم للغات الغرب على لغة أهل القوم. الوهم بأنَّ أنظمة اللغات الأخرى أسهل من النظام اللغويّ العربيّ (النحو)، واللغات الأخرى أسهل عمومًا من "اللغة العربيّة". ومَنْ يقولون بهذا يقصدون اللغات الأوروبيّة؛ خاصّةً منها الإنجليزيّة أولًا، والفرنسيّة. وهذا الوهم المُستشري في بلادنا ناجم عن مجموع العوامل الفائتة، وبروز دور مدارس الإرساليَّات التبشيريَّة. بروز الدور العَلمانيّ التغريبيّ في شيوع الدعوة إلى هذه اللغات بداعي الالتجاء إلى التقدُّم وقِيَمه، والتشبُّث بمظاهره. هذه الدعوة التي أُفردتْ لها الصفحات الطوال في الكُتُب والصُّحُف، والآن تُفرد لها الكثير من ساعات البثّ التلفازيّ، والفضاء الإلكترونيّ. فشل الجهود العربيّة في إعادة تقديم "اللغة العربيّة" -عمومًا-، و"النحو العربيّ" -خصوصًا- للعرب. وتقاعُس العرب الشديد في تحديث طرق تعليم اللغة، فضلًا عن عدم اهتمام الضمير الجمعيّ العربيّ بأمر اللغة كليَّةً؛ عربيّةً كانت أمْ غير عربيّة. فهذا غير منفصم عن كلِّ المشكلات التي يعانيها العرب في العالَم المعاصر. نتيجة هذه العوامل على أرض الواقع سأكتفي هنا ببعض الصور ذات الدلالة؛ لأنّ الأمر بيِّنٌ للجميع. فمنها اهتمام الطلاب البالغ باللغات الأجنبيّة، وإهمالهم "اللغة العربيّة"، واعتبار بعضهم لها عِبْأً، وشرًّا لا بُدَّ منه. ومنها حرص الكثير على استخدام اللغات الأجنبيّة في كلامه؛ رمزًا للتعالي، والسُّمُو، والتصعُّد الاجتماعيّ، على حساب هذا العربيّ الذي يقتصر تعبيره على لغته العربيّة. ومنها وهو الغريب؛ حرص البعض على أنْ يأتي بأصوات اللغة الأجنبيّة كما هي عند أهلها الغربيِّيْن، وحرصهم على نظام اللغة الأجنبيّة النحويّ، وأدائه الأداء السليم. في الوقت الذي يهملون فيه هذه الأمور بلغتهم الأصيلة، ولا يحرصون أدنى الحرص عليها. حتى إنّا جميعًا نرى بعضنا -في مشهد مُثير للأسى- يلوي لسانه لأداء اللغة الأجنبيّة أداءً صحيحًا، ثُمَّ يعقبها بنطق رديء للغته، وأخطاء جمَّة بشعة. مِمَّا يستدعي إلى الذاكرة قصة طائر "الغراب" الذي حاول تقليد مشية طائر "الطاووس" في مشهد يثير الرثاء والتقيُّؤ. فلا هو طاووس، ولا بقي غرابًا. بل كائنًا هجينًا مسخًا. ونجد حرص البعض على تصحيح أخطاء البعض الآخر الذي يخطئ في اللغة الأجنبيّة، بل اتخاذ هذا الأمر مُعتمدًا للسُّخريّة منه؛ إكمالًا لطريق التصعُّد الاجتماعيّ -كما سبق- في حين نراه يتجاوز عن الخطأ الشنيع في الفصحى، بلا أدنى اهتمام. وهذا يغذي فكرة الكائن المسخ، التي وصلنا إليها في مجتمعنا العربيّ. أثر هذا الوهم على اللغة العربيَّة الأثر المُباشر؛ حيث ألقتْ بظلالها على تغذية روح افتقاد الثقة باللغة العربيَّة جميعًا، بل وصم "النحو العربيّ" بالصعوبة والجمود. الأثر غير المُباشر؛ هو وجود ووفرة بدائل لغويَّة للغة الأمّ من اللغات الأجنبيّة، وشيوعها بين أبناء العرب جميعًا، ودخولها حيّز الكلام؛ العاميّ خاصّةً، وفي أوساط الكتابة المُتهافتة. ومنها المقالات في الصُّحُف، التي تتعامل مع العامّة يوميًّا. أثَّر كلُّ هذا على التهجين الأسلوبيّ بين "اللغة العربيَّة" واللغات الأخرى. مِمَّا أدَّى في الأعوام الأخيرة إلى ظهور نظم كتابيّ يُسمى "فرانكو عرب"؛ حيث يكتب الكاتب فيه "اللغة العربيّة" بحروف أجنبيّة، مُستعينًا بالأرقام. وهذا من أخطر الخطر. فيا أيُّها العقلاء تعالوا إلى نداء الذات داخلنا. لنسمع أنَّ الإنسان السويّ المُستقيم يقوم بناؤه على انسجام ما فيه من أفكار وآليَّات، لا على تبعثره وتشتُّته. ولنعلمْ أنَّ احتقار الإنسان لذاته لنْ يؤدي إلا إلى كُلِّ شرّ مُستطير؛ فمنذ متى يتقدَّم إنسان أو تتقدَّم أمَّة وكلُّ أجزائها مُفتَّتة بعيدة كلّ البُعد؟! هل هذا هو طريق التقدُّم حقًّا؟! هذا ما يجب أنْ نراجع أنفسنا فيه إلى الحقّ الواضح الجليّ أمام كلّ عين ناظرة.