قرأت باهتمام بالغ مقال الأستاذ مبارك بلقاسم الذي كان تحت عنوان ((يجب على اللغة الأمازيغية أن تغزو الحرف اللاتيني))، والذي كان ردا على مقال سابق لي تحت عنوان: (( الحرف المناسب لكتابة الأمازيغية))، وهاأنذا أبادر للدخول في حوار مع الأستاذ بلقاسم حول الموضوع المذكور استجابة لرغبة كان قد صوَّبها نحوي. وفي البداية أود أن أشكر محاوري على الاهتمام الذي يبديه تجاه مقالاتي، حيث أنه قام بالتعقيب على اثنين منها، الأول كان عن: الأرض مغربية وملْكٌ لكل المغاربة، إذ خصَّه بتعقيب في مقال كامل، والثاني عن الحرف المناسب لكتابة الأمازيغية، والذي تناوله هو بدوره في مقال مستفيض، كما أنني أنوه بكون الأستاذ بلقاسم لا يعطي للنقاش طابعا شخصيا، ولا يلجأ إلى أسلوب التجريح، أو التحامل على الكاتب الذي يختلف معه في الرأي ويسعى للتطاول عليه وتوجيه أطنان من الاتهامات له، قصد تخوينه، أو تكفيره، الأستاذ بلقاسم يناقش الأفكار التي يختلف مع صاحبها، ويقوم بالرد عليها، وهذا أمر إيجابي، ويُحسب له، وكما يقول المثل، فإن الخلاف في الرأي لا ينبغي أن يفسد للود قضية. بعد هذه المقدمة أنتقل إلى مناقشة ما ورد في مقال الأستاذ بلقاسم، مسجلا أنني لا أكتب برغبة في إفحامه أو الانتصار عليه، أو تحقيق نقاط على حسابه، أكتب هذا المقال لأناقشه، كوسيلة، لتوضيح أفكاري كما دونتها في مقالي السابق، ولتبيان عدم اتفاقي مع جاء في مقاله الأخير. فأشياء كثيرة أوردها الكاتب، أنا شخصيا لا أوافقه الرأي حولها، ولكنني سأركز على الأفكار والآراء التي كانت بالنسبة لي مستفزة، وتستحق الوقوف عندها ومناقشتها، دون غيرها. كلمة غزو في غير محلها لنبدأ أولا من العنوان، فأنا لا أفهم لماذا استعمل الأستاذ بلقاسم كلمة غزو في عنوان مقاله؟ الغزو مقترن، في الغالب، في أذهاننا، بالاقتحام بالقوة العسكرية لدولة أجنبية، أراضي دولة أخرى أضعف منها، وأقل عدة وعددا، واحتلالها واغتصاب إرادتها، فهل اللغة الأمازيغية تمتلك الوسائل والإمكانيات الذاتية والموضوعية لغزو أي جهة، سواء كانت هذه الجهة دولة، أو إقليما، أو قارة، أو حتى مجرد الحرف اللاتيني؟ اللغة الأمازيغية، إذا تمت الموافقة على كتابتها بالحرف اللاتيني، كما يقترح الأستاذ بلقاسم، ستستعير هذا الحرف الغريب عنها، لتُكتب بواسطته، إنها ستلجأ إليه توسلا للانتشار بين الجمهور، فهي التي في حاجة إليه، وهو الذي سيغزوها في عقر دارها، وليس العكس، فالعنوان إذن في نظري، غير موفق، ولم تكن كلمة الغزو ضرورية فيه، وربما لجأ الأستاذ بلقاسم إلى هذه الكلمة لسد الطريق أمام كل من قد يوجه إليه اتهام الاستنجاد بالحرف اللاتيني لنشر لغة وطنية، مع ما يتضمن ذلك من عودة للغزو الاستعماري إلى بلدنا، ملفوفا في لغتنا الوطنية التي يفترض أنها رمز من رموز سيادتنا، وهذا افتراض من جانبي فقط وليس أمرا متيقنا منه. الهدف الاستراتيجي وبتجاوز العنوان، فإنني لن أناقش الأستاذ بلقاسم في ما أسماه إحدى عشر حجة علمية وتقنية لصالح كتابة وتدريس الأمازيغية بالحرف اللاتيني، وضد كتابتها بالحرف العربي، ساقها في مقاله، فبالنسبة له الحرف العربي غير صالح لكتابة الأمازيغية ولتدريسها، ونقطة على السطر، وبإمكانه، نتيجة لهذا الحكم الذي عنده في ذهنه عن الحرف العربي، أن يسرد، كما قال، مئات أو آلاف الحجج على عدم صلاحيته لكتابة الأمازيغية، ولا أحد سيمنعه من أن يفعل، فما دام الهدف الاستراتيجي مرسوما، ألا وهو عدم قبول كتابة الأمازيغية بالحرف العربي، فإن أي حجة، مهما كانت طبيعتها، يمكنها أن تصبح صالحة لتبرير الهدف المرسوم، فحتى لو تجرأ على كتابة الأمازيغية بالحرف العربي، كتاب ومفكرون أمازيغ كثر، فإنتاجاتهم، كيفما كانت قوتها الإبداعية، فإنها ستظل، في نظر الأستاذ بلقاسم، إنتاجات متواضعة، لأنها ارتكبت خطيئة التدوين بالحرف العربي، وليس انطلاقا من مضامينها. وللحقيقة فلقد استثنى الأستاذ بلقاسم (( العمل الأمازيغي الوحيد الجدير بالذكر الصادر بالحرف العربي هو "المعجم العربي الأمازيغي" للباحث الأستاذ العلامة محمد شفيق، وهو قاموس صدر عن أكاديمية المملكة المغربية في التسعينات)). مبروك لنا على الأقل، نحن أنصار كتابة الأمازيغية بالحرف العربي، فلقد تكرَّم علينا الأستاذ بلقاسم بعمل أمازيغي محترم مكتوب بالحرف العربي، وربما هذا العمل الوحيد الذي استشهد به، قد يكون كفيلا بنسف نظريته كلها، القائلة بأن الحرف العربي غير أهل لكتابة الأمازيغية، فإذا كتبَ الأمازيغيةَ بهذا الحرف العلامة محمد شفيق، فلم لا يكتب الأمازيغية به، وعلى غراره، جميع إخواننا الأمازيغ؟ صراحة وأنا أقرأ الحجج المقدمة على عدم صلاحية الحرف العربي لكتابة الأمازيغية، تساءلت مع نفسي، هل الحرف العربي صالح لكتابة العربية نفسها؟ وكيف له أن كتبها لقرون وقرون عديدة، وفي جهات مختلفة من العالم، وما زال يكتبها إلى اليوم، وهو بكل المثالب التي ألصقها به الأستاذ بلقاسم؟ علما بأن لغة الأستاذ العربية التي يكتب بها مقالاته، جيدة، ورائعة، وقادرة على تبليغ كل أفكاره بأمانة ودقة، وتحويلها إلى مادة للجدل والنقاش والسجال حولها، رغم أنها أفكار تكون، أحيانا، غاية في التقنية والتخصص. الأمازيغية ليست صنما يُعبَد يطرح الأستاذ بلقاسم السؤال التالي: ما الذي يهمك في موضوع حرف كتابة وتدريس الأمازيغية؟ ويجيب: (( إذا كانت مصلحة اللغة الأمازيغية هي التي تهمك فأنت ستحاول النظر إلى قضية الحرف من منظار المصلحة الأمازيغية وليس من منظار مصلحة لغة أخرى أو أيديولوجية ما أو ديانة ما)). نعم أنا مغربي، وتهمني اللغة الأمازيغية ومصلحتها، ولذلك أظن أن الحرف العربي هو الأقرب إليها تاريخا وثقافة وإنسانا، وهو المؤهل لكتابتها وللحفاظ عليها لغة وطنية، لأنه إذا تمت كتابتها بالحرف اللاتيني، أظن صادقا مع نفسي، أنها ستصبح لغة غريبة عني، ستتحول إلى لغة مرتبطة بالحرف الذي يقدمها لي بين ثناياه، وبماذا سأميزها عن الفرنسية، أو الإسبانية، أو الإنجليزية، أو أي لغة من اللغات الأجنبية الموجودة في بلدي؟ والأمر لا يتعلق بي كشخص، وإنما بكل المغاربة الذين لا يتكلمون الأمازيغية، ولا يجيدونها نطقا وكتابة. يوجد من بين المغاربة أمازيغ وغير أمازيغ، والأمازيغية رصيد مشترك لكل المغاربة، طبقا لما جاء في الدستور، إنها لغة تحت سقف الوطن الذي هو المغرب، والهدف من تطويرها وإنعاشها وتدريسها وتعميمها هو خدمة المصلحة الوطنية المغربية العليا التي هي تحقيق الانسجام والتوافق والاندماج بين مكونات الهوية الوطنية كما حددها الدستور، فالمغاربة لا يخدمون اللغة، سواء كانت العربية أو الأمازيغية، لخدمتها، إنها ليست صنما يعبدونه ويقدسونه، ويجعلونه فوق مصلحة البلد، إنهم يخدمون اللغة لكي تخدمهم، وتكون تحت تصرفهم، لا أن يكونوا هم تحت تصرفها. وفي هذا السياق أنا أختلف مع الأستاذ بلقاسم في قوله: (( إن المغرب هو من الأمازيغية وهو أحد أجزائها)). لا يا أستاذ، الأمازيغية هي التي من المغرب، وجزء من أجزائه المتعددة والمتنوعة، ويتعين على الأمازيغية تعزيز التنوع والتعدد وحمايته، وليس جعلها أكبر وأعلى منه، لضربه والقضاء عليه بواسطتها، وإذا لم تكن الأمازيغية، لغة وحرفا، منغرسة في تربة الواقع المغربي ومنطلقة منها، فإنها ستكون لغة هجينة وباهتة وباردة، ولا نشعر بأنها منَّا وإلينا، وإذا كانت مكتوبة بالحرف اللاتيني، سينتابنا الإحساس الدائم بأنها تتضمن شيئا ما ليس لنا، ونابع من دواخلنا، وهذا أمر ضد الأمازيغية أولا، قبل غيرها. تاريخ الحرف بالمغرب وللتقليل من شأن وجود الحرف العربي بالمغرب، ومن حظوظه لكتابة الأمازيغية، ينتقل الأستاذ بلقاسم إلى الحديث عن التواريخ التي دخلت فيها الحروف إلى المغرب، فيبدأ بالحرف الليبي الأمازيغي، ثم الحرف اللاتيني، وحرف تيفناغ، ويعقبه الحرف العبري، وكلها حروف يتحدث عنها بحياد وموضوعية، ودون نعوت قدحية، إلى أن وصل إلى الحرف العربي الذي يصفه بأنه (( حرف دخل إلى المغرب بشكل سطحي وضعيف مع الاحتلال الأموي الوجيز لجزء صغير من بلدان الأمازيغ في حوالي عام 700 ميلادي. ثم بعد أن تم طرد الأمويين من طرف الجيوش الأمازيغية عام 741 ميلادي بقي الحرف العربي مستخدما في المساجد ومدارس القرآن وبعض دواوين السلاطين المسلمين مع انتشار الإسلام الخوارجي ثم الشيعي ثم السني بالمغرب على يد الممالك الأمازيغية الإسلامية)). الحمد لله، الحرف العربي ظل سائدا على أيدي الممالك الأمازيغية الإسلامية، فلا أحد كان يُجبر هؤلاء السلاطين على الكتابة بالحرف العربي، لقد حكم البعض منهم إمبراطوريات تكاد لا تغيب عنها الشمس، وكانوا سادة العالم، ولم يكن بمقدور أي كان إرغامهم على الكتابة بالعربية وبالحرف العربي، لم يكن في متناول أي مخلوق القدرة على تعريبهم، بلغة النشطاء الأمازيغ الحاليين، ولكن هؤلاء السلاطين تمسكوا، باللغة العربية وبحرفها، وبها وبه، كانوا يكتبون مراسلاتهم لولاتهم، ولقادة جيوشهم، ولأئمة مساجدهم الكبيرة، بالعربية وبحرفها، كانوا يسُكُّون نقودهم، ويلقون خطبهم، ويجيشون الجيوش للدفاع عن حوزة الوطن ومد إشعاعه خارجه.. وهم الذين أورثونا نحن الجيل الراهن اللغة العربية بحرفها العربي. لقد أصبحت اللغة العربية بحرفها العربي، بفضل هؤلاء السلاطين الأمازيغ العظام، جزءا من هوية المغرب الحضارية، في حين لم يهتموا بباقي الحروف الأخرى التي مرت بالمغرب، ولم يقيموا لها وزنا. ولا شك في أن حكمتهم البليغة هي التي كانت وراء اختيارهم المتبصر هذا الذي أكدت صوابه السنون التي أعقبت عصورهم. ففي الوقت الراهن صار الحرف العربي باللغة العربية مكونا رئيسيا لمكونات هويتنا الوطنية، طبقا للدستور، بصرف النظر عن تاريخ وصوله إلى المغرب، وكيفية حدوث ذلك. الواقع حاليا لا يرتفع كما يقال، فالحرف العربي سائد في بلادنا وصار حرفا وطنيا، ومن هذا المنطلق يحق لنا الدعوة لجعله حرفا لكتابة الأمازيغية. الأمية في الأمازيغية يرى الأستاذ بلقاسم أنني وضعت شرط القبول السياسي والاجتماعي والبرلماني والشعبي لكتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني، وأنا في الواقع تساءلت مع القراء هكذا: إذا افترضنا أن قرار التخلي عن تيفناغ تم اتخاذه والموافقة على ذلك، فما هي حظوظ الحرف اللاتيني، كأداة لكتابة الأمازيغية، من القبول اجتماعيا ودستوريا؟ هل سيسمح البرلمان، والحكومة، والمجلس الدستوري، والمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، والصحافة، والرأي العام المغربي باختلاف مكوناته، بكتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني، وتدريسها وتعميمها على باقي المغاربة بهذا الحرف؟ فأنا تساءلت إن كان المجتمع ومعه مؤسسات الدولة ستقبل بالأمر، وهذا سؤال مطروح ومشروع. غير أن جواب الأستاذ بلقاسم كان التالي: (( معظم الشعب المغربي والسياسيين أميون في الأمازيغية لا يعرفون كيف يكتبونها بأي حرف كان ولا يفهمون خصائصها النحوية والإملائية والتالي لا يرون الموضوع إلا من زاوية الحسابات الدينية والسياسية والحزبية والأيديولوجية)). نحن هنا أمام عقلية لا أريكم إلا ما أرى، فالضالعون في الأمازيغية الذين هم كلهم أمازيغ، هم الذين يحقُّ لهم لوحدهم دون غيرهم تناول موضوع الأمازيغية لغة وحرف كتابة، كل من لم يكن منهم، لا يجوز له الحديث عن هذا الموضوع، أو الاقتراب منه، لأنه أمي في الأمازيغية. فإذن على هذا المنوال، الشعب أمي في السياسة، وفي الاقتصاد، والاجتماع، وفي الثقافة، والإعلام، وفي الدستور.. فلا يجوز له، طبقا لهذا المنطق، الحديث في مثل هذه المواضيع التي هي من اختصاص الجهابذة والمفكرين العظام الذين لديهم المعرفة العميقة بهذه العلوم، ولديهم بالتالي الحلول السحرية لكل القضايا التي تهم الشعب، وما على هذا الشعب سوى الركون إلى الصمت والانتظار وتقبل ما يفعله فيه الاختصاصيون.. إذا صدرت عن أي فرد من الشعب أية أنة، أو صرخة ألم، أو صيحة احتجاج ضد كل قرار اتخذ في شأنه، فإن العصا ستكون من نصيبه، ومعها الاعتقال، والزج به في غياهب السجون. لأنه إنسان أمي، ويتكلم في ما لا يفقهه، ويُفسد على أهل العلم أجواء الاختلاء في دواتهم من أجل العثور على الحلول الناجعة لمشاكله. أليس هذا احتقار للشعب وتبخيس لذكائه، ألا يشكل ذلك مقدمة وغطاء لسيادة الطغيان في أبهى صوره؟ لا يا أخي مبارك، اللغة الأمازيغية شأن وطني، ويهم المغاربة جميعهم، والقرارات التي ستتخذ في شأنها ستنعكس سلبا وإيجابا على كل المغاربة، ولذلك فإن من حق أي مواطن من المواطنين أن يكون له رأي فيها، وأن ننصت إليه، ونعتبر رأيه جديرا بالتقدير، وقد يكون هو الأفيد من رأي غيره من الذين يعتبرون أنفسهم متخصصين عظاما في الأمازيغية، خصوصا ونحن نعلم أن هؤلاء النشطاء مختلفون بينهم حول قضايا كثيرة مرتبطة بالأمازيغية، وعلى رأسها الحرف الذي تُكتب به، فمنهم من يدافع باستماتة مطلقة حتى الآن عن حرف تيفناغ ويعتبره الحرف الأمثل والأفضل لكتابة الأمازيغية، ومنهم من يدعو مثلك للكتابة باللاتيني. ففي هذه الحالة، كيف سيتم الحسم في الأمر، فهاهم الأمازيغ المختصون في الأمازيغية، كل منهم له رأي حول الحرف الملائم للكتابة بها..؟؟ انتشار الحرف اللاتيني بالمغرب يقول الأستاذ بلقاسم: (( الطريف في الأمر فهو أن الحرف اللاتيني منتشر أصلا بالمغرب في كل مكان. إذن فهو "مقبول" بل "مرغوب" من طرف الدولة والشعب المغربي كحرف للفرنسية والإنجليزية والإسبانية في كل المدارس والجامعات والإدارات! وإذا قبلوه للفرنسية وغيرها فلماذا سيرفضونه للأمازيغية؟!))، ويخرج الأستاذ من تساؤله بالخلاصة التالية: (( من يرفض الحرف اللاتيني للأمازيغية ويريده للغات الأخرى ليس إلا حاسدا للأمازيغية خائفا من تقدمها وارتقائها به)). انتشار الحرف اللاتيني في كل مكان في المغرب أمر واقع، إنه حرف اللغات الأجنبية المنتشرة بدورها في بلدنا، فهل بإمكان الدولة المغربية أن تتدخل بالقانون لمنع كتابة الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية بالحرف اللاتيني للحد من انتشاره؟ هل عليها إجبار ذوي هذه اللغات على كتابتها بالحرف العربي؟ هذا مطلب مستحيل وعبثي، خصوصا أن الدولة اختارت الانفتاح على اللغات الأجنبية. فقبول الحرف اللاتيني للفرنسية خيار ليس بأيدينا، فهذا حرفها المرتبط بها والمتماهي معها، أما رفضنا الحرف اللاتيني للأمازيغية، فلأنه ليس حرفها، وإنما يراد تلبيسه لها قسرا، وفي هذا علة الرفض. حقيقة أنا شخصيا لا أفهم قول الأستاذ بلقاسم: ((من يرفض الحرف اللاتيني للأمازيغية ويريده للغات الأخرى ليس إلا حاسدا للأمازيغية خائفا من تقدمها وارتقائها به)). استنادا على ماذا خرج بهذه الخلاصة؟ ما هي الدراسات والبحوث واستقراءات الرأي التي اعتمدها ليبني عليها هذا الحكم المبرم الذي أصدره ضد الرافضين لكتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني؟ ألا يكون يحاكم نوايا الناس؟ أليس في هذا الحكم مصادرة على المطلوب؟ ولماذا يخاف المغربي أصلا من تقدم الأمازيغية وارتقائها؟ إذا تقدمت وارتقت ألا يتقدم ويرتقي بذلك كل المغاربة؟ الأمازيغية وليركام ويُرجع الأستاذ بلقاسم التخلي عن الحرف اللاتيني واختيار تيفناغ بدلا عنه من طرف أعضاء المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية المعينين في مناصبهم بظهائر ملكية، إلى (( سبب التسييس والأدلجة العدوانية التي مارسها الإسلاميون والتعريبيون ضد اللغة الأمازيغية في أواخر عام 2002 - حيث- اضطر الإيركام مرتبكا للهروب إلى تبني حرف ثيفيناغ بشكل متسرع)). هذا كلام خطير، إنه يفيد أن ليركام أي المعهد المذكور ليس مؤسسة مقتدرة يتصرف أعضاؤها وفقا لقناعاتهم العلمية، وبما يخدم المصلحة الأمازيغية، إنهم أفراد يخضعون للابتزاز والعدوانية، وينصاعون للضغوط والمساومات التي تأتيهم من الخارج، حتى إن كانت ضد إراداتهم الحقيقية. إذا كان الأمر على هذا النحو، فالإيركام مثَّل كارثة حقيقة على الأمازيغية، لقد مضى في اختيار حرف تيفناغ ووقَّع عليه، وجعله رداء للأمازيغية، رغم علمه أنه لا يصلح للكتابة والتدوين بواسطتها. وبناء عليه، فإن المطلوب حاليا هو المراجعة الفورية لكل القرارات والتدابير والإجراءات والتوصيات الصادرة عن ليركام في حق الأمازيغية، لأن من المرجح جدا أن تكون في أغلبيتها تضر بالأمازيغية وتُعطّلها، كما هو حال تيفناغ، تبعا لرأي الأستاذ بلقاسم. والأهم من كل هذا وذاك، يتعين مساءلة الأعضاء في ليركام، معنويا وأخلاقيا، عما بدر منهم من ضرر فادح ضد الأمازيغية حين تطوعوا واختاروا تيفناغ حرفا للكتابة بها، رغم علمهم أنه غير صالح لأداء هذه المهمة الوطنية النبيلة، ولا يجوز بتاتا تلمس الأعذار لهؤلاء الذين وافقوا على ذلك، أو حتى الذين سكتوا عما جرى، ولم يشعروا الرأي العام الوطني، بكافة ملابسات ما وقع، كما يفعل الأستاذ بلقاسم حين يقول: ((فالدكتور أحمد بوكوس عميد الإيركام كان هو نفسه قد دافع في لجنة وزارية لوزارة التربية الوطنية عام 2002 عن استخدام الحرف اللاتيني لتدريس الأمازيغية ثم غير رأيه في 2003))، وكأنه يبحث للسيد العميد عن ظروف التخفيف، ويجد له المسوغات، في تقلُّبه في مواقفه، وفي ما حلَّ بالأمازيغية من كارثة، بفرض تيفناغ حرفا للكتابة بها. الدستور والحرف العربي وفي موضوع دستورية كتابة الأمازيغية بالحرف اللاتيني أم لا؟ تصرَّف معي الأستاذ بلقاسم بطريقة مزعجة حقا، فلقد أورد في مقاله التالي: ((قام الأستاذ عبد السلام بنعيسي بصياغة تخريجة دستورية عجيبة مفادها أن الحرف العربي دستوري لأن العربية لغة رسمية في الدستور وأنه بناء على ذلك يجب كتابة الأمازيغية بالحرف العربي مثل شقيقتها العربية!!!)). وما ورد في المقال لم يكن على هذا النحو، فأنا أحاول اختيار كلمات مقالاتي بحرص ودقة لكي تؤدي المعاني المطلوبة. ولذلك قلت في المقال السابق في هذا الصدد ما يلي: طبقا لما جاء في الدستور، تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. ويضيف الدستور كذلك: تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة. وشرحت كلامي بالقول: فنحن أمام لغتين شقيقتين رسميتين للدولة المغربية، وإذا كانت الأمازيغية في حاجة إلى حرف لكي تتم الكتابة بها، بعد أن عجز حرف تيفناغ عن تحقيق الهدف من استحداثه، فالأجدر دستوريا، هو أن يكون هذا الحرف هو الحرف العربي، فليس منطقيا ومقبولا أن تتخلى الأمازيغية عن حرف للغة وطنية رسمية للدولة تتقاسم معها التراث، والعيش المشترك، والمصير الواحد، ألا وهي العربية، وتلجأ إلى لغات بعيدة عن الوطن، ومن خارجه لتستعير منها الحرف الذي تُكتب به. هذا تصرف ليس له أي معنى، وخال من أي حكمة، أو تبصر، أو تغليب للمصلحة الوطنية. لقد كان المطلوب مناقشة الفقرة كما وردت أصلا في المقال السابق وليس تحويرها لتقويلي قولا لم أتفوه به على الشاكلة المرْوية. ومع ذلك فإننا، حين نقول عن اللغة العربية إنها اللغة الرسمية للدولة، فإن المقصود بالعربية ليس فقط هو الكلمات والألفاظ التي تنطق وتكتب بها هذه اللغة، ولكن يدخل ضمن العربية حتى الحرف العربي الذي تكتب بواسطته، فهو جزء لا يتجزأ منها، ولا يمكن فصلها عنه أو فصله عنها، وما يسري عليها يسري عليه هو أيضا من الجانب الدستوري، فهذا رأيي الشخصي الذي لا أُلزم به أي أحد، ولكنني متمسك به. أما عندما يقول الأستاذ بلقاسم:(( إذا قررت الدولة أو جريدة مغربية أو مواطن مغربي أن يكتبوا وينشروا ويطبعوا اللغة العربية بالحرف اللاتيني أو التيفيناغي أو العبري مثلا فهذا لا يتعارض مع الدستور إطلاقا ويدخل في إطار حرية التعبير والنشر والصحافة)). فهذا قول فيه نظر. الدولة المغربية لا يمكنها، طبقا لجوهر الدستور، كتابة اللغة العربية بحرف غير الحرف العربي، كما لا يمكن تصور أن الدولة الفرنسية أو الأمريكية أو البريطانية ستكتب لغتها الرسمية بالحرف العربي مثلا، اللغة هي الحرف المرتبط تاريخيا بها، والدستور بقدر ما يركز على الجوهر، فإنه يركز على الشكل كذلك، وأحيانا التركيز على الشكل في القانون يكون أهم وأسبق من التركيز على الجوهر، فالكثير من القضايا خسرها أصحابها لأنهم لم يولوا العناية المطلوبة للشكل في تقديم شكاويهم أو دفوعاتهم. لكن هذا لا يمنع جريدة مغربية، أو مواطن مغربي، من طبع اللغة العربية بالحرف اللاتيني أو التيفناغي، فهذا فعلا لا يتعارض مع الدستور، لأنه حرية شخصية حقا ولا تعني إلا أصحابها، أما الدولة فإنها ملزمة بالتقيد باللغة العربية كما هي مدونة بحرفها في النص الدستوري، وإذا تخلت عن حرف العربية للكتابة بغيره، فإنها ستكون قد تحلَّلت من التزام دستوري متعاقدة فيه كتابة مع المجتمع، وهذا ما لا تقبل به كل دولة تحترم نفسها. تهمة التفكير الداعشيي التعريبي يلاحظ الأستاذ بلقاسم أن (( سيطرة الحرف اللاتيني عبر الفرنسية على كل المغرب بإداراته وتلفزاته واقتصاده ومدارسه وجامعاته لا تزعج المغاربة أبدا. ولكن بمجرد أن نكتب الأمازيغية بالحرف اللاتيني فإنهم يتذكرون فجأة أن الحرف اللاتيني أوروبي الأصل وأنه "استعماري صهيوني شيطاني")). ويستنتج من ذلك أن (( هذا التناقض السلوكي السايكولوجي العجيب هو من نتائج الشحن الأيديولوجي الإسلامي التعريبي الذي يشحن به المغاربة في المدارس والمساجد والإعلام المحلي والأجنبي، وهو أيضا من بقايا أسطورة "الظهير البربري" الكاذبة التي سممت عقول ملايين المغاربة، فيتحولون إلى أناس بتفكير داعشي تعريبي شرس كلما تعلق الأمر بالأمازيغية)). سيطرة اللغة الفرنسية على المغرب في الكثير من مؤسساته لا تعود إلى حرفها اللاتيني، السيطرة تعود لأنها تركة المستعمر الذي لديه أذناب كثر في بلدنا، ولا يزال يمتلك لوبيا قويا يهيمن به على الثروة والسلطة ووسائل الدعاية والإشهار، ويتحكم عبرها في نشر الثقافة والقيم الفرنكوفونية، ومهمتنا كمغاربة هي تقوية مناعتنا ولغاتنا وثقافتنا الوطنية للتصدي لهذا اللوبي وكنسه من بلدنا، لكن كتابة لغة من لغاتنا بالحرف اللاتيني لا تعدو كونها تزكية وتكريسا لهذا المد الفرنكوفوني الجاثم على صدورنا. كما أن ليس كل من يبادر للدفاع عن العربية وعن الإسلام في بلدنا، إسلامي تعريبي داعشي مشحون في المسجد والإعلام المحلي، كما يقول الأستاذ مبارك، فأناس كثيرون على مستوى عال من الثقافة، والكفاءة، والعلم، والمعرفة، والاعتدال، والانفتاح، والتسامح، والإيمان بقيم العصر، وبالتعايش بين الشعوب والأمم، ومنهم أساتذة جامعيون، ومحامون، وأطباء جراحون، وصيادلة، وصحافيون مرموقون، ومهندسون، وفنانون.. يتشبثون بعروبتهم ودينهم الإسلامي، ولا يقبلون عنهما بديلا، ويدافعون عنهما باستماتة، كما يدافع أشقاؤنا الأمازيغ عن الأمازيغية، ويقومون بذلك ليس لأنهم نعريبيون أو داعشيون، وإنما لأنهم لا يقبلون تغيير جلودهم، فالذي يسعى لتغيير جلده والتفريط في حقيقته التاريخية، تزلفا أو تشبُّها وتقليدا واسترضاء لغيره، لا يمكنه أن يكون موضع احترام وتقدير الآخرين، إنهم سيزدرونه. ولذلك لا يجوز أن ننعت كل الذين يدافعون عن العربية والإسلام في المغرب ويتمسكون بهما بالداعشيين والتعريبيين، وأن نحتقرهم ونصفهم بالعوام، بما يفيد أنهم من الغوغاء والدهماء، فالمبادئ الأبجدية للديمقراطية تقتضي منا احترام رأيهم، والبحث عن القواسم المشتركة التي تجمعنا وإياهم، لنعيش معا في نفس الفضاء الذي يجمعنا، الذي هو الوطن/ المغرب. وتقبل مودتي واحترامي أخي بلقاسم.