تشكل أوقات الأزمات العميقة، فرصا ذهبية للإصلاح والتجاوز، فرغم فداحة تلك اللحظات وصعوبتها، فإنها تحمل في رحمها، لأصحاب النظر البعيد؛ فرصة الانقضاض على الأعطاب المكبلة للمؤسسات والأفراد والإرادة الجماعية واقتناص اللحظة لإرساء أسس براديغمات جديدة. هذا لا يعني بالضرورة إرساء قطائع حدية على كل وجوه التدخل، ويمكنها (القطائع) أن تقتصر على المصادر العميقة للأعطاب الهيكلية، ويشمل الاصلاح باقي أوجه التدخل والمحافظة والتوافق بشأن العناصر التي تشكل أوجه الاستمرارية في التاريخ من هوية وتقاليد وتراث نافع. إن زمن الجائحة فرصة كبيرة للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لوضع البلاد على سكة التحديث والقضاء على العطب القديم، فإنه لتكاد لحظة 20 فبراير بالإنجازات المكتسبة وبالإصلاحات المتراكمة أن تطمسها التراجعات المسجلة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والحقوقية، وأن تغمرها أمواج الجائحة العاتية التي شلت العالم لشهور وتسببت بانكماش تاريخي للاقتصاديات المتقدمة والسائرة في طريق النمو على حد سواء. ومرد ذلك، مع استحضار آثار كورونا المدمرة والتي تندرج في إطار القوة القاهرة، أن الإصلاحات التي مُررت على مضض، وعلى أهميتها والآمال في نتائج إيجابية ستظهر في المدى المتوسط، لم تنفذ للبنيات العاطبة للمؤسسات وللنبوغ المغربي والتي تتشكل أساسا من: – السلطوية والفساد السياسي والاقتصادي وضعف ربط المسؤولية بالمحاسبة، تفريغ بعض مقتضيات الدستور من حمولتها المتقدمة بقوانين تنظيمية محافظة، وكذلك جملة من القوانين بالمراسيم والقرارات التنظيمية، ارتباط الثروات الكبيرة وشروط خلقها بالانتماء لمنظومة الحكم أو بالتقرب إليها على الأقل، ضعف فظيع في تنزيل الكثير من الأوراش السياسية الواعدة كالجهوية التي وسمت ب"المتقدمة"؛ – تعطيل قوة المجتمع الخلاقة بغياب البنيات المؤسسة لثورة ثقافية واجتماعية تمهد لبروز مجتمع حر ومبدع ومنفتح على العالم دون تفريط في قيمه وحضارته العريقة وتماسكه وتضامنه، مع ضعف هيكلي للمجتمع المدني وتبعيته وارتهانه للريع واشتغال جزء مهم منه بعيدا عن الاستقلالية المشروطة في عمل مدني يعيد التوازن في توزيع السلطة والثروة ويكون مدافعا عن المجتمع وفئاته الضعيفة أمام نزوعات التغول؛ – ضعف البرجوازية الوطنية ورهانها على السوق، فالدولة تبقى أكبر مستثمر بمردود تنموي ضعيف، مع تقلص الطبقة المتوسطة وقدراتها الطليعية، ومعها كنتيجة انحسار الآمال في الشورى والديمقراطية والحقوق والحريات، وتركيزها على لقمة العيش وضمان إعادة انتاج الانتماء كأهم شغل شاغل. لا يعقل أن تنفلت هذه الفرصة من بين أيدينا ونحن نقبل أن ننزل إلى حضيض نقاشات وأسئلة لا تمت للحظة ولا للمستقبل بصلة، فالرأي الذي يجب أن يضرب للدولة أن اللحظة تاريخية وعليها التقاطها والركوب على أمواجها لاستشراف مستقبل أفضل. إن زمن الجائحة رغم صعوبته، يشكل لحظة إجماع وطني على صعوبته، وكذلك على ضرورة إيجاد الحلول الجذرية للعقبات التي تعترض النهوض الجماعي، فالوباء وجد منظومتنا الصحية في أسوأ حال، ووجد التعليم رغم الاصلاح التقني والمالي الذي مرر في القانون الإطار الأخير دون المستوى المرغوب! ناهيك عن القطاع غير المهيكل الذي اتسع وغياب تغطية صحية واجتماعية لفئات واسعة من المجتمع… زمن الوباء لأصحاب النظر البعيد، فرصة ذهبية للإصلاح والتوافق على حزمة سياسية واقتصادية واجتماعية من الإصلاحات المهيكلة، توضع على طاولة الدولة من نخبة الأحزاب السياسية الوطنية والمثقفين والاقتصاديين ويلزم أن يتفاوض بشأنها. إن الملكية كانت تاريخيا إصلاحية وطنية، ولكن يلزمها نخب تدافع عن المصلحة الوطنية بشجاعة، وتدعو لتفكيك بنيات المخزن وتحالفاته المعطلة للبلاد، ولن يكون ذلك بعيدا عن ملكية دستورية بأحزاب سياسية وطنية قوية ومستقلة، واقتصاد حر وشفاف إلى الحدود الممكنة تلعب فيه الدولة دور الحكم وتتدخل لإعادة التوازن حين يلزم ذلك، ولكن تفصل فيه بين الثروة والحكم وبين النفوذ والاغتناء، مع مجتمع مبادر وحر ومنظمات مدنية مستقلة تلعب أدوارها، ونخبة مثقفة وعالمة متحررة من القيود والرقابة المباشرة وغير المباشرة، ليتحرر النبوغ المغربي وتنطلق البلاد في آفاق تنموية أرحب وأليق بتاريخها المجيد.