مرت أيام رمضان مسرعة، وتركت في نفوسنا شوقا لفراقه ولوعة في قلوبنا، آملين أن نحقق المقصد الأسمى منه من خلال قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"[1]، إلى جانب مجموعة من المقاصد الروحية والمادية. نودع رمضان ونحن بين مقام الفراق وفرحة العيد. فراق شهر تهيأت فيه فرص الطاعة، ووجدنا المعين والناصر على العبادة. شهر رمضان وجدت النفس جِدة وقوة في الإنابة، شهر تنوعت فيه أسباب الطاعة وتعددت إلى أبواب الرحمة والهداية، حيث شَنَّفنا أسماعنا بترتيل القرآن الكريم ودراسته آناء الليل وأطراف النهار، وعطرنا ألسنتنا بالذكر والاستغفار، وهذبنا أنفسنا بما يليق من الأخلاق الحميدة، وخشعت قلوبنا لله بالدعاء والمسكنة بين يديه بالأسحار، ونحن على استعداد للقاء الله الواحد مقلب الليل والنهار، كما نفرح بأن أعاننا الله على صيام نهاره وقيام ليله، ونطمع في تحصيل الثواب الذي أعده للصائمين. إن المؤمن العاقل من يكون له من تصرم أيام رمضان ولياليه وقفة تأمل، ينظر إلى قلبه ومقامه ونشاطه فيما قام به من أعمال، ينظر أولا إلى علاقته مع ربه، وينظر إلى علاقته مع ذاته، وعلاقته مع غيره من الناس والكون، وينظر إلى بره وإحسانه وأخلاقه، ويقول ما أسعد الفائزين برضى الرحمن وما أشقى المحرومين من توبة يظفروا بها للعيش إلى جوار المنان، والمؤمن يكون على وجل من ربه وطمعا إلى رحمة ربه في قبول صيامه. يأخذ المسلم من رحيل رمضان عبرة، فينظر يُمنة ويُسرة إلى ما قدم من أعمال في شهر كان ينتظره، وهاهو قد ارتحلت أيامه مسرعة لتذهب ببعض عمره وتُقَرِّبه من أجله. إن رمضان لمن اعتبر فرصة العمر، وقد لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة، ثم بعد ذلك يأتي يوم: "تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا"[2]. تُطوى أيام رمضان، وتطوى معها ساعات العمر، "والكيس من دان نفسه.."[3]، وحقق غايته من مدرسة رمضان، بعدما واصل الليل بالنهار، وهذب نفسه بقيم القرآن الكريم، وسكنت جوارحه وخشعت بالقيام، فراح يتقلب من ليله ونهاره بين مقام المراقبة ومقام المشاهدة لله تعالى ليَظفر برضى الرحمن. نودع رمضان، ولا نريد أن نودع ما ألفته النفس من لذيذ الأنس بالطاعة، والخضوع بين يدي الرحمن، والتذلل بين يديه والانكسار لعظمة الجبار. نودع رمضان وكلنا أمل في مواصلة الفرار إلى الله تعالى والسير إليه، لنحيا بنغمات القرآن وهديه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياتنا الروحية والمادية على حد سواء، نحيا بهما في الباطن والظاهر، نحيا بهما فردا ومجتمعا. نودع رمضان وقد أخذنا أمرنا إرادة وعزيمة لنعيش في كنف الرحمن في باقي الشهور، ونشعر بمعيته، فنزين معاملتنا بأخلاق القرآن وقيمه العليا. والناس في توديع رمضان نوعان: منهم من يحزن لفراقه ورحيله لمن فاته خيره، ولم يأنس بساعاته، يحزن من فاتته صلاة في وقتها، يحزن من لم يتلذذ بصلاة القيام وإطعام صاحب الحاجة، يحزن من لم تذرف عيناه يما يخبر به القرآن الكريم من أحداث القيامة والساعة، يحزن من لم يخشع قلبه بذكر ربه عند تمام يومه بالصوم في الطاعة، يحزن من لم يزين بيته بأجواء تلاوة القرآن والدعاء إلى الله بقَبول الأعمال في كل ساعة… هذا وغيره يقول لرمضان ترَفَّق، تمهَّل، لعله يُعَوِّض ما فاته من فضل عميم، لكنه لا يستطيع. ما أشد حزنه لموسم، فُتحت فيه أبواب الجنان، وغُلِّقت فيه أبواب النيران وصفدت فيه الشياطين، وهُيئت فرص الإقبال على الله تعالى بأنواع البر المختلفة والمتنوعة. هيهات هيهات لكل مسوف راحت منه فرصة العمر التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: …قال لي جبريل : رغم أنف عبد دخل عليه رمضان فلم يغفر له فقلت : آمين"[4]. رمضان موسم، تسمو فيه النفس وتتحرر من ضيق أثقال الشيطان والمادة، فتنقطع إلى ربها بالعبادة، فتعلو الروح على الطين لتحلق في أنوار النفحات الربانية رغبة في طهارة النفس من المعايب، فتنشط في مناجاة ربها وتستغرق في ذكره، وتسبح في ملكوته تتلذذ بِعَبق رمضان الزكية. يعيد رمضان للإنسان توزانه الروحي والمادي، فيعتني بروحه كما يعتني بجسده، فيمشي سويا مهتديا بروح القرآن الكريم وقيمه ونوره، ويعيش على إشراقاته وفيوضاته، ويصحح به شؤون حياته قولا وعملا. ويَعَض العاقل من تجلت له العناية الربانية والنفحات الإلهية على ما تعلَّمه من شهر الصيام من سمو الهمة والإرادة والفاعلية في الدين والدنيا، ويحرص عليها كحرص الصيرفي على دراهمه، والمفلس من نقض عهده بما تلذذت به نفسه من نعيم الأنس بتلاوة القرآن الكريم والقيام، ومن فضائل الحق والهدي بالليل والنهار والإحسان في اعمال البر، وعانقت الروح الملكوت والأنوار الربانية، وآثر الكلالة على الفاعلية، والغفلة على يقظة الضمير، وآثر الكسل والقعود على الاجتهاد والعمل، ينطفئ النور في قلبه وتنطفئ الهداية بعد القوة، ليحل محلها هوى النفس ومطامعها الشهوانية، يقول الله تعالى واصفا هذا النوع المودع للخيرات، والذي يرمي بنفسه في مهاوي الظلمات ليس بخارج منها، "وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا"[5]. نعيش حياتنا بين مودع ومستقبل للأيام والشهور، نودع يوما ونستقبل آخر المودع ليمضي بنا إلى الوقت المعلوم، نتزود من الدنيا للحياة الأبدية، نفكر في جَنْي عمل صالح يشفع لنا عند لقاء ربنا، يقول الله تعالى: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ"[6]. والنفس تودع رمضان وتستقبل شهرا آخر، وقد تهذبت بأخلاقه، وكلها إرادة على أن تواصل السير إلى الله تعالى، وبعزيمة قوية للحفاظ على حلاوة الإيمان التي اكتسبته في أيامه المعدودات. وأنها اكتشفت سر طمأنينة النفس وسعادتها، وأن في تغذية الروح؛ سر تكريم الإنسان على باقي الكائنات وسر تقويمه، من حيث أنه نفخة من الله تعالى، إن الصيام الحق والمطلوب في أيامه المعدودات قادرة أن تُصبغ الإنسان بلباس التقوى، فيواصل السير إلى الله والاستزادة في الخير بعد رمضان، لأنه وجد من نفسه القدرة في دفع مداخل الهوى، فيمضي في طريق الهدى، فتصبح أيامه كلها طاعة وعبادة، فيأنس بلذة الطاعة والأنس بالله تعالى، ويشعر بالحاجة المستمرة إلى ذكر الله تعالى. والعاقل من يجعل من وداع رمضان توبة تكون له بابا إلى محبة الله ورسوله مما سواهما، فيحب ما يحب الله ورسوله ويبعض ما يبعض الله ورسوله، ويختار ما يقضى الله ورسوله، وينصر الحق ويدعو إليه ولا يأخذه في ذلك لومة لائم. فأيام رمضان استقام فيها القلب واللسان وتوازن الباطن بالظاهر، وتوازن القول بالعمل، يقول النبي (ص):لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ" وقال (ص): إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون"[7]، وقال ابن القيم: "الإيمان هو الخُلق، فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الإيمان" لقد ولى رمضان، ونحن إرادة وعزيمة على التمسك بما شرع الله من الطاعات ما يُقربُنا إليه لنَبْلُغ الدرجات من الجنات، "ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه". والخاسر من انقلب بعد رمضان فذهبت جهودُه سُدى. وإن تعاليمَ دينِنا جاءت مُرَغِّبة في أعمال البر كلِّها، ولا ينبغي أن نغفل عن مراقبة اللهِ له في سرنا وعلانيتنا. ولنَتَذَكَّرَ أن سُبُلَ الخير ميسرة، وأن رحمة الله وسعت كل شيء، وأنه تعالى يقول فيما أخبر به النبي(ص):يا عبادي إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أوَفِّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلُومَنَّ إلا نفسه"[8].ومن خاف ربه في رمضان، بأنواع الطاعات باستطاعته أن يحافظ عليها إلى أن يلق ربَّه. وإن من العار أن نُودِّع تلك الأعمال الصالحة بانتهاء رمضان! ولا يمكن أن نترك العبادة رمضان بانتهائه، لأنه كلُّه عبر ودروس، ولأنه ولو لم نتعلم منه إلا قيمة الصبر لكفتنا، صبر على طاعة الله، وصبر على المعصية بعدم الوقوع فيها، وصبر على أذى الناس، والملائكة تقول لمن صبر:" سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ"[9]. والصبر قوة وليس هزيمة، بالصبر تُحَقَّقُ العبودية لله تعالى، وكلما ازداد علم الرجل بالله ازداد صبره، والعبد حين يصبر على الفتن والابتلاءات يأتيه الفرج من الله، وقد صبر أولوا العزم من الرسل، والصبر دليل على إيمان العبد، ودليل على محبة الله تعالى له. سأل رجل عنترة عن سر انتصاره على الأعداء، وعن شجاعته؟ قال: بالصبر والاحتمال. علمنا رمضان كيف نحصِّن أنفسنا من الدعة والخمول وأن ننهض بأنفسنا وببلدنا إلى المعالي والعطاء، ونحمي أنفسنا من الشيطان ونحمي بلدنا من الأعداء، وتعلمنا كيف نعيش جسدا واحدا، وأن نعيش لغيرنا وأن نسير في قضاء حاجاتهم ونحارب الأنانية وحب الذات، وتعلمنا أن صلاة الليل شرفُ المؤمن ولو ركعتين في جوف الليل أو قبل النوم، وتعلمنا من رمضان مرافقة الأخيار، فكسبْنا من أخلاقهم، وتعلمنا من رمضان أن ملاكَ الأمر كلِّه صلاحُ القلب. إن العبرة بمرور الأيام والشهور، فأعمارنا إلى نقصان، وآجالنا إلى زوال، فيبقى منها ما أودعناه فيها من خير وشر" فمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَه ومَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذرة شَرًّا يَرَهُ"، فمن زحزح عن النار وأُدْخِل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، فليحذر كل واحد منا من الرجوع على ما كان عليه من تقصير وتفريط في حق الله تعالى، ولا يهدِم ما بناه في شهر رمضان من الأعمال الصالحة، فإن علامة قَبُولِ الحسنة الإتيانُ بمثلها، وإن الرجوعَ إلى المعاصي يعتبرُ إثما عظيما، والله تعالى يجازي بالإحسان إحسانا، "ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون"" فمن ثقلت موازِينُه فأُولائكَ همُ المفلِحون، ومن حفَّت موازِينُهُ فأولئك الذينَ خسِروا أنفسَهُم في جهنَّم خالدونَ تلْفَحُ وجُوهَهم النار"[10] . علينا أن نرى فيما نقدم من أعمال وأن نخضعها للمحاسبة، هل نسير في الطريق الصحيح أو أننا إلى هوى النفس أقرب. ثم نعزمُ على متابعة السير ونعِدُّ العُدَّة لملازمة الحق، ونصححُ المسير ونُقَوِّمُ الأخطاء، وأن لا نضيع ما ألفناه في شهر الطاعة، ولا نكون" كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ"[11]، ويقول الله تعالى: " مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ"[12]. والحمد لله رب العالمين * خطيب مسجد يعقوب المنصور، وأستاذ الفكر والعقيدة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال [1] سورة البقرة الآية 183 [2] سورة آل عمران الآية 30 [3] سنن الترمذي، كتاب الرقائق، 4/638 رقم الحديث 2459 [4] أخرجه ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي هريرة [5] سورة النحل الآية 92 [6] سورة الحجر الآية 99 [7] سنن الترمذي رقم الحديث2018 حديث جاببن عبد الله الأنصاري [8] صحيح مسلم [9] سورة الرعد الآية 24 [10] سورة المؤمنون الآية 102-104 [11] سورة النحل الآية 92 [12] سورة فصلت الآية 46