– أ.د. إدريس أوهنا (كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس، فاس) الغاية من إثارة هذا الموضوع، والمناسبة شرط، أن نستبين أقوم الطرق وأحسن السبل في صيام رمضان الذي أطل علينا، ذلك الصيام الأمثل، الأزكى ثوابا والأعلى درجة عند الله تعالى، والبداية بالتذكير بفضل الصيام من خلال ما ورد في ذلك من بعض الأحاديث الصحيحة، فإن من عرف فضل الشيء حرص عليه، واعتنى به: -الحديث الأول قَوله عليه الصلاة والسلام: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) -إيمانا: اعتقادا بفرضية الصيام من الله تعالى، احتسابا: أي امتثالا خالصا لله تعالى- -والحديث الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)، أي: كل عمل يتقرب به ابن آدم إلى الله تعالى له أن يعرف ثوابه بما حده الشرع له؛ وهو الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإن الله تعالى يجازي عليه بكرم الربوبية بما لا يحصيه العد، ولذلك جاء في رواية أخرى: ( كل حسنة يعملها ابن آدم بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ) وقد خص الله تعالى الصيام بهذه المزية، لأسرار وأسباب مما نعلمه منها أنه أدعى للإخلاص بالمقارنة مع سائر العبادات الأخرى الظاهرة، ولأنه العبادة التي لم يعبد بها سواه؛ إذ لم يثبت تاريخيا أن الكفار تقربوا لمعبوداتهم الشركية بالصيام. -والحديث الثالث قوله عليه الصلاة والسلام: (في الجنة ثمانية أبواب فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون) السؤال: كيف يكون الصوم المبلغ لتلك الأفضال؟؟ أو: كيف نصوم رمضان صياما يجعلنا إن شاء الله تعالى نظفر بتلك الأفضال، ونجني تلك الثمار؟؟ يمكن حصر الإجابة عن هذا السؤال في أربعة شروط: -الجمع بين المراتب الثلاثة للصيام -وضع برنامج محدد لأعمال اليوم والليلة -مراقبة الله تعالى وتجديد نية الإخلاص باستمرار -الاستفادة من رصيد رمضان لما بعده -الجمع بين المراتب الثلاثة للصيام: إن الصيام في حقيقته ليس على درجة واحدة، بل هو درجات ومراتب، بعضها أعلى من بعض، وفي ذلك يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله، في كتابه النفيس "إحياء علوم الدين": " اِعلم أنَّ الصوم ثلاث درجات : صوم العموم ، وصوم الخصوص ، وصوم خصوص الخصوص. فأمَّا صوم العموم فهو كفُّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأمَّا صوم الخصوص فهو كفُّ السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفُه عمَّا سوى الله عزَّ وجلَّ بالكلية " فقد رتب رحمه الله هذه الدرجات من الأدنى إلى الأعلى، وأطلق على أدناها صيام العموم، وهو مجرد الإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وأطلق على الدرجة المتوسطة: صيام الخصوص، وهي صيام الجوارح عن الآثام، ومنها على وجه التفصيل: -صيام اللسان: بأن نمسك ألسنتنا عن الغيبة والنميمة والسباب وقول الزور وفحش الكلام وما إلى ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: "الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم." وإذا كان ذلك مطلوبا في أيام الصيام العادية عند احتكاكنا مع الناس في المجتمع، فإنه مطلوب أيضا ونحن في وضع الحجر الصحي مع أزواجنا وأبنائنا في منازلنا من باب أولى وأحرى، بأن نتحلى بالهدوء، ولا نقع في الصخب والغضب والخصومة والسباب وما إلى ذلك. -صيام السمع والبصر: بأن نكف أعيننا عن النظر إلى ما يخالف شرع الله وآداب الإسلام، ونكف آذاننا عن سماع ذلك، سواء في التلفزيون، أو في الحواسب والهواتف النقالة، وبذلك نحول بيننا وبين التطبيع مع التفاهة والسفالة، ونحصن إيماننا من أن تنال منه فتن الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ونستعمل هذه الوسائل والتقنيات الحديثة فيما هو نافع وإيجابي، لا فيما هو مخرب وضار. وما قلناه باختصار عن اللسان والعين والأذن، ينسحب على كل الجوارح، فإن صيامها بكفها عن الأذى، وعن كل ما يخالف شرع الله ومقاصدَ الدين وآدابَه. ثم تأتي الدرجة الثالثة في الصيام، وهي الأعلى منزلة والأرفع مقاما، لذلك أطلق عليها أبو حامد الغزالي رحمه الله: صيام خصوص الخصوص، وهي: صيام القلب عن بواطن الآثام من حسد وكبر وحقد وعجب ورياء وغيرها. فالصائم حقا وصدقا هو من يجتهد في تنقية قلبه من هذه الأدران، ويجاهد نفسه في التحرر والتطهر منها، مستعينا بالله تعالى، متضرعا له بالدعاء أن يزكي نفسه ويطهر قلبه ويصفي باطنه. وبتحقق الصيام بمراتبه الثلاثة نجمع في صيامنا بين المبنى والمعنى، بين الحكم والمقصد، بين الصورة والروح.. فالمبنى والحكم والصورة هو الإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والمعنى والمقصد والروح هو صيام القلب عن بواطن الآثام، وصيام الجوارح عن ظواهرها، واستعمالها في المقابل فيما يرضي الله ويقرب إليه من عبادات الباطن والظاهر القاصرة والمتعدية. إذا فهمنا هذا فهمنا لماذا توسطت فرضية الصيام النداء بوصف الإيمان: {يا أيها الذين آمنوا} وذكر فضيلة التقوى: {لعلكم تتقون}، في قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، فإن في ذلك الترتيب دلالة واضحة وإرشادا قويا إلى أن الصوم المطلوب شرعا ليس هو مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، وإنما هو الإمساك عن كل ما يتعارض مع حقيقة الإيمان، ولا يتفق مع فضيلة التقوى. وعليه، فصوم رمضانبهذا المعنى، وفضلا عن كونه عبادة، هو بمثابة دورة تدريبية تأهيلية للمسلم حتى يرتقي في مدارج التقوى، ويستقيم على شرع الله باطنا وظاهرا. -وضع برنامج محدد لأعمال اليوم والليلة: إن تحقيق النجاح في أي عمل كيفما كان نوعه يتوقف على شرط التخطيط المسبق له، وكذلك صيام الشهر الفضيل، كي يكون صياما أزكى ثوابا وأرفع مقاما، لا بد من وضع برنامج للقيام بأعمال محددة فيه تقربا إلى الله تعالى، ومن ذلك: -تلاوة القرآن وتدبره وسماعه وحفظ ما تيسر منه وتعاهد المحفوظ، وقيام الليل به، قال عليه الصلاة والسلام: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيُشفعان" فعلاقتنا بالقرآن ينبغي أن تتوطد أكثر في هذا الشهر المبارك، الذي فيه أنزل القرآن، وفيه تدارس جبريل عليه السلام القرآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. -التضرع والدعاء، ولعلنا أحوج ما نكون إلى هذه العبادة هذا العام، وقد نزل بنا بلاء كورونا، وحصد منا ومن البشرية جمعاء أرواحا كثيرة، فلنتوجه إلى الله في صلواتنا وخارجها في افتقار وتذلل وانكسار أن يرفع عن عباده هذا البلاء ويدفع عنهم هذا الوباء، ونتوجه إليه بغير ذلك من الدعاء. -الذكر والتسبيح، فإن ذكر الله تعالى بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وأذكار الصباح والمساء وغيرها من أحب الأعمال إلى الله، وهي حصن ووقاية للمسلم من الشرور والمصائب والآثام، وقد ورد في فضل الذكر ما يضيق المقام بذكره. -الصدقة: بأن نحدد قدرا من المال أو ما في حكمه، لا ننزل عليه، نتصدق به على المحتاجين والمعوزين، خصوصا في ظل الظرفية العصيبة التي تمر بها بلادنا، حيث انقطع مورد الرزق عن كثير من المستخدمين، وليس لهم من معين إلا الله تعالى، عن طريق تلك الإعانات التي تصلهم من المحسنين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته" رواه الألباني في صحيح الترغيب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان" صحيح البخاري. وفي ظل هذا البلاء التي نمر به، عجل الله بالفرج، يجدر بنا أن نتقشف شيئا ما، لا أن نكثر من المشتريات والمدخرات، ونبخل بالتضامن مع العاطل والمحروم. وتلك لعمري هي التربية الحسية على الشعور بجوع الجائعين، وحاجة المعوزين وآلامهم، التي هي واحدة من أهم المقاصد التي من أجلها شرع الصيام. -المحافظة على صلاة الضحى وعلى الرواتب، لما ورد فيها من فضل عظيم وأجر كريم. -مراقبة الله تعالى وتجديد نية الإخلاص باستمرار: ونحن نجتهد ونجاهد للقيام بالأعمال السالفة الذكر، وغيرها لمن وفقه الله تعالى، لا بد من تحري الإخلاص، وتجديد النية، واستشعار الرقابة الإلهية: {وهو معكم أينما كنتم}، فإن الإخلاص قوام العمل وروحه وأساسه: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}. -الاستفادة من رصيد رمضان لما بعده: إن الأحوال الإيمانية، والمقامات الربانية، التي نعيشها، فضلا من الله ونعمة، في هذا الشهر المبارك، ينبغي أن يكون لها أثر فيما بعده؛ بتهذيب أخلاق معينة، والتمرس على عبادات محددة، وتذوق حلاوتها، والانتظام عليها، واكتساب فضائل جديدة، والتحول عن عادات سيئة، وبذلك نرتقي في مدارج التقوى والقرب، سائلين الله تعالى دائما وأبدا الثبات وحسن الخاتمة: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك"، حتى إذا بلغت الحلقوم، كانت البشارة إن شاء الله تعالى: {قل فبفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} يونس/58.