مرسوم حكومي جديد يُحوّل "منطقة التصدير الحرة طنجة تيك" إلى "منطقة التسريع الصناعي" ويوسّع نطاقها الجغرافي    أخنوش يصل إلى روما لتمثيل جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    هيئة: وقفات بعدد من المدن المغربية تضامنا مع غزة وتنديدا بالإبادة الجماعية    طنجة تحتضن النسخة الحادية عشرة من الدوري الدولي "مولاي الحسن" بمشاركة أندية مغربية وإسبانية    نصف نهائي دوري أبطال إفريقيا (إياب) .. صن داونز يتعادل مع الأهلي ويتأهل للنهائي    المفتش العام للقوات المسلحة الملكية يقوم بزيارة عمل إلى إثيوبيا    وليد الركراكي: نهجنا التواصل وعرض مشاريعنا على اللاعبين مزدوجي الجنسية... نحترم قراراتهم    أخنوش يصل إلى روما لتمثيل جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    أسبوع المغرب في موريتانيا".. منصة لتعزيز الشراكة جنوب-جنوب وتوسيع آفاق التعاون الثنائي    بسبب التحكيم.. توتر جديد بين ريال مدريد ورابطة الليغا قبل نهائي كأس الملك    باحثون: "الإقلاع عن السجائر الإلكترونية ممكن بفضل حبوب التوقف عن التدخين"    نشرة إنذارية: زخات رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة الجمعة بعدد من مناطق المملكة    قطار التعاون ينطلق بسرعة فائقة بين الرباط وباريس: ماكرون يحتفي بثمرة الشراكة مع المغرب    الأخضر ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    العالم والخبير في علم المناعة منصف السلاوي يقدم بالرباط سيرته الذاتية "الأفق المفتوح.. مسار حياة"    بودريقة يمثل أمام قاضي التحقيق .. وهذه لائحة التهم    تقرير يكشف عن نقص في دعم متضرري زلزال الحوز: 16% لم يحصلوا على المساعدة    افتتاح مركز لتدريب القوات الخاصة بجماعة القصر الصغير بتعاون مغربي أمريكي    إسكوبار الصحراء.. الناصري يلتمس من المحكمة مواجهته بالفنانة لطيفة رأفت    متدخلون: الفن والإبداع آخر حصن أمام انهيار الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    عناصر بجبهة البوليساريو يسلمون أنفسهم طواعية للجيش المغربي    مذكرة السبت والأحد 26/27 أبريل    إحصاء الخدمة العسكرية ينطلق وأبناء الجالية مدعوون للتسجيل    المغرب – الصين: الريادة النسائية في عصر الذكاء الاصطناعي محور ندوة بالرباط    "البيجيدي" يعلن غياب وفد "حماس" عن مؤتمره    ضابط شرطة يطلق رصاصا تحذيريا لإيقاف مروج مخدرات حرض كلابا شرسة ضد عناصر الأمن بجرادة    مهرجان "كوميديا بلانكا" يعود في نسخته الثانية بالدار البيضاء    أرباح اتصالات المغرب تتراجع 5.9% خلال الربع الأول من 2025    "أمنستي" تدين تصاعد القمع بالجزائر    المغرب استورد أزيد من 820 ألف طن من النفايات والمواد القابلة لإعادة التدوير خلال 2024    أبرزها "كلاسيكو" بين الجيش والوداد.. العصبة تكشف عن برنامج الجولة 28    طنجة.. ندوة تنزيل تصاميم التهيئة تدعو لتقوية دور الجماعات وتقدم 15 توصية لتجاوز التعثرات    اتفاقية تدعم مقاولات الصناعة الغذائية    على حمار أعْرَج يزُفّون ثقافتنا في هودج !    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يناقش "الحق في المدينة" وتحولات العمران    ميسي يطلب التعاقد مع مودريتش.. وإنتر ميامي يتحرك    الإعلان عن صفقة ب 11.3 مليار لتأهيل مطار الناظور- العروي    رفضا للإبادة في غزة.. إسبانيا تلغي صفقة تسلح مع شركة إسرائيلية    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    جرادة.. ضابط شرطة يطلق النار لتتوقيف ممبحوث عنه واجه الأمن بالكلاب الشرسة    كاتبة الدولة الدريوش تؤكد من أبيدجان إلتزام المملكة المغربية الراسخ بدعم التعاون الإفريقي في مجال الصيد البحري    الملك يقيم مأدبة عشاء على شرف المدعوين والمشاركين في الدورة ال 17 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب    الزلزولي يعود للتهديف ويقود بيتيس نحو دوري الأبطال    الصين تنفي وجود مفاوضات تجارية مع واشنطن: لا مشاورات ولا اتفاق في الأفق    رواد سفينة الفضاء "شنتشو-20" يدخلون محطة الفضاء الصينية    المديرة العامة لصندوق النقد الدولي: المغرب نموذج للثقة الدولية والاستقرار الاقتصادي    "الإيسيسكو" تقدم الدبلوماسية الحضارية كمفهوم جديد في معرض الكتاب    أكاديمية المملكة المغربية تسلّم شارات أربعة أعضاء جدد دوليّين    الرباط …توقيع ديوان مدن الأحلام للشاعر بوشعيب خلدون بالمعرض الدولي النشر والكتاب    كردية أشجع من دول عربية 3من3    دراسة: النوم المبكر يعزز القدرات العقلية والإدراكية للمراهقين    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    الحل في الفاكهة الصفراء.. دراسة توصي بالموز لمواجهة ارتفاع الضغط    المغرب يعزز منظومته الصحية للحفاظ على معدلات تغطية تلقيحية عالية    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بصائر قرآنية جامعة في الكوارث والأوبئة
نشر في هوية بريس يوم 07 - 04 - 2020

كلما حصلت جائحة أو كارثة طبيعية، إلا وتجدد النقاش، في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، حول موقف الإسلام من الجوائح والكوارث، وحول نظرته إليها: أهي عقاب منالله للبشر على ذنوبهم ومعاصيهم؟ أم هي ابتلاء من الله يميز به بين المؤمن والكافر، وبين الصابر من الجازع؟ أم أن تلك الكوارث والجوائح، إنما هي عبارة عن ظواهر طبيعية بعيدة عن عالم البشر، لا علاقة لها بإيمان أوكفر، ولا بطاعة أومعصية، ولا باستقامة أوفجور؟.
ونظرا لكون هذا النقاش يتجدد مع كل كارثة أو جائحة، بدءا من كارثة تسونامي التي ضربت دول جنوب شرق آسيا، ومرورا بجوائح وكوارث أخرى عرفتها مناطق عدة من العالم، ووصولا إلى جائحة وباء كورونا التي تجتاح العالم هذه الأيام، فإننا أحوج ما نكون إلى الرجوع إلى مصدر الإسلام الأول القرآن الكريم، نستمد منه أصولا وكليات، وقواعد جامعات، تبرز موقف الإسلام من هذا الموضوع، وتحسم هذا النوع من الجدل الذي لا ينتهي إلى نتائج في الغالب، ولا يدور بين العلماء والعقلاء بالضرورة.
وقبل الشروع في عرض تلك الأصول والكليات، وتلك البصائر والهدايات، فإن من المقال المناسب لهذا المقام، بيان أن القرآن الكريم، هو كتاب الزمان كله، والمكان كله، والإنسانية كلها، والحقيقة كلها، يستحيل الرجوع إليه في أمر أو حدث، أو قضية أو نازلة، فلا نجد في آيهالهدى والرشاد، وتقرير الأصول والكليات، والبصائر والهدايات، ولعل ذلك هو المقصود بقوله سبحانه: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ الأنعام، آية 38.وبقوله سبحانه من سورة الإسراء: ﴿ إِنّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ سورة الإسراء، الآية: 9. وبقوله عز من قائل في سورة الجاثية: ﴿هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ سورة الجاثية، الآية: 20.
وبالرجوع إلى أصل أصول الإسلام، ومصدر مصادره: القرآن الكريم، فيما يتعلق بموضوع الأوبئة والكوارث، نجد من البصائر والهدايات، ومن الأصول والكليات، ما يستحق الاستقراء والبيان، في بحث أو كتاب، ولكن المقام يقتضي التعجيل ببعض البصائر والهدايات، ولو بصورة مجملة ومقتضبة، عسى أن تتاح فرصة أخرى، لمزيد من الاستقصاء والاستقراء، ومن البيان والتفصيل، ولذلك سنكتفي – ههنا – بسبع بصائر، على النحو الآتي:
البصيرة الأولى: لا يستطيع الخلق إلاالله:
ومعناها أنه لا خالق إلا الله سبحانه، وأن الخلق من صفات الربوبية، التي ينفرد بها اللهتعالى دون سواه، وصفة الخلق هي أولى صفات الباري سبحانه تنزلا في القرآن الكريم، في الآية الأولى من سورة العلق: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ سورة العلق، الآية 1. فالعوالم والمخلوقات، كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها، من الذرة إلى المجرة، كلها من خلق الخالق سبحانه، كما قال عز من قائل: ﴿0للَّهُ0لَّذِى خَلَقَ 0لسَّمَٰوَٰتِوَ0لْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍثُمَّ0سْتَوَىٰعَلَى0لْعَرْشِ ﴾سورة السجدة، الآية 4.
فالزلازل والبراكين، والرياح والأعاصير، والأمطار والفيضانات، والمخلوقات المجهرية الدقيقة، مثل البكتيريا والفيروسات المسببة للأمراض، وغيرها، إنما هي مخلوقات خلقها الله، لحكم ووظائف ومهام، يعلمها ربها وخالقها سبحانه وتعالى، قال سبحانه في سورة الفتح: ﴿ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ سورة الفتح: الآية 7.
وفي سورة الحاقة: ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾الحاقة: 6، 7.وفيسورة الأنعام، نقرأ قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾سورة الأنعام، الآية: 65.

البصيرة الثانية: لا يقع في الوجود شيء إلا بأمر الله:
وبالرجوع إلى آي الذكر الحكيم، نجد صفة أخرى من صفات ربوبية الله سبحانه، تقتضيهاصفة الخلق، وتتفرع عنها، هي صفة الأمر، كما قال سبحانه في سورة الأعراف: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ سورة الأعراف، الآية: 54.ومفاد صفة الأمر، أنه لا يقع في ملك الله شيء إلا بأمر الملك سبحانه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قال سبحانه في سورة يوسف تعقيبا على بيع السيارة يوسف، في سوق النخاسة بثمن بخس: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ سورة يوسف، الآية:21. ولئن كانت هذه قاعدة عامة في كل أمر يقع في الوجود، فإن المصائب والكوارث والمضار، لا تخرج هي الأخرى، ولا تشذ عن تلك القاعدة، يدل على ذلك ما ورد في سورة التغابن من قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ سورة التغابن، الآية: 11. وفي قصة الملكين هاروت وماروت، جاء في سورة البقرة : ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ سورة البقرة، الآية: 102.

البصيرة الثالثة: لا يقع في الوجود شيء إلا بعلمالله:
ومفادها أن لا شيء يحدث في هذا الكون الواسع الفسيح، صغيرا كان أو كبيرا، جليلا أو حقيرا، من الذرة إلى المجرة، إلا والعليم – سبحانه – عالم به علما شاملا كاملا، دقيقا مفصلا، مستوعبا محيطا، كما قال سبحانه في سورة الأنعام: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾سورة الأنعام، الآية: 59.
وعلم الله المطلق، يشمل الأنفس كما يشمل الآفاق، بدليل قوله سبحانه من سورة ﴿يَعْلَمُ مَا فِى0لسَّمَٰوَٰتِوَ0لْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَوَ0للَّهُعَلِيمٌبِذَاتِ0لصُّدُورِ﴾ سورة التغابن، الآية 4. وقوله من سورة غافر: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾سورة غافر، الآية 19.وقد عاب الله على أعراب بني أسد–فيسورة الحجرات– تكلفهم إظهار إسلامهم، وحرصهم على التعبير عنه، فرد عليهم بقوله: ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُبِكُلِّشَيْءٍعَلِيمٌ﴾ سورة الحجرات، الآية: 16.
وفي المصائب والجوائح – على وجه الخصوص – ورد قوله سبحانه، من سورة الحديد: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلَاتَأْسَوْاعَلَىمَافَاتَكُمْوَلَاتَفْرَحُوابِمَاآتَاكُمْوَاللَّهُلَايُحِبُّكُلَّمُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ سورة الحديد، الآيتان: 22 – 23. والمعنى: أنه لا تقع مصيبة أو جائحة – سواء في الأنفس أو في المحيط الطبيعي – إلا وهي معلومة مقدرة عند الله، سبق العلم بها في الأزل قبل الخلق، ثم جاء خلقها من قبله سبحانه، موافقا لذلك العلم الأزلي المطلق السابق وموافقا له.

البصيرة الرابعة: الابتلاء سنة الله في الاجتماع البشري:
البصيرة الرابعة: الابتلاء سنة الله في الاجتماع البشري:
ابتلاء البشر وامتحانهممن السنن الثابتة، التي اقتضتها حكمة الله في الاجتماع البشري. والابتلاء من المقاصد الأصلية العامة لخلق الإنسان، كما دل على ذلك قوله تعالى من سورة الملك:﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾سورة الملك، الآيتان1، 2 .وقد ذكر الله سبحانه – في سورة البقرة – بعض ما يقع به الابتلاء، فقال: ﴿ولَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾سورة البقرة، الآيات 155-157.كما بين سبحانه – في سورة الأنعام – القصد من الابتلاء، وهو رد البشر إلى جادة الصواب، فقال:﴿فَلَوْلَا إِذْجَاءَهُمبَأْسُنَاتَضَرَّعُواْوَلَٰكِنقَسَتْقُلُوبُهُمْوَزَيَّنَلَهُمُ0لشَّيْطَٰنُمَاكَانُواْيَعْمَلُونَ﴾ سورة الأنعام، الآية 43. والكوارث والجوائح، لا تخرج – هي الأخرى – عن سنة الله الثابتة في خلقه، التي لا تتبدل ولا تتحول.
البصيرة الخامسة: لا يقع في الوجود شيء إلا بحكمة الله:
ومعنى ذلك أن حكمة الله تعالى، اقتضت أن تكون أفعاله الله سبحانه، وهي كل ما يحدث في هذا الوجود، معلل بحكم وعلل ومقاصد، شأنها في ذلك شأن أحكامه سبحانه، ومن ذلك أن خلق السموات والأرض ليس لعبا وعبثا، قال عز من قائل ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾سورة الدخان: الآية 38.وليس باطلا بلا قصد وغاية، كما في قوله سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ سورة ص: الآية 27. وكما أن الكون كله، خلق لحكمة وغاية، فكذلك الإنسان – هذا الجنس المكرم المفضل – خلق لغايةوحكمة، قال سبحانه: ﴿أَفَحَسِبْتُمْأَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾سورة المؤمنون، الآية:115. وقد جاء ذكر الغاية من خلق الإنسان والتصريح بها، في عدة مواضع من القرآن، كما في قوله تعالى من سورة البقرة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ سورة البقرة، الآية 30. وكما في قوله سبحانه من سورة هود: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ سورة هود، الآية: 61. وقوله سبحانه من سورة الذاريات: سورة الذاريات:﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ سورة الذاريات، الآية:56.
البصيرة السادسة: لا قدرة للبشر على إدراك حكمة الله:
ومفادها أن البشر، بعلمهم المحدود، وإدراكهم النسبي، لا قدرة لهم على إدراك حكمة الله سبحانه في الخلق والأمر، التي هي فرع عن علمه المطلق، قال سبحانه ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ سورة الإسراء، الآية: 85.ونظرا لقلة علمه، وقصور فهمه، فإن نظرة الإنسان إلى الوقائع والظواهر، تتسم بالسطحية والعجلة، وتلتفت– في غالب – إلى القشور والظواهر، أكثر من التفاتها إلى الحقائق والجواهر، ولذلك نجد القرآن – في عدة مواضع ومساقات – يحذر أتباعه من عواقب هذه النزعة السطحية الظاهرية، وينبهه إلى عواقب البناء عليها والتصرف بمقتضاها:
ففي سورة الفجر، وفي سياق ذكر ابتلاء الإنسان بالغنى والفقر، وقصوره نظره عن إدراك مقاصد هذا الابتلاء، جاء قوله تعالى:﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن﴾سورة الفجر، الآيتان: 15 – 16.
وفي سياق تقرير فرضية الجهاد، جاء قوله سبحانه من سورة البقرة:﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تعْلَمُونَ ﴾سورة البقرة، الآية: 216. وفيه تنبيه للمسلمين، إلى مقاصد الجهاد ومصالحه الجليلة، وإن كانوا يرون فيه ضررا كبيرا وشرا مستطيرا.
وفي سياق بيان بعض أحكام الأسرة، وضوابط العلاقة الزوجية، جاء قولالله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ سورة النساء، الآية 19. والمعنى: أن الأزواج مطالبون بالمعاشرة بالمعروف، وإن لم يكن لهم ميل إلى زوجاتهم ومودة لهن، لأن هؤلاء الزوجات غير المحبوبات، قد يجعل الله فيهن من الفوائد والمصالح ما لا يظهر، كالولد الصالح، وثواب تحملهن والصبر عليهن، وما إلى ذلك.
البصيرة السابعة: الرضى عن الله وحسن الظن به من أعلى مقامات الإيمان:
من أخص صفات المؤمن، ومن أكمل مراتب الإيمان، أن يحقق المسلم معنى الرضى عن الله، وأن يوطن نفسه ويثبت قلبه على حسن الظن به، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾سورة التوبة، الآية 100. قال المفسرون: رضوا عنه معناه: يقبلون أقدار الله فيهم.
وخطورة هذا الموضوع، تكمن في أن الله سبحانه يعامل الإنسان، بحسب ظنه، فيجري عليه قدر الخير، إن كان ظنه بالله حسنا، ويجري عليه قدر الشر إن ظن بالله السوء، كما قال سبحانه في سورة الفتح: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ سورة الفتح، الآية 6. وكما في سورة فصلت:﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ﴾ سورة فصلت:23.وفي الحديث القدسي: )أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظن بي ما شاء(، وفي رواية أخرى: )أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله(أخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني.
على أن حسن الظن بالله عبادة قلبية، لا تتنافى مع اتخاذ الأسباب وإتقانها، والاعتماد بعد ذلكعلى مسبب الأسباب، لا على الأسباب، وذلك هو المفهوم الشرعي الصحيح للتوكل على الله.
وبعد، فهذه سبع بصائر قرآنية في هذا الموضوع، في هذه العجالة التي اقتضاها المقام، في انتظار أن تتاح فرصة أخرى لمزيد بيان وتفصيل، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.