هوية بريس – السبت 06 يونيو 2015 ساعات معدودة تلك التي تفصلنا عن الانتخابات التركية التي توصف على نطاق واسع بأنها الانتخابات الأكثر مصيرية في تاريخ تركيا ، ففي يوم الأحد 7 يونيو سوف يتجه ملايين الناخبين الأتراك إلى مئات اللجان الفرعية للإدلاء بأصواتهم التي ستحسم بشكل كبير مستقبل الدولة التركية وشكل نظامها السياسي . حيث لا تشبه الانتخابات التركية الحالية سابقاتها في أي وجه من الوجوه. فقد كانت النتائج سابقا تظهر مساء يوم الاقتراع أي مساء الأحد المقبل. وتأخير النتائج إلى صباح الأثنين لم يكن ليقدّم ويؤخّر كثيرا في موازين القوى بل كانت ستزيد حصة هذا الحزب أو ذاك ببعض النواب زيادة أو نقصانا. ولكن هذه المرّة ليس من شك أن نصف النقطة قد تكون حاسمة في تبديل وجهة الانتخابات في هذا الخيار أو ذاك وبعضها خيارات حاسمة وتغيّر المشهد السياسي برمّته. حزب العدالة والتنمية تحت قيادة أردوجان والذي يقبع في كرسي السلطة منذ مطلع الألفية الثالثة ضرب الرقم القياسي في المدة التي يسيطر عليها حزب تركي على الحياة السياسية منذ مؤسس تركيا العلمانية؛ أتاتورك، ولكنه يواجه هذه المرة اختبارا مصيريا، وأسئلة صعبة وخيارات أصعب، وبيئة سياسية داخلية وإقليمية ودولية شديدة الالتباس والتوتر والاضطراب. هذه المرة أردوجان اختار المضي قدما في خططه الرامية لتغيير شكل النظام السياسي في تركيا برمته، بالتحول من النظام البرلماني الرئاسي المختلط الذي تسير عليه كثير من الدول الأوروبية، إلى النظام الرئاسي الذي يكون فيه الرئيس ذو صلاحيات مطلقة في الشأن التنفيذي ، وهو ما اعتبره الكثيرون مقدمة للتخلص من إرث الدولة الديكتاتورية التي أسسها أتاتورك بكتابة دستور جديد. هذه المغامرة السياسية التي سيقدم عليها أردوجان والتي جعلها بمثابة الخيار الاستراتيجي الوحيد لحزبه وفكره السياسي، أمامها الكثير من الأسئلة الصعبة والخيارات الأصعب، والمآلات الأشد صعوبة. ففي 15 أبريل الماضي، قرأ رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو وثيقة تُسمّى "وثيقة تركياالجديدة" وهي ملخص برنامج الحزب للفترة الانتخابية القادمة، والتي يسعى للبقاء فيها على رأس السلطة، بيد أن هذه الوثيقة في حقيقتها إشارة لطبيعة الدستور الذي سيكتبه الحزب حال فوزه، ونوع من أنواع الإعلان المسبق عن نوايا الحزب لتركياالجديدة، والتي ستتمم، كما تطمح قيادات الحزب، التحوّل لجمهورية تتجاوز بالكامل النظام السياسي القديم. تتكون الوثيقة من مائة مادة يسعى الحزب لأن تكون هي القواعد المؤسسة للجمهورية الجديدة، والتي ستحتفل بذكرى مرور مائة عام على تأسيسها عام 2023، وسيكون دستورها الجديد الذي يريد الحزب كتابته بعد الحصول على تفويض شعبي عبر صناديق الانتخابات، أول دستور تتم كتابته بناءً على نتائج استحقاق انتخابي، على عكس دستوري 1982 و1961 اللذين كتبا في أعقاب انقلابي 1980 و1960، ودستور 1921 الذي وضعه مؤسسو الجمهورية استنادًا لشرعيتهم الجديدة المكتسبة من الانتصار في حرب الاستقلال. الانتخابات هذه المرة بها الكثير من المعادلات الصعبة التي تتجاوز مسألة مناصرة حزب أو معاداة تيار، والتي ستكون المحدد الحقيقي للناخب التركي سواء كان قوميا تركيا أو كرديا، علمانيا أو إسلاميا، مناصرا للعدالة والتنمية أو معاديا له، تتمثل في الإجابة على هذه الأسئلة الصعبة والتي منها على سبيل المثال: هل يقبل القوميون الأتراك، أن يكون للأكراد لأول مرة حزب يمثّلهم داخل البرلمان بنسبة تفوق 10%؟ هل يقبل الأكراد أن لا يكون لهم أي تمثيل داخل البرلمان إلا من خلال الأكراد المترشحين في قوائم الأحزاب غير الكردية إذا لم يحصلوا على النسبة اللازمة؟ هل يقبل المواطن التركي العادي غير المؤدلج أن يستمر حكم العدالة والتنمية للفترة الرابعة على التوالي؟ هل يقبل المواطن التركي العادي أيضا أن ينتهي حكم العدالة والتنمية وتعود تركيا لزمن الحكومات الائتلافية الهشة والتي سيطرت على الحياة السياسية التركية لأكثر من عشرين سنة (1980-2002)؟ هل ستقبل الدول والأطراف الإقليمية والدولية المناوئة لسياسيات أردوجان والمتوجسة من تحركاته الخارجية من استمراره في قيادة تركيا لفترة رابعة؟ هذه التساؤلات نشأت في الأساس مع دخول حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي يرأسه صلاح الدين ديميرطاش والتابع سياسيا لحزب العمال الكردستاني بقيادة عبدالله أوجلان المعتقل في تركيا، الانتخابات النيابية لأول مرة بصفته حزبا وليس كمرشّحين مستقلين. ولكي يدخل البرلمان يترتّب أن ينال عشرة في المئة المنصوص عليها في الدستور وإلا فإنه سيبقى خارج التمثيل البرلماني بالكامل. وتوزع الأعضاء الفائزين على الأحزاب الأخرى وفق نسب معينة. هذا الدخول الذي راهن عليه الأكراد وكذلك أردوجان وحزبه من منطلق النظر إلى النظام الانتخابي، وآليات التصويت، والأعداد اللازمة لإقرار تعديلات جوهرية أو إدخال تشريعات جديدة أو حتى كتابة دستور جديد برمته. ومن هنا كانت خيارات أردوجان الصعبة في هذه الانتخابات. فتغيير النظام السياسي يتطلب تعديلاً للدستور في البرلمان بأغلبية ثلثي الأصوات أي 367 من أصل 550 مقعداً هم مجموع أعضاء البرلمان. وإذا تعذر الحصول على ثلثي المقاعد فالحصول على الأقل على 330 مقعدا اللازمة لتأييد أي تعديل دستوري عبر استفتاء شعبي. وإلا فلن يستطيع حزب العدالة والتنمية تعديل الدستور بمفرده لا في البرلمان ولا في استفتاء شعبي. وسيعتبر ذلك هزيمة لأردوغان ومن ثم حزب العدالة والتنمية واستمرار الوضع على ما هو عليه الآن. وحسابية المغامرة الأردوجانية تعتمد على فشل الحزب الكردي في تحقيق النسبة اللازمة لدخول البرلمان. فآلية النظام النسبي تجعل عدد النواب الذين يفترض بحزب الشعوب الديمقراطي أن ينالهم ما بين 55-60 نائبا، أي نسبة ال10 في المئة، لكن في حال فشله فإن عدد النواب الفائزين سيتوزّع على الأحزاب الفائزة. وبما أن أغلبية المناطق التي يتقدّم فيها الحزب الكردي لا يوجد حضور سياسي قوي فيها سوى لحزب العدالة والتنمية، فإن الأخير سيستولي على أغلبية النواب الأكراد أي على الأقل 50-55 نائبا. وهذا العدد من النواب سيزيد حصة الحزب في البرلمان بما يفوق النسبة المئوية التي يكون قد نالها في الأساس. وفي حال نال حزب العدالة والتنمية ما لا يقل عن 44 في المئة فسنكون أمام احتمال أن يبلغ عدد نوابه ثلثي المقاعد أو على الأقل 330 نائبا، وبالتالي تبقى الوضع على ما هو عليه ، ولكن أخطر مآلات المغامرة الأردوجانية وهو أن يفوز الحزب الكردي بعشرة في المئة وألا تتعدى أصوات حزب العدالة والتنمية ال 42 في المئة تقريبا. وهنا سنكون أمام خسارة الأخير الأكثرية المطلقة أي النصف زائد واحد (276 نائباً) وبالتالي عدم قدرته على العودة منفردا إلى السلطة واضطراره إلى الائتلاف مع أحزاب أخرى قد يجد من يتعاون معه وقد لا يجد. وهنا إما الذهاب من جديد إلى انتخابات مبكرة. أو التحالف مع أحد الأحزاب. وفي الحالة الثانية فإن العدالة والتنمية سيفقد زمام المبادرة ولن تبق سياساته الداخلية ولا الخارجية على ما هي عليه وسنشهد عمليا طياً لمعظم سياسات الحقبة الماضية. مغامرة أردوجان الانتخابية تأتي في سياق سياسي متوتر للغاية ، فرؤية حزب العدالة تجاه ملفات الداخل والخارج وقضايا المنطقة لا تروق لكثير من الأطراف الإقليمية والدولية، فالموقف التركي من ثورات الربيع العربي، خاصة في سوريا ومصر ، وتأييد مطالب الشعب الفلسطيني ، وسعي تركيا لتشكيل حلف سنّي بالتعاون مع السعودية وقطر من أجل التصدي للنفوذ والهيمنة الإيرانية بالمنطقة ، والتأييد التركي لعاصفة الحزم في اليمن، ومد الجماعات المقاتلة للنظام السوري بالسلاح والتدريب، وأخيرا التنسيق التركي السعودي من أجل موقف مشترك تجاه أزمة أهل السنّة في العراق. لذلك لم يكن مستغربا أن نرى المحاولات المتتالية لتحجيم دور تركيا وتغيير رؤيتها الاستراتيجية، بداية من أحداث تقسيم وما تلاها من عودة لعنف اليسار في حادثة تشاغليان وإغتيال النائب العام التركي، والخسارة المفاجئة لمقعد مجلس الأمن وعلى الرغم من تأكيد أنقرة أنها حصلت على وعود من 140 دولة حول العالم من أجل التصويت لها، إلا أن عدد الأصوات التي حصلت لم يتجاوز الستين صوتاً، وتعرض عدة طائرات تركية لحوادث مريبة في وقت قريب، وانقطاع واسع للكهرباء في معظم الأقاليم التركية، الحلف الصهيوني المصري القبرصي اليواني المشترك لمحاصرة تركيا بحريا في شرق المتوسط، وأخيرا محاولة العبث بالعملية الانتخابية بتفجير المؤتمر الانتخابي لحزب الشعوب الكردي بديار بكر يوم الجمعة، مما أوقع قتلى وجرحي ، وألقى بظلال قاتمة من التوتر على العملية برمتها. سلسلة من الأحداث والتغيرات الدولية الإقليمية شهدتها المنطقة في الآونة الأخيرة أدت إلى تعميق ريبة تركيا من وجود مؤامرة دولية لتوريط تركيا والعمل على تحجيم نفوذها في المنطقة. لذلك فإن المغامرة الأردوجانية هذه المرة محفوفة بكثير من المخاطر ، لأنها أما أن تمّكن أردوجان وحزبه العدالة والتنمية من كتابة دستور جديد لتركيا يعيد تأسيس الدولة التركية بعيدا عن إرث الديكتاتورية والعلمانية المتوحشة، ومواجهة التهديدات الداخلية والخارجية المتزايدة، وترسيخ مكانة تركيا كقوة محورية ورئيسية في المنطقة، وأما أن تذهب بأردوجان وحزبه إلى ذاكرة التاريخ، وتعود تركيا لفوضى الائتلافات السياسية الهشة، وما يصاحبها من ضعف سياسي وتدهور اقتصادي وتبعية خارجية وعودة إلى الحلف الصهيوني ونسيان لقضايا الأمة في فلسطينوسورياوالعراق. وإن كنت أعتقد أن أردوجان سيفعلها هذه المرة وينجح في مغامرته السياسية. (المصدر: مفكرة الإسلام).