هوية بريس – الثلاثاء 26 غشت 2014 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. في كل مرة تتصدر فيها تركيا وتجربة حزب "العدالة والتنمية" فيها، المشهد السياسي العالمي، يندلع النقاش حول هذه التجربة داخل الصف الإسلامي، ما بين مادح وقادح، وما بين مسرور متفائل ومتوجس متشائم، وما بين متحدث بما تمليه العواطف وناطق بما يفرضه النظر العلمي الرصين. ولا شك أن هذه التجربة التركية الحديثة، قد فرضت تغييرات ومراجعات في صفوف التيار الإسلامي، كثير منها حماسي فطير، وبعضها منضبط بأصول الفكر وقواعد المنهج العلمي السليم. ويمكن تصنيف تعامل الإسلاميين مع هذه التجربة إلى ثلاثة أصناف كبيرة: قوم يريدون استمداد التجربة بحذافيرها، واستيرادها بحلوها ومرها. ولا يستنكفون في سبيل ذلك من مراجعة بعض الثوابت التي شابت رؤوسهم في تقريرها والدفاع عنها! وآخرون يسعون إلى إبطال التجربة مطلقا، وإلغاء أثرها في تشكيل الوعي السياسي للأمة، ولنخَبها الإسلامية. فوجود "العدالة والتنمية" في تركيا كعدمه، وعجلة التاريخ لم تدر خلال العقد الأخير! وبعض هؤلاء لا يفرق بين حكام تركيا وحكام غيرها من بلاد العالم الإسلامي في صغير ولا كبير! وطائفة ثالثة تراقب التجربة، وتترصد ما فيها من حسنات فتسعى لتحصيل مثيلها، وما فيها من سيئات واختلالات شرعية وواقعية فتسعى لتجنب الوقوع في نظيرها. ولا شك أن النظر السليم يقتضي الاصطفاف مع الطائفة الثالثة. ولكن الأمر يحتاج إلى بعض التفصيل. وذلك في المحاور الآتية: 1- المحور الأول: توصيف التجربة والقائمين عليها والمقصود على جهة الخصوص: هل ما يصدر عن قيادات حزب "العدالة والتنمية" من الأقوال والأفعال: علمانية أم لا؟ والجواب الواضح الذي لا تردد فيه: نعم، أقوالهم وممارساتهم تعبير صريح عن العلمانية المناقضة للإسلام، ولا يمكن أن يشك في ذلك إلا جاهل بحقيقة العلمانية، أو بلبّ الفرق بينها وبين الإسلام. أقول هذا مع علمي بالاختلافات النظرية الكبيرة في تعريف العلمانية، ولكن مهما قلّبت النظر في هذه التعريفات، وعلى أي تعريف وقع اختيارك، فإن ممارسات "العدالة والتنمية" التركي داخلة فيه يقينا، وإلا فليس في الدنيا نظام علماني أصلا! فالممارسة السياسية الأردوجانية ممارسة منفصلة بوضوح تام، بلسان الحال ولسان المقال معًا، عن القيمة الدينية، بعيدة البعد كله عن اعتبار البعد الديني في تأطير الشأن العام، سواء في القواعد الكبرى للسياسة الداخلية أو الخارجية، أو في تفاصيل التسيير السياسي والاقتصادي اليومي. وكنتُ قد كتبت منذ نحو عام تقريبا، ملخصا موقفي من هذه القضية: (الحزب الإسلامي في تركيا حزب علماني بمسحة إسلامية خفيفة. هذا ما يظهر من استقراء سياسات الحزب ومواقفه، بل هو الذي صرح به رجب طيب أردوجان حين زار مصر بعد الربيع العربي، وقال كلاما من ضمنه: (لا تقلقوا من الدولة العلمانية وأتمنى وجود دولة علمانية في مصر)، وأثنى على العلمانية ثناء عطرا، وجعلها حلا لكثير من المشكلات السياسية). وهنا شبهة كثيرة الدوران على ألسنة الدعاة قبل عوام المسلمين: كيف يكون الحزب علمانيا وهو يشجع العربية، وارتداء الحجاب، وتعليم القرآن؟ والجواب واضح: وهل هذا مناقض للعلمانية؟ العلمانية لا ترفض الممارسات الدينية مادامت في الدائرة الفردية. وما كان موجودا في تركيا الكمالية، وما هو موجود اليوم في بعض دول أوروبا وعلى رأسها فرنسا، من تضييق على بعض هذه الشعائر الإسلامية الشخصية، لا يعدو أن يكون غلوّا في محاربة الدين، متجاوزا لأصول العلمانية، بدليل التأصيل الفلسفي عند منظّري العلمانية الأقحاح، وبدليل مخالفة دول علمانية أخرى في التطبيق العملي (كحال الدول الأنجلوسكسونية مثلا). 2- المحور الثاني: الحكم الشرعي على الفعل والفاعل وهذا محور مخالفٌ للمحور الأول، وإن وقع لكثير من الناس الخلط الخطير بينهما، إما في جهة الإفراط أو التفريط. ففي الجهة الأولى: تغليب الوصف بالمكفّر أو المفسّق أو المبدّع على جانب الإعذار (تغليب الاسم على الحكم). وفي الجهة الثانية: تثبيت الحكم بالإسلام أو الصلاح ابتداءً، ومنع إلحاق الوصف بالفعل لأجل ذاك الحكم الثابت (تغليب الحكم على الاسم). فأصحاب التوجه الأول، يقولون مثلا: أفعال أردوجان علمانية صريحة، والعلمانية مناقضة للإسلام، فالرجل كافر خارج من ملة الإسلام، لا فرق بينه وبين عتاة الطواغيت المحاربين للدين. وأما أصحاب التوجه الثاني، فيقولون: الرجل مسلم صالح محب للدين، إسلامي التوجه، فيستحيل أن نقبل منكم وصفه بالعلمانية، فليس الرجل علمانيا، ولا حزبه كذلك. وكلتا الطائفتين أخطأت طريق الصواب. فوصف الفعل بالعلمانية (وهو من نواقض عقد الإيمان) إن ثبت -وهو ثابت دون ريب- لا يقتضي أن الفاعل خارج من الدين، فقد يكون معذورا بالجهل أو بالتأول أو بهما معًا. وبعبارة أخرى: فقد يكون أردوجان جاهلا بحقيقة الإسلام، أو بحقيقة العلمانية، أو بوجه مناقضة الثانية للأول. وقد يكون عالما بذلك، لكنه متأول في ركوب العلمانية مع علمه بمفاسدها، لأنه -مثل كثير من الإسلاميين العصريين- براجماتي يرى أن ذلك هو السبيل الوحيد للوصول للحكم. ومع وجود الاحتمال -الذي تدل عليه قرائن قوية لا يسَعُ الفقيهَ تجاهلُها- يبقى الأصل استصحاب الإسلام، إلى أن يثبت العكس بيقين. والمجتهد حين يحكم على الواقع التركي لا يمكنه إغفال أثر التاريخ القريب، ولا إهمال التجاذبات الاستراتيجية الراهنة، ويجد نفسه مضطرا إلى توسيع دائرة التأويل بمقدار تغلغل المخالفة للشرع في مفاصل الدولة والمجتمع. ولا ريب أن ما يقوم به هذا الحزب في تركيا معقل العلمانية الحديثة بالعالم الإسلامي، يعدّ فتحا عظيما بالقياس إلى حال البيئة المحيطة. أما قول بعض الناس بأن أردوجان علماني متستر بالإسلام، رجاء الوصول إلى بعض المكاسب الدنيوية، فقول ممجوج، ترده دلالات الواقع المتكاثرة. 3- المحور الثالث: هل هذه الطريق التي يسير عليها حزب "العدالة والتنمية" موصل للمطلوب، أي لإقامة صرح الدين؟ وهذا أيضا محور مخالف لسابقَيه، وإن وقع اللبس بينها لدى كثير من المتكلمين. فكوننا نعذر الواقع في الخلل العقدي أو الغلط المنهجي، لا يعني أننا نصوّب فعله، ولا أننا نجعله لنا قدوة، نتبعها في أقوالنا وأفعالنا! أو قل: كون الفاعل متأولا تأويلا يرفع عنه حكم التكفير، لا يعني أن الفعل صحيح شرعا! والذي نراه أن هذا الطريق يمكن أن يصل به الإسلاميون للحكم، من حيث هم أشخاص أو هيئات، لا من حيث هم برامج دينية موافقة للشرع ومخالفة للنظام العلماني المهيمن. ودرء مفسدة تحريف الدين وتبديل معالمه -وهي مفسدة يقينية محسوسة تدل عليها التجارب المتتابعة- أولى من جلب مصلحة موهومة متخيلة، هي ما يتوهمه بعض الناس في طريق المشاركة البرلمانية الأردوجانية من أمل في تطبيق شرع الله. وتفصيل هذه الجملة المختصرة، وبسط مقدماتها وأدلتها، يحتاج إلى موضع آخر. 4- المحور الرابع: هل يشرع الفرح لفوز أردوجان في الانتخابات؟ نعم، دون ريب! وإذا كان الفرح لنصر الكافر جائزا، إن كان أقربَ للمسلمين ممن انتصر عليه (كفرح المسلمين زمن النبوة بانتصار الروم الكتابيين على الفرس الوثنيين)، أو كان في ذلك تحقيق مصلحة للإسلام والمسلمين، فكيف بفوز المسلم في معركة انتخابية أمام عتاة المحاربين للشريعة، المناهضين للدين؟! لكن لا ينبغي أن يصل الفرح إلى درجة تخيل قيام شرع الله في الأرض، أو إحياء دولة الخلفاء العثمانيين (كما يظنه بعض الناس)، فإن الأمر لا يعدو أن يكون حالا خيرا من حال، ومقاما أفضل من مقام.. لا غير! والله الموفق.