هوية بريس – الإثنين 11 ماي 2015 – يا طلاب العلم والأدب، دونكم نصيحةَ شاب ثلاثيني عاش أجمل أيامه في أحضان الكتب، نصيحة لا يريد من ورائها جزاء ولا شكورًا: ادفعوا عنكم الكسل والخمول وأنتم تقرؤون وتطالعون الكتب والرسائل والمجلات، واتخذوا كراسة لكل فن من الفنون؛ لتسجيل الفوائد والفرائد التي تعرض لكم، فمع مرور الأيام وتعاقب الليالي ستجدون ثمرات هذه الفوائد، وقد ترتبونها وتهذبونها وتطبعونها بين دفتي كتاب، ويستفيد منها غيركم؛ كما فعل كثير من أهل العلم والأدب قديمًا وحديثًا! – ارجع فتعلَّم الأدب؛ فإنك لم تتعلَّمْ، واقرأ ما كتبه العلاَّمة بكر أبو زيد في رسالتيه النفيستين: (حلية طالب العلم)، و(التَّعالُم وأثرُه على الفكر والكتاب)، ثم إذا انتهيتَ مِن استيعاب ما جاد به مِن دُررٍ وفوائد، يَجْمُل بك أن تطالع رسالة: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)؛ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة، وبعدها انطلق إلى المجلد الأول من كتاب: (مفتاح دار السعادة)؛ لتلميذه البار ابن القيِّم الجوزية، عبِّ منه، وانهلْ حتى ترتوي وتدفع عنك ظمأ الجهل الذي استبدَّ بك أيام الهواجر في صحراء (الفيس بوك)؛ حيث لا ماء ولا شجر! – قال لي أحد أصدقائي: من أين لك بكل هذه السوانح، والخواطر، والأفكار التي تكتبها بشكل يومي؟! فقلت له بعدما أزحت عن صدري رواية (عشت لأروي): بأربعة أشياء! فقال لي: ممكن أعرف ما هي لعلّي أقتدي بك؟ فقلت له هي كما يلي: توفيق من الله، وصدق مع النفس، وإدمان النظر في الكتب والمصنفات المختلفة، وكثرة التأمل في الحياة والتقاط كل صغيرة وكبيرة فيها بعين فاحصة متدبرة! – قال أحد السلف: ما اتَّقى الله مَن أحبَّ الشهرة! تأمَّلتُ هذه الكلمة فوجدتها تحتاج إلى تفصيل، فإن كان يقصد بالشهرة حبَّ الظهور، وعشق الثناء والمدح، والعمل مِن أجل الناس رياءً وسمعة – فلا شك في أن صاحب هذه النية ليس متقيًا الله؛ لأنها تتنافى مع إخلاص العمل الذي يراد به وجه الله والدار الآخرة، وبذلك تكون المقولةُ صحيحة منطقية لا شك فيها. أما مِن ناحيةٍ أخرى: فالشُّهرةُ مَطلوبة إن كانتْ مِن تقيٍّ غرَضُه منها أن يصل علمُه المبني على كتاب الله وسنة نبيه إلى أكثر عددٍ ممكنٍ مِن خلقه، مُهتَبِلاً شهرتَه التي طبقت الآفاق، وانتشار ذكره الذي سار مسير الشمس والقمر، كحال كثير من العلماء قديمًا وحديثًا، فقد نفع الله بهم العباد والبلاد بسبب شهرتهم وحسن سيرتهم بين الناس، والله أعلم! – أيها الكاتب، إن لقلمك عليك حقًّا؛ فأكثرْ مِن القراءة في سبيله، والاطِّلاع على أساليب العرب الأقحاح ما وسعك الاطلاع، وعلى آداب العرب، وثقفْ نفسك ببعض العلوم الدينية والدنيوية، وخُذ شيئًا من الفلسفة، هذا إذا شئتَ الخلود لمداد قلمك النائم في أحضان البطالة والخمول! – حين تدركك حرفة الأدب سيكون لك موعد مع الفقر والعوز! فلا تكن أديبًا في زمن قلة الأدب! وصدق ابن بسام: (حامل الأدب أضيع من قمر الشتاء، وقيمة كل أحد ماله، وأسوة كل بلد جهاله، حسب المرء أن يسلم وفره وإن ثلم قدره، وأن تكثر فضته وذهبه، وإن قل دينه وحسبه)! – لسان العرب لابن منظور الإفريقي جنة من الجنان، وروضة من الرياض، وحديقة من الحدائق الغنَّاء، من يدخل إليها، ويتشرف بزيارتها، لا أظنه سيخرج منها إلا كلفًا محبًّا عاشقًا لأشجار الضاد الوارفة الظلال، التي تغرد فوق أغصانها عصافير العرب الأقحاح الأصلاء! – حين تأتيني الفكرة لا أتجمَّل لها، ولا أرتدي لها أجمل ما أملك مِن حروف، فإنني لا أكره شيئًا في هذا المجال ككراهيتي للمساحيق الدسمة التي تثقل كاهل الأفكار، وتجعل ملامحها كعجوز شمطاء متصابية، فاتَها قطارُ الحياة، فتحاول عبثًا التجمُّلَ لكل عابر سبيل! – على طالبِ العلم والأدب أن يُجدِّدَ نيتَه في كل عملٍ يقومُ به، لا سيما في التأليف والكتابة؛ فإن إبليسَ كثيرًا ما يَدخلُ من هذا الباب فيشغلُ الكاتبَ برضا الخلْقِ ليُنسيه رضا الخالق، ولعلَّ هذا من الأسباب التي تجعل بعض الكتب تموتُ بموت أصحابها؛ لأنهم حينَ تأليفها لم يُريدوا بها وجهَ الله والدارَ الآخرة! – واأسفي على قوم يدَّعون الكتابة، وليس لهم نصيبٌ من القرآن، يستمدون منه قوة ألفاظهم، وسمو معانيهم! – سألني شاب قبل أيام: ما نصيحتك لكاتب مبتدئ؟ فكان جوابي: التزم بحفظ صفحة في اليوم مِن كتاب الله! – سورة القصص يجب أن يحفظها كلُّ عاشق للكتابة لتحسين مستواه، أو على الأقل الإكثار من الاستماع إليها. – سورة (يوسف) حفظتُها قديمًا، وكنت أردِّدُها كل حين، وهي من الأسباب التي حبَّبَتْ إليَّ الأدب الراقي، والسرد الرِّوائي! – في الجاهلية كانت المعركةُ تدوم بين القبائل والعشائر لسنوات طويلة؛ من أجل أمور تافهة، لا ينامون أبدًا على ضيمٍ أصابهم، أما نحن في زمن الإسلام (كما نزعم) فحقوقنا تنتهك، وأراضينا تُسلَبُ، وأوطاننا تُستعمر، وخيرات بلادنا يستبد بها الطغاة والمجرمون، ومع هذا الخزي والعار لا نحرك ساكنًا، ولا نسكن متحركًا، لسان حالنا ومقالنا: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة:24]! – سنسافر يومًا إلى هناك، دون أن نعود مرة أخرى إلى هذه الأرض التي شهدتْ كل أفعالنا وتصرفاتنا الصالحة والطالحة؛ سيفتقدنا الأهل والأحباب والأصدقاء، وسيطلقون العنان للعبرات تنسكب مدرارًا وحسراتهم ملء حناياهم كعواصف هَوْجاء، كما سينفقون أيامًا من أعمارهم للحزن والوجد والاستسلام لذكريات تجعل الكآبة تخيم على ديارهم؛ ستنطلق ألسنتهم بالرحمة والمغفرة والعفو، مستغيثين بربهم أن يحسنَ مثوى حبيبهم، وألا يخزيهم فيه يوم يُبعث ويُبعثون، يُلحون عليه سبحانه ما وَسِعَهم الإلحاح أن يعامله بحلمه ورحمته التي وَسِعَتْ كل شيء! – حين يأتي المساء أعود إلى بيتي متأبِّطًا جريدة وخبزًا؛ لألقي بنفسي في هذه الفوضى، وهذا الركام من الكتب الصفراء والبيضاء التي تحيا فيها عقول أسلافنا الأماجد، وعلومهم، وذكرهم الطيب، وسيرهم الحسنة، وكذلك كتب المحدثين من عمالقة النثر والفكر والرواية والقريض. – سأرتب أوراقي، وأهذِّب أخلاقي، وأملأ معطفي بعطر باريسي الهوى، وأنظف أسناني، وأرتدي أجمل ما أملك من حروف وكلمات، ثم أذهب إلى هناك لأتشبع بما لم أعطَ … ولن أكون ربيعًا منذ اليوم، بل سأكون متعدد الأقنعة والوجوه والفصول؛ لعل القوم يرضون عني وعن النفاق الاجتماعي الذي أنا في ضيافته ابتداء من الغد! – زرتُ رجلاً من العائلة قبل أشهر، اغتنى بعد فقر فلم يعرني أدنى اهتمام، فانصرفت عنه غير مأسوف عليه، ثم في طريق عودتي إلى بلدي عرجت على صديق فقير مُعْوِز، فلما رآني كاد يخرج من إهابه فرحًا، وعانقني بشدة حتى كاد جسمي النحيل يتلاشى بين ذراعيه، ثم أقسم أن أنفق الليل في صحبته، ففعلت، فكانت ليلة من أروع الليالي! – إذا كنت منصرفًا عن اللهو والعبث؛ قالبًا للموبقات ظهر المجن، فلا تعتقد أن ذلك بإرادتك وقدرتك، مستخفًّا بغيرك من العصاة، لكنها رحمة من الله أدركتك لأسباب لا نعلمها، منَّ عليك بها؛ فاحمده، واسجد، واقترب، واخفض جناحك لإخوانك من المذنبين! وادعُ لهم بالهداية عند شروق الشمس وعند الغروب! – ما أقسى الأيامَ حين تتشابه على إنسان لا يمارس شيئًا في الحياة سوى القيل والقال، وكثرة السؤال، وتمديد الأرجل في المقاهي والطرقات؛ لتوزيع النظرات على مفاتن النساء المتبرجات، كأنّهُ الضّلالُ بن السّبَهْلل! – حينَ تُقبل على عمل برغبةٍ ونشاط، تجد نفسَك في الأخير متقنًا له، راضيًا عنه، سعيدًا بما صنعتْ يداك، أما إذا كنتَ مدفوعًا إلى ذلك دفعًا، أو لا تفعله إلا من أجل غرض معين، أو هدف لاح في أفق حياتك فجأة، فإنه يأتي مبتورًا ضعيفًا لا قيمة له ولا وزن، وخيرُ مثال على ذلك تأليفُ الكتب، فإنك كثيرًا ما تجد كتبَ العلماء غاية في الإتقان، وروعة في التصنيف والتبويب، بخلاف غيرهم الذين لا يؤلفون إلا من أجل شهادات تطعمهم خبزًا، وترفَعُ لهم ذكرًا بين الناس. – أغلبُ كُتاب القصة القصيرة في عصرنا الحالي تخرجوا من معاهد الفيس بوك، ومدارس تويتر، وأخذوا حظهم من العلم عن طريق الشيخ ( google)، ونصيبهم من المعرفة من (اليوتيوب)، وكانت الثمارُ غثاءً كغثاء السيل، تُطبع القصص القصيرة في عشر ورقات، ثم يَزعم أهلها أنهم مبدعون.. وقد رأيتُ قبل أيام امرأةً من أرض الحجاز في برنامج تلفزيوني تزعم أنها كاتبة قصص تَرتعد وهي تتحدث إلى المذيع وتَضيع منها الكلمات، لا تكاد تبين، وقد عرفتها في الفيس بوك قبل هذا البرنامج لها دعوى عريضة وغرور كبير، لكن هذا الضرب من العباد – كما يقول بكر أبو زيد – ما يلبثُ أن يَلحقه الإدبار، فتحيط به خطيئته، فتنقله إلى (السقوط المبكر): مَن تحلَّى بغير ما هو فيه***فَضَحَتْهُ شواهدُ الإمتحانِ – ذكروا عن عمرو بن عبيد أن رجلاً قال له: لقد وقعَ فيك فلان حتى رحمناك، فقال: «إياه فارحموا»، وقد صدق؛ فالرحمة والشفقة لا تجوز إلا في حق هذا الصنف من المخلوقات التي لا همَّ لها إلا الوقوف في طريق من ينشد النجاحَ، ويَصبو إلى الارتقاء، ويَحضرني في هذا الصدد الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حين قيل له: فلان هاجمَكَ فلم ترد عليه! فقال: كانَ ردي عليه بأن أصدرتُ كتابًا جديدًا. – في كتاب «وحي القلم»؛ للرافعي مقالة بعنوان (حديث قِطَّيْن) قمة في اللغة، وشموخ في الأسلوب، وأما المضمون فظنوا خيرًا ولا تسألوا عن الخبَرِ.. سأقرؤها مثنى وثلاث ورباع، وأرتلها ما وسعني الترتيل، حتى يَستقرَّ في أعماقي هذا البيانُ المشرقُ، وهذه البلاغةُ الواضحةُ التي فتَنَتْ ذائقتي وقلبي حتى كدتُ أتمايلُ طربًا في مجلس لا ينبغي فيه التمايل والطرب! – أصبحَ كثير من الناس في هذا العصر حينَ يُنتَقدون يرمون منتقديهم بالحسد والحقد والضغينة، وهذا في الحقيقة سلاحُ الضعفاء الذين يريدون أن يقولوا للمُعجبين بهم لكي لا يفقدوا تلك الهالة التي تحوطهم: انظروا.. إنهم فاشلون، وغيرُ قادرين على الإبداع، ويؤذي نفوسَهم أن يُبدعَ الآخَرون.. ثم يأتي دورُ الأغبياء المُعجَبين من الهمج الرعاع فيُطيِّبون خواطرهم بمهدئات ومسكنات: لا تلتفتوا إلى هؤلاء، فما يضرُّ السحابَ نباح الكلاب، أو: القافلة تسيرُ والكلابُ تنبح، أو: يا ناطح الجبل العالي ليَكلمه، أو: كناطح صخرة يومًا ليُوهنها.. وهلم شرًّا.. فتضيع الحقيقة بسبب الغوغاء.