ثلاث نظريات شكلت خلفية القراءة المعاصرة للقرآن عند الدكتور شحرور، نظرية التطور عند داروين، ونظرية الجدلية المادية عند ماركس، ونظرية الميكانيكا عند جاليليو وكوبرنيك وغيرهما، وهي النظريات التي أنتجت العقلية المادية النقدية لدى فلاسفة الأنوار في صراعهم ضد اللاهوت الكنسي في أوروبا حيث انتصر العقل الغربي على خرافات الكنيسة واضطهادها للعلماء بتواطئ مع ملوك الإقطاع، لكن الفرق الجوهري بين الدكتور شحرور وفلاسفة الغرب أن هؤلاء أسقطوا المشروع الكنسي وطغيان القساوسة والرهبان والبابوات من خلال إبراز تناقضاتهم مع تلك النظريات والكشوفات العلمية، بينما الدكتور شحرور اجتهد في إبراز التناغم والانسجام بين تلك النظريات ومضمون القرآن باعتباره دين الفطرة، وإن بتعسف كبير واضح أدى إلى نتائج مناقضة تماما للقطعيات في الدين فضلا عن ظنياته.. وقد حذر شيخ الإسلام ابن تيمية من هذا المنزلق في تأويل آي القرآن في رسالته المشهورة "مقدمة في أصول التفسير"، ومن أشهر من وقعوا في ذلك المعتزلة، فيقول رحمه الله: (النوع الثاني من سببي الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان. إحداهما: قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها (يعني أنهم حكموا خلفيتهم الفكرية والفلسفية لتأويل القرآن ولو تعسفا) والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به. والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه، وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلاً فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقا فيكون خطؤهم فيه في الدليل لا في المدلول. والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه.. ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً ويدس البدع في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله. وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك بل مبتدعاً، وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤة. ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية كما هو مبسوط في موضعه..) انتهى توظيف الدكتور محمد شحرور النظريات المادية في قراءته المعاصرة للقرآن: يؤكد الدكتور شحرور في خاتمة الكتاب اعتماده نظرية الديالكتيك الماركسية في قراءته المعاصرة حيث يقول: (تم في الأبواب السابقة شرح مركبات الكتاب من النبوة والرسالة، وتم شرح قوانين الجدل المادي وجدل الإنسان في النبوة ووضع أسس التشريع والأخلاق في الرسالة "أم الكتاب".) ويجلي ذلك في قوله: (نظرية الوجود الإلهي والكوني -وهذا ما جاء في الفصل الأول في الباب الثاني- حيث تم تحديد الوجود الإلهي "الحق، والوجود الكوني الحق أيضا" وتم تبيان أن الله أحادي، والكون ثنائي، وتم تحديد قوانين الجدل في الكون، وهي الثنائية التناقضية، والثنائية الزوجية، والثنائية الضدية. وعلى ضوء الثنائية التناقضية تم تعريف قانون تسبيح الأشياء لله. ومن هذه الثنائية والتي يعتبر قانون تغير الصيرورة "التطور"، هو العمود الفقري لها، تم استنتاج الصور "الساعة"، البعث، اليوم الآخر، الجنة، النار، وتم استنتاج أن الصور والساعة والبعث لم يحصلوا بعد، وبالتالي فإن الجنة والنار لم توجدا حتى الآن، وإنما ستقومان على أنقاض هذا الكون بعد التسارع في تغير صيرورته "الانفجار الثاني"). أما نظريتي الميكانيكا والتطور الدارويني فيؤكد اعتماده عليها في قوله: (وفي ضوء هذه النظرية تم تحديد قانون الكم والكيف، والقدر والمقدار، والدائم والباقي، والقلم، والعلق، وتم تأويل آيات آدم، أي ما يسمى بالحلقة المفقودة، التي انتقل بها البشر إلى إنسان)..! نلاحظ إذن أن الدكتور شحرور وقع في الخطأين كلاهما اللذين حذر منهما ابن تيمية في رسالته "مقدمة في أصول التفسير"، كما وقع فيهما بعض من سبقوه ممن التزم اللغة وحدها لفهم معاني القرآن أو حمل معانيه على أشياء اعتقدها، فجاء بالعجائب..!