في طريق عودتي اليوم من فاس، استوقفني ثلاثة تلاميذ يسكنون بدوار يبعد عن (نزالة بني عمار) باثني عشر كيلومترا لأوصلهم إلى المدرسة، كان التلاميذ الثلاثة متفرقين، وما إن وقفت للأول حتى بادرني بالسلام واستعطفني بلطف أن أحمل زميليه أيضا. سألتهم لم تقفون متفرقين؟ فكان جوابهم أن أصحاب السيارات في الغالب يرفضون التوقف كلما كان العدد كبيرا. وفي الطريق سألتهم بعض الأسئلة عن المدرسة التي يدرسون بها، وكيف يقطعون كل هذه المسافة يوميا، وكيف حالهم مع الدراسة والامتحانات والنقط؛ فلما أنهوا الإجابة عن أسئلتي بادرني أحدهم بقوله: إننا نذهب أيضا إلى المسجد كل يوم لحفظ القرآن الكريم، فنجلس بعد الفجر حتى وقت الذهاب إلى المدرسة، ويوم الأحد نجلس اليوم كله في المسجد.. كل ذلك وهم يتكلمون بأدب ويثنون على (فقيه المسجد) الذي يحفظهم. فسألتهم عن عددهم في المسجد، فقالوا إنهم فوق الخمسين. سألتهم أيضا كم يحفظون من القرآن؛ فذكروا لي أن أحدهم يحفظ 46 حزبا، والثاني يحفظ 21 حزبا، وثالثهم يحفظ 16 حزبا؛ لا أخفيكم أنني لم أحتقر نفسي يوما كما احتقرتها أمام هؤلاء الأشبال، أطفال يدرسون في السنة الثانية إعدادي، ويقطعون مسافة تزيد على عشر كيلومترات ذهابا وإيابا يوميا، وهممهم عالية تناطح السماء.. طلبت أن يسمعنا أحدهم شيئا من القرآن، فقرأ أوسطهم بصوت شجي من سورة الأنبياء {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون..}. ما أحوجنا اليوم أن نعيد للمساجد دورها الريادي في تربية أبنائنا، وتعليمهم الأدب والقرآن، وما أشد حاجتنا إلى أن نرجع لحفظة القرآن مكانتهم التي يستحقونها في المجتمع! ولو أن كل المساجد كانت مثل هذا المسجد، وكان أئمتها مثل إمام هذا المسجد لكان حال مدارسنا في خير. إن الدور الذي يؤديه إمام المسجد لا يكافئه عليه إلا الله وحده، وإنني ما رأيت وظيفة يحتقرها الناس وينتقصون من القائمين عليها مثل وظيفة الإمام وحافظ القرآن، وأذكر أنني قبل سبع سنوات دخلت سوقا أسبوعيا في إحدى المناطق التي كنت أعمل بها، فلما رآني أحد الباعة أرتدي جلبابا نادى علي قائلا: (أجي الفقيه)؛ فأسكته الذي بجانبه وهو يوبخه: (راه أستاذ ماشي فقيه)!! وكان مما قلته له حينها: إن أهل الأرض جميعا لا يبلغون درجة حافظ القرآن العامل به في الدنيا والآخرة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".. فماذا يساوي أستاذ أو طبيب أو وزير أمام من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية المطلقة؟ وانظروا اليوم لحال حافظ كتاب الله تعالى في مجتمعنا لتعرفوا سبب تأخرنا وهواننا.. فقد أصبح الحافظ والمحفظ مهانا عند الناس، ولا يحصل إلا على الفتات من وزارة الأوقاف وصدقات (الجماعة) الذين يتحكمون فيه ويسيئون إليه.. وإذا كتب أحدنا تدوينة هنا في مواقع التواصل الاجتماعي نادى بأعلى صوته: أين الأئمة وأين الخطباء وأين الوعاظ؟ فنحسب أنفسنا أننا نجاهد باللسان والبيان، وهؤلاء مفرطون نائمون منغمسون في ملذات الدنيا! ولو أبصرنا عيوبنا لعلمنا أننا المفرطون المقصرون، وأن من يقوم بتخريج عدد من حفظة القرآن الكريم كل سنة هو المجاهد الذي أدى مهمته على وجه الكمال.. وأننا المنغمسون في أوحال الدنيا حقا وصدقا، وأن حفظة القرآن الكريم لا يملكون من الدنيا إلا ما يسدون به الرمق، ويحفظون به ماء الوجه. فمتى نعيد لحفظة القرآن مكانتهم التي يستحقونها في المجتمع؟!