هوية بريس – عبد الله المصمودي كتب د. عبد العلي الودغيري في سلسلته "مغالطات" التي ينشرها في حسابه على فيسبوك، ويرد فيها على مغالطات دعاة وحكماء "فرنسة التعليم"، ردا على المغالطة 4، وهي أن من منطلقات "فرنسة التعليم"، هو "ربطُ التعليم بسوق الشغل التي تتطلَّب إتقان اللغات الأجنبية"!! وكتب الأستاذ الأكاديمي وعالم اللسانيات المغربي "من الأشياء التي أصبحوا يبرّرون بها تصميمَهم على تعجيم المواد العلمية في السِّلكين الابتدائي والثانوي، وفرنسة التعليم الأوَّلي، ادعاؤُهم أن منطلَق ذلك هو ربطُ التعليم بسوق الشغل التي تتطلَّب إتقان اللغات الأجنبية. أما ربط التعليم بسوق الشغل وما يُحتاج إليه من لغات، فهو في ذاته مبدأ مقبول من وجهة النظر البراغماتية والوظيفية للتعليم، لأن الغالبية الساحقة من الناس تتعلَّم من أجل إيجاد شُغل بشروط مناسبة. ونحن لا يمكن أن نعارض الإقبال على تعلّم اللغات وإتقانها سواء كان لهذا السبب أم لغيره. إذ كنا وما نزال، مقتنعين جدا بالحكمة القائلة: كل لسانٍ بإنسان. أي: أن قيمة الإنسان تعلو ومعارفه تتسَّع وخبرته في الحياة تزيد بمقدار معرفته الواسعة باللغات. هذا من حيث المبدأ والحقيقة المطلقة. لكن الحقيقة في موضوعنا الذي نخوض فيه ليست مطلقة. وأمامنا أسئلة كثيرة تجعلنا نكتشف حقيقةَ الحقيقةِ التي يزعمون أنهم يحتكرونها، وأنهم وحدهم قادرون على الوصول إليها، أما بقية المغاربة فهم في نظرهم مغفَّلون أو سُذَّج لا يفقهون شيئًا. ولنكتفِ، من الكمّ الهائل من الأسئلة التي لدينا، بما يلي: ● لماذا الإصرار على اختصار مفهوم (اللغات الأجنبية) في اللغة الفرنسية دون غيرها، وكأن هذه اللغة وحدها تُغني عن غيرها من لغات الأُمم النافِعة؟ أليست الإنجليزية أكثرَ مردوديةً ونفعاً في سوق الشغل بالعالَم كله، وأن سوق الفرنسية محدودة جدا، جدا، وأغلب الدول الفرنكفونية فقيرة لا مجال فيها للعمل إلا في نطاق ضيق وضعيف. والذين يسافرون خارج البلاد يعرفون جيدا أن الفرنسية لا تؤمِّن لصاحبها خارج فرنسا أو بعض الدول الفرنكفونية بإفريقيا الغربية أو بلجيكا وجزء من كندا وجزء من سوبسرا حتى مجرد التفاهم مع طاقَم الطائرة وعمال المطارات والفنادق والمطاعم وسائقي سيارات الأجرة، فأحرى أن تجد بها لقمةَ خبزٍ نظيفة. الناطق بالفرنسية خارج المغرب ومنطقة المستعمرات الفرنسية، أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وأخرس لا يتكلم، وأصمّ لا يسمع. كل علمه ومعرفته تذهب أدراج الرياح، فكأنه لم يتعلّم قط. حتى الذي يقصد الدول العربية الشرقية، لا يمكنه التفاهُم وقضاء مآربه إلا بالإنجليزية أو العربية، ولو كان من أكبر العلماء في أدق التخصصات . فلأي شيء، إذن، تصلح لنا الفرنسية إذا كانت متجاوزَة بأشواط بعيدة في أغلبية دول العالم، بما فيها الدول العربية صاحبة اللغة في الأساس؟ لو كانوا صادقين في ربط تعليم المواد العلمية بما ينفع من اللغات العالمية في سوق العمل داخليا وخارجيا، لفتحوا أبواب المعرفة على مصاريعها كلها، ولما لجأوا إلى حشر المتعلمين ومحاصرتهم في زاوية الفرنسية وحدها. وإذا كان التحول من الفرنسية إلى الإنجليزية يبدو لهم صعبًا في هذه المرحلة، فإنه سيغدو أكثر صعوبةً وتعقيدًا بعد أن يُسيطر أخطبوطُ الفرنسية على كل شيء، فهو كالسرطان الذي لا ينفع معه علاج بعد أن يتمكّن من الجسم ويسري في عروقه وشرايينه. ● ثم، ماذا يقصدون بسوق الشغل؟ إن كان المقصود بها السوق الخارجية، فقد قلنا إن لغة هذه السوق في العالَم كله، بما فيها السوق الفرنسية نفسها، هي الإنجليزية. أما في العالم العربي، وهو جزء كبير من خريطة العالَم (أكثر من 400 مليون نسمة في الوقت الحالي وقابل للزيادة بقوة)، فالمستعمَل فيه هو العربية والإنجليزية. ولذلك فإن الإقبال على اليد العاملة المغربية حتى المتخصِّصة منها، ضعيفٌ جدا في دول العالَم والدول العربية والإسلامية أيضًا. والسببُ واضح، هو أن المتعلّمين من المغاربة منغلقون على الفرنسية وحدها. ومن استطاع منهم الفرار بجلده من سجن هذه اللغة التي تُفرَض عليه بالغَصْب والإكراه خارج الدستور، فلأنه استطاع أن يعتمد على نفسه وتكوينه الذاتي، فتعلم الإنجليزية واستدرك الموقف ولحق بالركب، ولم تُفده المدرسةُ المغربية في شيء. أما فرص الشغل في بعض الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية فتكاد تكون معدومة في المجمَل. ولنا عودةٌ إلى هذا الموضوع بالذات. وإذا كان المقصود بها هو السوق الداخلية، فإن هذه السوق نوعان: قطاع عام وقطاع خاص. أما العام فالمقصود به الإدارة المغربية بالدرجة الأولى وما يرتبط بها من مؤسسات ومكاتب عمومية كثيرة، بالإضافة إلى المؤسسات المنتخَبة وما يتفرَّع عنها. والمفروضُ في هذا القطاع كله أن يستعمل اللغة الوطنية بصفة إجبارية حسب منطوق الدستور ومفهومه، ولا خيار له غير ذلك. وقد كنا وما نزال ننادي بإلزام المرفق العمومي عن آخره بمخاطبة المواطنين ومكاتبتهم والتعامل معهم باللغة الوطنية. وكم من دعاوى قضائية رُفِعت أمام المحاكم في هذا الشأن، وحصل أصحابُها على أحكام لصالحهم. فهل نريد التمكين للغة الوطنية في المرافق العامة للبلاد أم نريد التمكين المكثَّف للفرنسية؟ الغاية واضحة. أما القطاع الخاص، فهو شقان أيضًا: الأول يخص بعض المهن الحرة من تجارة وصناعات خفيفة وحرف وخدمات وتقنيات بسيطة أو متوسطة (مطاعم، فنادق، نقل، حرف مختلفة…). وهذه لا تحتاج إلى تعمّق كبير أو شهادات عليا في اللغة الأجنبية. والمفروض أن تكون للدولة سياسة لغوية وطنية تُلزم بها سائر المواطنين بضرورة استعمال لغتهم في كل المرافق والشؤون، مع إتقان لغات أخرى. ولا معنى لأن تستمر في التغاضي عن الاستخدام المفرِط للغة الأجنبية في اللافتات الخاصة بالمحلات التجارية والمطاعم والمقاهي وغيرها. ولا شك في أن الارتماء الكلّي في أحضان الفرنسة ستكون نتيجتُه كارثية على المجتمع وثقافته وهويته. وقد يأتي علينا يوم لا نجد فيه حرفا عربيا واحدا. أو شخصًا يكلّمنا بالعربي. والشق الثاني من القطاع الخاص، يتمثَّل في البنوك والشركات الكبرى والمؤسسات والهيئات الاقتصادية والاستثمارية. وهذه تحتاج في جزء منها وليس في معظمها إلى كفاءات عالية من مهندسين وتقنيّين وخبراء ذوي تجربة واطلاع واسع في مجالات تخصصهم الدقيق. وهذا الجزء هو الذي يُشترَط في أصحابه التوفّر على معرفة جيدة باللغة الأجنبية. على أن الشركات الاستثمارية الأجنبية التي تبحث عن فرص في المغرب أو غيره من البلدان، غالبا ما تطلب الكفاءات المؤهَّلة بالإنجليزية وليس بالفرنسية، فإن بحثت عن مُفرنَسين فلأن الدولة بكل هياكلها ونظُمها وإدارتها وتوجهها العام مفرنَسة. والمفروض أن نكيِّف وضعَنا كله بما فيه الجانب الاقتصادي والاجتماعي وسوق السوق، حتى يتوافق مع مشروعنا الثقافي والحضاري وأهدافنا ومرامينا البعيدة، إن كان لنا مشروع من هذا النوع حقا. لا أن نفعل العكس.. لكن المصيبة هي أننا نسير بلا رؤية حقيقية ولا خارطة طريق ولا بوصلة. ولا شك في أن الاستثمار العربي في المغرب ضعيف بسبب الحاجز اللغوي المتمثِّل في الانغلاق على الفرنسية وحدها. ولفرنسا وشركاتها يدٌ طولى في قطع الطريق على الاستثمارات العربية المنافسة لها. فكم من شركات عربية خسرت عروضَها وعطاءاتها أو اضطرت لمغادرة السوق أو أحجمت عن دخول المنافسة أصلاً، بسبب لغة التعامل والعقود والمحاسبات والتأمينات ودفاتر التحمّلات وغيرها من الأمور التي تكون عادة بالفرنسية وحدها. فلو كانت بالعربية أو الإنجليزية أو باللغات الثلاث (العربية، الفرنسية، الإنجليزية) لوجدت في ذلك ما يشجعها على الاستثمار في المغرب، ولاستفادت منها اليدُ العاملة المغربية المؤهَّلة بشكل واسع، ولكنها تضطر إلى البحث عن فرص أخرى في بلدان منفتحة على الإنجليزية أو العربية. ●والسؤال الأخير، وليس آخر الأسئلة، هو: ما علاقة تعلّم اللغات المحتاج إليها في سوق الشغل، بفرنسة أطفالنا وأحفادنا بدءًا من سنّ الرضاعة والمهد، في مخالفة صريحة ووقِحَة لكل البحوث والمناهج التربوية المتَّفق عليها في العالَم؟ أليست الدعوة بالقوة والقهر، لتعميم الفرنسية على هذا النحو الفِجّ، الذي لا مبرر له من الناحية المنطقية والعلمية والواقعية أيضا، مجرد تبعية مطلقة واستلاب ثقافي وفقر فكري مُدقِع؟ خلاصة القول: إن المزيد من الفرنسة لا يؤدي بالضرورة إلى مزيد من فرص الشغل، كما يزعمون، بل إن هذا النوع من التفكير الذي لا يتجاوز حدود الرؤية الفرنكفونية وفلسفتها وسياستها المرسومة والمخطَّطة من العاصمة الفرنسية ( المتروبول) والمعمولة أصلاً لحملنا على السير في الاتجاه الذي يخدم مصالحها الخاصة، لا يعني سوى مزيد من الفشل في تدبير السياسة العامة للبلاد".