هوية بريس – الأربعاء 21 يناير 2015 لقد كان السقوط المدوي للموصل بقبضة «داعش» في 8 يونيو من العام الماضي، فاتحة أكبر تغيير جيوسياسي شهدته منطقة الشرق الأوسط منذ قرن من الزمان، ففجأة وبعد استقرار عشرات السنين للحدود والخطوط الفاصلة بين الدول تظهر دويلة في قلب الحدث لا تؤمن بكل هذه الحدود الفاصلة، وتجعل من نسف اتفاقية سايكس بيكو أولوية استراتيجية كبرى. وصاحب هذا الظهور المفاجئ سلسلة من الأحداث والتغيرات الدولية الإقليمية أدت إلى تعميق ريبة الكثير من الأطراف الإقليمية والدول الكبرى من التحرك الدولي تجاه تمدد «داعش» في المنطقة، إذ بدا للعيان أن أمريكا والقوى المؤيدة تحاول الاستفادة من هذا التنظيم المتطرف في الضغط على دول المنطقة وبث أكبر قدر من الفوضى بها، وعلى رأس الدول التي تأثرت وتخوفت من الحراك الدولي والأمريكي إزاء الأوضاع الإقليمية وتمدد «داعش»؛ تركيا، التي رأت في كثير من الأحداث والمواقف في الآونة الأخيرة حيال الأزمة السورية وتنظيم «داعش» بأنها مؤامرة دولية لتوريط تركيا في وحل «داعش» بسوريا، والعمل على تحجيم نفوذها في المنطقة. السياسة التركية بقيادة "أردوجان" شهدت في الأشهر الأخيرة تراجعاً واضحاً في المنطقة، في ظل انحصار نفوذ قوى الثورات العربية التي دعمتها تركيا في العالم العربي، واتخذت من دعمها هدفا استراتيجيا لتمديد نفوذها الاستراتيجي في المنطقة، مقابل صعود تيار ما بات يعرف بالثورات المضادة المعادي لها بشكل واضح. تراجع النفوذ التركي ظهر جلياً في الفشل الكبير الذي تلقته أنقرة بحصولها على 60 صوتاً فقط من أصل 193 دولة هم أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، في التصويت الذي جرى لمنح مقاعد غير دائمة لخمس دول جديدة في مجلس الأمن الدولي قبل أيام. وعلى الرغم من تأكيد أنقرة أنها حصلت على وعود من 140 دولة حول العالم من أجل التصويت لها، إلا أن عدد الأصوات التي حصلت لم يتجاوز الستين صوتاً، وسط تحليلات واسعة نشرتها الصحافة التركية عن دور كبير لعبه المحور الصهيوني العربي في المنطقة في الضغط على دول العالم من أجل عدم التصويت لصالح تركيا في مجلس الأمن. مخاوف تركيا تأججت وبقوة مع تشكل التحالف الدولي لمحاربة تنظيم «داعش» في سوريا والعراق، وبروز خلافات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية والقوى الدولية بشأن أهداف التحالف في سوريا، ففي الوقت الذي اكتفت قوى التحالف بالتوافق على ضرب «داعش»، رأت أنقرة أن ذلك سيؤدي إلى تقوية الأسد وإضعاف المعارضة المسلحة التي تعمل على إسقاطه منذ قرابة ثلاثة أعوام ونصف، حيث امتنعت عن التوقيع على البيان الختامي لمؤتمر التحالف الأول الذي انعقد في السعودية. ويرى العديد من المراقبين الأتراك في الدعوة الأمريكية المتكررة لأنقرة بالدخول في مواجهة مباشرة مع «داعش» محاولة لتوريط الجيش التركي في حرب استنزاف طويلة تكون نتيجتها سلبية لتركيا، أو على الأقل ضخ شحنات سلبية داخل صفوف الجيش التركي توتر العلاقة المستقرة بين الجيش الانقلابي الأشهر في المنطقة وحكومته المحافظة، وتكون نتيجتها في المقابل إيجابية للقوى الغربية والنظامين السوري والإيراني، وهو ما لا ترغب فيه أنقرة، في ظل تنامي حالة التقارب الأمريكي مع إيران وسط شكوك تركية بوجود دور سري لطهران في التحالف الدولي الذي يركز على مهاجمة القوى السنية في سوريا والعراق، الأمر الذي سيؤدي إلى تقوية نفوذ الأنظمة والمليشيات الشيعية المدعومة من طهران في كل من سوريا والعراق. ووسط إصرار أنقرة على ضرورة توسيع الضربات لتشمل أهداف لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، أو إقامة منطقة عازلة على الحدود السورية التركية، تواصل أمريكا رفض ذلك، وتفاجئ تركيا بدعم غير محدود للأكراد في سوريا والتي تعتبر أنقرة جناحهم المسلح «PYD» منظمة إرهابية وامتداد لحزب العمال الكردستاني في تركيا، والمصنف على أنه منظمة إرهابية أيضاً، في حين أكدت الخارجية الأمريكية في تصريحات صحافية تبدو أنها موجهة لأنقرة، الثلاثاء، أنها لا تعتبر المنظمة إرهابية!! وفي تصريحات كاشفة تظهر تصاعد الخلاف بين واشنطنوأنقرة، اعتبر وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، الاثنين، أن الإدارة الأمريكية قررت تقديم المساعدة للمجموعات الكردية واصفاً عدم تقديم الدعم لها بالتهرب من المسؤولية في إشارة ضمنية للجانب التركي. وفي المقابل انتقد "أردوجان" سياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجها الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تقود التحالف ضد «داعش» في المنطقة، دون ذكر اسمها صراحة، قائلاً: "تشعرون بكل هذا القلق حيال كوباني، لكنكم لماذا لا تشعرون بأي قلق حيال بقية المدن السورية التي تشهد أحداثاً مماثلة". تركيا الباحثة عن دور استراتيجي ريادي لها في المنطقة لم يكن لها أن تسكت إزاء التحولات الجيواستراتيجية الخطيرة والتي تدفع باتجاه تقليص النفوذ وهدر المكتسبات، لذلك بدأت أنقرة في تلمس طريقها خارج دائرة الهيمنة والفلك الأمريكي الذي ظلت تركيا تدور فيه منذ أكثر من ستين سنة. تركيا بدأت في التوجه شرقا حيث المنافس التقليدي لأمريكا ؛ روسيا، والتي تمر العلاقات بينها وبين أمريكا وأوروبا بتوتر غير مسبوق أعاد أجواء الحرب الباردة منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، فلقد تلاقت الرغبتان، واتفقت الرؤيتان، وحان وقت التصالح مع أعداء الماضي، وطي صفحات الخلاف التاريخي استعدادا لمواجهة التربص الأمريكي بكلا البلدين وسياساتهما الإقليمية والدولية. فلأول مرة يقوم الرئيس الروسي "بوتين" بزيارة تركيا بصورة رسمية في أوائل ديسمبر الماضي، وفيها يقوم الأتراك بتوقيع عقود شراكة اقتصادية بالغة الأثر على خريطة الطاقة العالمية، أبرزها قيام بوتين بإلغاء مشروع "السيل الجنوبي" الذي يطلق عليه مشروع القرن، وبمقتضاه كانت ستقوم روسيا بمد أنابيب الغاز المصدر إلى أوروبا عبر الأراضي الأوكرانية، بوتين قرر إسناد المشروع إلى الجانب التركي مع تسهيلات وتخفيضات ضخمة في الأسعار حققت بها تركيا مكسبا مبدئيا يجاوز العشرين مليار دولار. وبميزان التحولات السياسية فإن مثل هذا الإجراء كان بمثابة التحول الدراماتيكي والدش البارد للأوروبيين والأمريكان، فتركيا تعتبر عضواً في حلف شمال الأطلسي -الناتو-، وظلت لسنوات طويلة شوكة لهذا الحلف في خاصرة الاتحاد السوفيتي السابق، وعلى الرغم من أن تركيا تعترض على ضم القرم إلى روسيا وسلوكها في أوكرانيا، وتلعب في «الحديقة الخلفية» لروسيا، سواء في القوقاز أو آسيا الوسطى وتختلف معها بشأن الأزمة السورية ومصير بشار الأسد، إلا أن بوتين وأردوجان غلّبا مصالحهما الاقتصادية والسياسية على رصيد الذاكرة السوداء، وخلافات الحاضر العديدة. موسكو استغلت في خطوتها الهائلة تلك نحو تركيا، التباين الحالي بين أنقرةوواشنطن والخلافات مع أوروبا حول انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. وهي تُدرك، في الوقت ذاته، أن التحالف الذي يتسم بطابع استراتيجي بين الولاياتالمتحدةوتركيا غير قابل للكسر، ولكنه يقبل التوتر والفتور وربما الاختراق. فالروس يبتغون من تسخين حرارة الاتصالات مع أنقرة استكشاف استعداد حكام تركيا لصفحة جديدة من التعاون التركي الروسي على أكثر من صعيد ما قد يوجه ضربة للحصار الغربي على موسكو اقتصادياً، والروس يعرفون جيدا أن الخلاف بين تركياوأمريكا حول الشروط التركية الأخيرة في إقامة المنطقة العازلة، لم يظهر منه علناً سوى رأس جبل الجليد، مما دفع روسيا إلى استغلال مثل هذا التململ الأمريكي من سياسات تركيا تجاه المنطقة المحيطة بها وخصوصاً في سوريا والعراق. ويمثّل هذا الأمر لموسكو بوابة محتملة لاختراق سياسي في جبهة حلفاء واشنطن، لذلك فإن هذا التقارب الحادث الآن بين تركياوروسيا سوى اختبار روسي أولي لنوايا الأتراك ولمدى رغبتهم في تبديل وجهة تعاملهم الصدامي مع الأوضاع الدولية انطلاقاً من طموحاتهم الإقليمية التي لم تجلب لهم حتى الآن مردوداً يناسب الجهد والإمكانيات التي وضعوها لتحقيق ما يريدون، سواء على صعيد بناء منظومة من الأنظمة العربية الإسلامية التي تدور في فلك أنقرة، أو على صعيد فرض دور تركي يجعل من القرار في أنقرة قراراً لا يمكن للإقليم إلا أن يعمل على ضوء التفاهم معه، وكلا الأمرين لم يحصلا بسبب سياسات الصديق اللدود ؛ أمريكا. تركيا دولة أطلسية لكنها تختلف عن دول الخليج العربي الحليفة للأمريكيين، من موقع التابع، في حين إن تركيا ليست دولة تابعة بل تملك استقلالية في القرار السياسي السيادي، وطموحاتها السياسية والإقليمية تتصادم بقوة مع أصل السياسة الأمريكية في المنطقة القائمة على الهيمنة والنفوذ، وأردوجان لا يكف عن إرسال رسائل قوية وصريحة عن البحث عن أمجاد الخلافة العثمانية، آخرها قصر ضيافته المنيف، وحرس المراسم الذي يلبسون الملابس العثمانية القديمة، وبالتالي قد يرى الروس في التقارب التركي نافذة مفتوحة لإحداث توازن استراتيجي في المنطقة التي تمر بالأحداث والمستجدات الملتهبة. إن انتقال روسيا من «السيل الجنوبي» إلى «السيل العثماني» قد يمنح تركيا فرصة للتحول مستقبلا إلى أكبر وسيط لبيع الغاز الطبيعي الروسي، وإلى مركز عالمي في مجال الطاقة، حيث سيمر الغاز عبرها إلى الاتحاد الأوروبي من روسيا وأذربيجان، وقد تسمح السيطرة على هذه الأنابيب لأنقرة بالشعور بالثقة الكبيرة في الكثير من الملفات، بما فيها حلم العضوية المحتملة في الاتحاد الأوروبي، والملفات العالقة الأخرى، مثل ملف سوريا والعراق والأكراد والعلاقات مع مصر، وليس من المستبعد أن نرى الحلف الاستراتيجي التاريخي بين تركياوأمريكا قد تداعى وانهار مع استمرار التعنت الأمريكي مع الرغبات التركية والذي أعتقد أنه لن يطول، فأمريكا حريصة كل الحرص على أن لا تخرج تركيا مع الجلباب الأمريكي. (المصدر: مفكرة الإسلام)