حرص "هاني البرطي" على خلو المتجر من الناس، ليتجه نحو المالك راجيا منحه خبزا ونصف كيلوغرام من الفاصوليا، لعشاء أطفاله الخمسة، لكن الأخير رفض بحجة أن "فاتورة دينه لم تعد تحتمل". مشهد أطفاله الجوعى في مخيلته، دفع البرطي للتشبث برجائه، فوافق مالك المتجر شريطة أن يأتيه بالمبلغ كاملا في المرة المقبلة. غادر الموظف في هيئة الطيران الحكومية، المتجر الواقع في حي "مسيك" شرقي العاصمة صنعاء، وهو يتلمس بدلته الرمادية التي كانت شاهدا على أيام عزه حين كان ينفق الآلاف من الريالات في اليوم الواحد. مشى وهو يحدث نفسه بما آل إليه الحال، ليجد نفسه عند عاقل الحي (المختار)، وطلب منه تدوين اسمه في قوائم من يستحق الحصول على أسطوانة الغاز- المفقودة في الأسواق- بسعر مخفض. يقول البرطي إن حالته المعيشية تدهورت، وهمه اليومي ينحصر في كيفية ضمان الوجبات الرئيسية لأطفاله، وما سوى ذلك يبقى ترفا، مع انقطاع راتبه للعام الثالث على التوالي. وبزفرة عميقة يقول للأناضول "ليس لنا مصدر دخل غير الراتب، والأعمال متوقفة، لم يبق أمامنا إلا أن نتسول من أجل لقمة العيش، كم هو مؤلم أن تتحول أحلامنا إلى معاناة يومية في سبيل توفير طعام لأطفالنا". ويعيش نحو مليون موظف يعملون في القطاع الإداري العام بلا رواتب منذ سبتمبر 2016، وامتنعت الإدارة الحوثية المسيطرة على صنعاء وعدد من المحافظات، عن صرف الرواتب بحجة نقل حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي مقر المصرف المركزي إلى مدينة عدن، العاصمة المؤقتة. لكن حكومة هادي تقول إن الحوثيين "نهبوا" منذ سيطرتهم على المصرف 4 مليارات و500 مليون دولار، كانت تمثل الاحتياطي النقدي للبنك، وأن الجماعة "تبدد إيرادات الضرائب والجمارك في دعم الحرب"، وهو ما تنفيه الجماعة. وقال مسؤول في الحكومة اليمنية، فضل الكشف عن هويته، كونه غير مخول بالحديث للإعلام، إنهم "مستمرون في التواصل مع الحوثيين من أجل إيداع الإيرادات في البنك المركزي بعدن، لتتمكن وزارة المالية من صرف رواتب الموظفين بانتظام". وقال المصدر للأناضول إن "رواتب الموظفين واستقلالية البنك المركزي، هي إحدى الملفات التي ستناقش خلال المشاورات التي ترعاها الأممالمتحدة بين أطراف النزاع اليمني في السويد، أواخر العام الجاري. ومنذ نحو 4 أعوام يشهد اليمن البالغ عدد سكانه حوالي 27.5 مليون نسمة، حربًا بين القوات الحكومية مدعومة بالتحالف العربي بقيادة السعودية، والمسلحين "الحوثيين". وخلّفت الحرب أوضاعًا إنسانية وصحية صعبة، جعلت معظم السكان بحاجة إلى مساعدات، في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، حسب الأممالمتحدة. وفي 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري قالت منظمة الصحة العالمية، إن 80 بالمائة من أطفال اليمن بحاجة إلى مساعدة إنسانية. غير إن سكان المدن التي تحظى بنسبة من الاستقرار الأمني ربما قد يكونون أحسن حالا من نظرائهم في القرى والأرياف، وهؤلاء اضطر العشرات منهم إلى تناول أوراق الأشجار كواحدة من السبل التي تعينهم على البقاء أحياء. وتحولت أوراق نبات "الغلف" إلى مقصد العشرات من سكان بلدة "السُفينية" جنوبي محافظة الحديدة (غربي اليمن)، حيث يحرص الأهالي على قطفها قبل شروق الشمس، حتى يكون مذاقها مستساغا للأكل. وقال بدر حسن وهو ناشط في منظمة إغاثية محلية، تعمل جنوبي المحافظة، إن السكان يعتقدون أن أوراق "الغلف" تحمل قيمة غذائية كبيرة، رغم مذاقها الحامض، وإنها تحولت إلى وجبة أساسية للمئات من سكان القرى النائية. وأضاف للأناضول، "معظم السكان في قرى الحديدة نزحوا من منازلهم ومزارعهم بسبب المعارك التي تدور بين الحوثيين والقوات الحكومية، وأصبحوا يعيشون على التسول في مدينتي بيت الفقيه وزبيد". ولفت إلى أن المساعدات الإغاثية المقدمة من بعض المنظمات الدولية والمحلية، لا تصل إلى المتضررين بسبب انعدام الطرقات. وأشار حسن إلى أن تردي الأوضاع الإنسانية غربي اليمن، جعل العشرات من الأطفال يعانون سوء التغذية، وإن طفلا توفي قبل أشهر بسبب الجوع، في إحدى قرى مديرية الدريهمي جنوبي الحديدة. وقال: "قرى واسعة في مديريات الدريهمي وبيت الفقيه وزبيد كادت أن تهلك بسبب الجوع، فالسكان لم يستطيعوا الوصول إلى المستشفيات، كونهم معدمين لا يملكون أجرة النقل، لكن نشطاء محليين ومنظمات إنسانية عثروا عليهم بالصدفة وقدموا لهم مساعدات". وتضم الحديدة المطلة على البحر الأحمر الميناء الذي يعتبر المصدر الأساسي لواردات الغذاء والمساعدات الإنسانية الضرورية. وتخشى منظمات الإغاثة أن يعطل أي هجوم المدينة عملياتها ويعرض المزيد من المدنيين للخطر. غير إن الكارثة الأكبر تتمثل في انهيار الريال اليمني، الذي تراجع أمام النقد الأجنبي إلى مستويات قياسية، ومع ارتفاع أسعار السلع الأساسية، بات شراء كيس الدقيق يشكل حلما للآلاف، فيما تقلصت قطعة الخبز إلى حجم قلم. ويستهلك اليمن 90 بالمائة مما يستهلكه بما في ذلك الدقيق والأرز والسكر وزيت الطعام وحليب الأطفال والوقود، فيما تراجع الإنتاج الزراعي، وتوقف تصدير النفط الذي كان يمثل 70% من إيرادات الميزانية العامة. وفي 19 نوفمبر الجاري، قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إن اليمن بات يعاني من ثلاثي الموت والدمار والجوع. وأوضحت اللجنة إن النزاع في اليمن، نجم عنه أكبر أزمة إنسانية في العالم، تتمثل في نزوح الملايين، وندرة الغذاء، واقتراب شبح المجاعة من الأطفال. وأمس الأربعاء، قالت منظمة "أنقذوا الأطفال" (غير حكومية مقرها بريطانيا)، في بيان، إن "نحو 85 ألف طفل دون سن الخامسة ربما تُوفوا بسبب سوء التغذية الحاد خلال ثلاث سنوات من الحرب". وحذر تامر كيرولوس، مسؤول المنظمة باليمن، في سياق البيان، من أن "حياة نحو 150 ألف طفل مهددة في الحديدة مع زيادة كبيرة في الضربات الجوية على المدينة خلال الأسابيع الأخيرة". ومؤخرا تزايدت الضغوط الدولية على الأطراف المتحاربة في اليمن لإنهاء الحرب التي أدت إلى مقتل أكثر من عشرة آلاف، ودفعت البلاد إلى حافة مجاعة، وفقا للأناضول.