هوية بريس – د. صفية الودغيري إن أبرز ميراث للإنسانية هو اكتشافها لحلقاتها المفقودة في بناء حضارتها، وإقامة قواعدها وسواري نهضتها، وربط أبنائها بالضمير الأخلاقي اليقظ في كل زمان ومكان، وشد عضدهم بشحذ عزاِئمهم ووصل وثاقهم بثوابتهم الدينية وأصولهم الثقافية. فلا قيمة لأي إنجاز باهر أو تقدم ظاهر وقد قطع الوصل الممدود بين الأصل والفرع وفصل الدين عن المعرفة والعلم، وجعل الهوة تتسع بين ممارسة الأخلاق وممارسة الثقافة، فأي خطأ أو رعونة تقع في تلك الممارسات هي كفيلة بأن تجعل حياة الإنسان شاقة عسيرة، وتجعل عمله وسعيه وإنتاجه هباء منثورا تذروه الرياح وتعصف به. وتفوق الإنسان رهين بتلك الممارسات الواعية التي تساير ركب الحضارة والتقدم مع التخطيط الدقيق العملي، الساعي إلى الارتقاء بمستوى الالتزام بالأخلاق والقيم وتطبيق أحكام الشريعة والدين، والارتقاء بالفعل الإنساني إلى مستوى الحضارة دون أن يفقد خصائصه الإنسانية، ذلك أن بناء الحضارة الإسلامية يقوم على أساس يقوى تلك الخَصائص، ويسمو بالثقافة الإسلامية ويبرز معالمها المشرقة التي تسعي في صميمها وجوهرِها إلى تكريمِ الإنسان مصداقا لقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)..). وغايتها أن تبث الوعي الحضاري والثقافي والديني لدى الشعوب، وتطهر أبناءها من رواسب الجهل والضعف والفساد والانحلال، وإنجازا لهذا المقصد الحميد نجد نخبة من العلماء العاملين في ميدان الإصلاح والتجديد، قد اجتهدوا في وصلِ أبناء الأمة بهذه الحلقة المفقودة. "إن بناء استقلال أمة لا يتم فقط بتشييد القصور وتعبيد الطرق وإصلاح الجهاز الإداري والقَضائي. فكل هذه المظاهر المادية ضرورية، لكنها لا تغني شيئا إن لم تكن حياة المجتمع مدعمة بعادات وتقاليد مستمدة من سلطة الدين والأخلاق، وإن هذه العادات والتقاليد الدينية والخلقية، لا تثبت في الروح ولا تطمئن إليها النفس إلا إذا كانت منسجمة مع العقل الإنساني من جهة، ومع الحاجيات الضرورية للمجتمع من جهة أخرى" [1]. انها دعوة إلى الحفاظ على الثواب الأصيلة، كما أنها وة لمكافحة «الجمود والجحود» الذي اكتسحت موجته الشعوب الإسلامية منذ عدة قرون، وكانت مخلفاتها سببا في تسرب الاستعمار إلى بلادها، وأن يركنوا بتقاليدهم «للجمود» الذي يخل بتطور الفكر ويضع من رتبة العقل، وأن لا يميلوا إلى «الجحود» الذي ينكر مغزى الروح وفائدة الوجود الإنساني. وغايته أن يحذرهم من خطورة الاستعمار الجديد على الأمة الإسلامية، فإن ارتفعت سيطرته السياسية فسيطرته الروحية والفكرية لم ترتفع، وإن تحررت من أسلحته العسكرية الغاشمة فهي لم تتحرر بعد من أسلحته المادية، ووسائله الأشد خطورة والأقوى تأثيرا في الهدم وفسادِ التفكير، وانحراف الأجيال الناشئة عن المنهج الصحيح في فهم الإسلام وما يمس العوائد والأخلاق.. واختصر اسلحتهم في اثنين: أولا محو اللغة العربية وإحلال لغة المستعمر محلها. ثانيا تشويه دين الإسلام، وإيهام ضعفة العقول من المسلمين أن مبادئ هذا الدين تتنافى مع العلم والترقي. وقد كشفت كثير من مخططات الاستعمار في فرض سيطرته الفكرية داخل العالم الإسلامي ولاتزال.. "عرف الاستعمار أن العصر الذهبي للعلم الإسلامي قد انمحى ونسى، فاستغل هذا الضعف وحمل على أعدائه المسلمين ليفرقهم، فنظر إلى من تصلب في الخرافة و الجمود وقال له: أحسنت! اذهب الوراء ! فطريقك هي المثلى! ومال إلى الشباب فقال له: انظر إلى هذه الخرافات التي يعتنقها آباؤك والتي ليست من الحق في شيء، فنظر الشباب في الأمر وفكر، فوَجد عقله لا يصدق الآباء، ورأى في الإِفرنجية بِزَّة ودعة، فتحير هنيهة ثم استسلم إلى التفرنج الصريح، ولم يكن سبب استسلامه إلا جهله التام بالإسلام ومبادئه الرئيسِية وبالحضارة الإسلامية. واستسلم الشباب للحضارة المادية فلا يؤمن إلا بها، ولا تطمئن نفسه إلا لما تجده عن طريق «العلم»، ويرى أن العقل لا يصدق سوى ما أَتى به العلم العصري الذي نلنا اليوم من فضله هذه الحياة الراقية المزدهرة، وعاب على الإسلام كل ما ظن -خطا- أنه خالف مبادئ الحضارة، فظن أن الإسلام لا يساير العلم، ولو كان المتهم نظر الأشياء في أناة وتؤدة لميز بين الإسلام وبين الخرافات التي ألصقت به، ولعلم أنه هو المثل الأعلى" [2]. لهذا يجب على كتاب الأمة الإسلامية ومفكريها أن يعتنوا بأمرين: الاول الحفاظ على ثوابتهم العقائدية والعلمية وتبيينها، والثاني تطهير العقل من مخلفات «الجمود» و«الجحود». أما اقتصارهم على دراسة الكتب التي ألفت في عصور الانحطاط الفكري للعالم الإسلامي فخالفت أصول الاعتقاد النقي، وسقطت في شوائب الخرافات والشركيات وعزوفهم عن كل ما هو جديد حسن، ووقف جهودهم على دراسة ما انحسر من المعرفة، سيجعلهم في هوة سحيقة تفصلهم عن كل ما استجد وحدث، ليظلوا هم في واد والحياة الجديدة في واد، ويحيون بأرواحهم وأفكارهم وأقلامهم في تاريخ العصور السالفة، لا ينتجون في زمانهم ومكانهم إلا مزيدا من الجهل والانكماش والتعصب، الذي جعل كثيرا من الشباب المثقف يحيد عن منهاجهم وأسلوبهم في تقديم الثقافة الإسلامية ودراستها، بعد أن خلعوا عنها إشراقها ونضارتها، ونزعوا عنها حلتها الجديدة وعناصرها الحية المتجددة المنسجمة مع زمانها ومكانها. كما يجب على علماء الأمة أن يعملوا قدر ما يستطيعون وفوق ما يستطيعون لتحقيق الأمرين السابقين، فينشروا الثوابت الأصيلة، وينشروا العلم والمعرفة، ويجتهدوا في النظر والتحقيق فيما حل واستحدث، ويساهموا في حل مشكلات العصر، وأن يخرجوا من مخابئهم ويبعثوا نسيم الحياة الجديدة في دروسهم وخطبهم مواعظهم، ويوقظوا أقلامهم من سباتها العميق ويرفعوا أعلامها كي تنشر الحق، وتنير تآليفهم ومصنفاتهم بأفكار نيرة، وأن يلجوا معترك الحياة الجديدة، وينزلوا إلى المجتمعات الشعبية ويشاركوا عوام الناس في أحاديثهم، وأن يزينوا مجالسهم بما حَباهم الله به من علم، ويهتموا بقضايا الشباب، ويمنحوهم ما يكفيهم من وقت للإصغاء إلى همومهم، والاعتناء بحل مشكلاتهم اليومية، وأن يجدوا في النهوض بالثقافة الإسلامية ويهبوها ما تستحقه من عكوف ودراسة وبحث، ليعيدوا إليها إشراقها ونصاعتها وِريادتها. إنه لن تعود اليوم مقوماتنا أعلى وأجلى مما كانت عليه، إلا إذا تهيأت لنا أسباب الالتفاف حول المبدأ الذي به سدنا بالأمس وبه التأم شملنا، حين كنا به أمة عظيمة امتدت أجنحتها في مختلف الربوع والبقاع، وضمت إليها مجموعة من البلدان والأقطار، ومزجت بين ألوان أجناسها ولغات شعوبها، حتى صار الجميع شعبا واحدا وقطرا واحدا تتجاوب أرواح سكانه في توافق ووئام، ويطن دويه في الآذان فيستفيق الغافي والشارد والغارق في نوم وسبات.. ولن نسود اليوم كما سدنا بالأمس، وتسود مآثرنا كما سادت مآثر أجدادنا، إلا إذا أنجزنا ما أنجزوه وحققنا روعة التآلف والانسجام والوحدة التي كانوا بها أمة عظيمة، ونربي جيلا صالحا متين الدين والأخلاق، وقد نبه إلى هذا قديما الشيخ محمد المختار السوسي في مقالته: "لنكن مسلمين أولا"، لترسيخ دعائم الاستقلال الحقيقي عن أي استعمار "وذلك بأن ننشئ أبناء صالحين في كل ميدان، صالحين للنظام، صالحين لأسباب الرقي، صالحين لاقتباس ما لا نهوض إلا به، فمتى ساد الصلاح كل ناحية من نواحي أعمال الأمة، فلابد أن تكون في مقدمة الأمم"[3]. ولن نسود اليوم كما سدنا بالأمس، إلا إذا كنا على أتم الاستعداد لخلق ذاك التجاوب الذي تربطه اللغة والدين. فلا قيمة لأي تقدم مع فقدان تلك الروعة التي متى استولت على الأفئدة تصهرها، لتشكل منها كتلة واحدة ذات إحساس واحد، ولها متجه واحد، ومبدأ واحد، وغاية واحدة تربط بين أبنائها، ولها قبلة واحدة ورب واحد، ورسول قد زرع في جنباتها الوحدة والتضامن والتآخي، ونشر بينها التعاون على البر والتقوى، وتوارث تلك العظمة التي تتجلى عند المرابطين والموحدين: "الذين ضحوا في وقت المحنة تلك التضحية الباهرة، ليكون الشعب مسلما، والإسلام عند عارفه مثال الإنسانية الكاملة، بعلمها ونظمها وحياتها الواقعية، وقوانينها التي تستمد دائما من العدل والحرية الشخصية ومن المصالح العامة، فبذلك صار الإسلام صالحا لكل زمان ولكل مكان، ولا تخفى هذه الحقائق إلا عن الذين جهلوا الإسلام ولم يدرسوه، ولا كلفوا أنفسهم بالالتفات إليه ولو أدنى التفات "[4]. ولن نسود اليوم كما سدنا بالأمس، إلا إذا كان منا المخلصون الموحدون، والمرابطون العاملون بصدق وحب، والمجاهدون في سبيل بعث تلك الفورة من النشاط الراكدة في نفوس أبنائها، والمجدون في إحياء تلك الغيرة الدينية واللغوية، حتى تتجاذب إليها القلوب وتتآلف، فتقوى تلك العظمة وتتجدد وتتطهر عروقها وشرايينها من دمها الآسن، وتتحرر من رواسب الاستعمار الغاشم الذي حاول أن: "يفتح مغاليق شتى عن أصناف شتى من مكايده، ثم حاول بكل ما يملكه من لباقة وخلابة وزخرفة وتمويه أن ينفث سمومه في الروح التي يرثها الابن المسلم عن آبائه، فما ترك من تعاليم الإلحاد ولا من التشكيك في مبادئ الإسلام، ولا من مفسدات الأخلاق، إلا عرضها عرضا أمام النشء بكل مصابرة ومثابرة، فلم يترك لا مدرسة ولا مسرحا ولا زاوية من زوايا الحياة التي لابد أن يلم بها النشء إلا زرع فيها ما يمكن أن يجتث جذور تعاليم الإسلام السامية من العقول"[5]. وهذا من أشد أنواع الاستعمار وأخطر أصنافه، لأنه ينتشر بسرعة ويمتد امتداد النار في الهشيم، ويفصل أبناء أمتنا عن لغتهم وقواعدها، ويفصلهم عن دينهم ومعتقدهم الصحيح ليجتثهم من جذورهم ويخلع عنهم هويتهم الأصلية، وقد حذر الشيخ محمد المختار السوسي من هذا الصنف من الاستعمار بعد استقلال المغرب، وسماه " باستعمار العقول والأفكار" فقال: "وبعد، فإن الاستعمار أصناف، فأدناها استعمار الأرض، وأشدها استعمار العقول والأفكار، فقد وفقنا إلى زحزحة استعمار الأرض السهل، وبقي أن نزحزح استعمار العقول والأفكار عن ثلة قليلة من أبنائنا، فيجب أن نعرض أمامهم ما جهلوه عن دين الإسلام وعن مبادئ الحق، وعن مغازيه في الحياة، فإن بعض من تَأثَّروا بما دس إليهم حسنو النية، ويدركون بسرعة، وأرى أن هذا من أوجب الواجبات على نخبة من شبابنا جمعوا بين الثقافتين ودرسوا الإسلام حق الدراسة، فهم وحدهم الذين يمكن لهم أن يأخذوا بأيدي أولادنا هؤلاء بملاطفة، حتى إذا أدركوا وفهموا، فإذ ذاك تسير الأمة كلها في صف واحد في تفكيرها وفي مثلها العليا"[6]. ولا قيمة لأي تقدم مع فقدان حلقة الوصل بين طائفة العلماء والمجتمع والواقع الذي نشأوا فيه، والثقافة التي تنهض بمجتمعاتهم وتقيم صرح الحضارة على أساس متين من قواعد العلوم وأركان المعارف والفنون، وتسعى لتؤلف بين الثقافة العربية الإسلامية العميقة المتجذرة في نفوس أبنائها وبين الثقافة العلمية الدقيقة فلا يتسنى لأي أمة أن تنهض إلا بإيجاد هذه الحلقة المفقودة، ولا يمكن لها أن ترتقي وتتقدم وهي تهمل التقدم والمنتوج الحضاري من حولها، مادام لا يخالف ثوابتها الاصيلة. ولا يتسنى لأي أمة أن ترتقي وتتقدم وتنهض، وأكثر أبنائها ممن تثقفوا ودرسوا وتعلموا، وتخرجوا من معاهدها وجامعاتها ومؤسساتها التعليمية، قد انقسموا إلى: طائفة تثقفت بثقافة أجنبية بحتة، فهي جاهلة بكل ما يتعلق بالثقافة العربية الإسلامية وتراثها، وطائفة أخرى هي غافلة عن كل ما يستجد في عصرها الحديث، وأهملت كثيرا من الآراء والنظريات في مختلف العلوم والفنون.. ولا يتسنى لأي أمة أن ترتقي وتتقدم وتَنهض، وأبناؤها لم يستطيعوا أن يفهموا روح العصر ولا لغته ولا أسلوبه، ولم يجدوا في وصل تلك الحلقة المفقودة التي تشمل العلماء الذين جمعوا بين العلم الراسخ والفهم الواعي. [1] " الطريق الضيقة "، لمحمد المختار بن اباه مجلة دعوة الحق: العدد الثالث السنة الثانية (جمادى الأولى 1378 ه دجنبر 1958م ): ص 36 [2] المقالة نفسها: ص 37 [3] " لنكن مسلمين أولا "، لمحمد المختار السوسي مجلة دعوة الحق: العدد الثاني السنة الأولى (ذو الحجة 1376 ه غشت 1957م ): ص 14 بتصرف [4] المقالة نفسها: ص 14 [5] المقالة نفسها: ص 6 [6] " لنكن مسلمين أولا "، لمحمد المختار السوسي: ص 6