للبيوت قلوب تخفق بين جدرانها وضحكات يتردد صداها في كلّ الأرجاء إن هي ابتهجت. لها مشاعر متدفقة ولغةٌ تُعبر بها عمّا يُخالجها. فالبيت الذي تدب فيه الحياة تراه مبتهجا دافئا، يحتضنك تحت سقفه ويجعل دفء المكان يتسرب إليك لِيُوَلِّدَ عندك شعورا بالطمأنينة نسميه بتأثير ال Home. Home تلك التسمية التي نطلقها على كل مكان يُشعرنا بالاستقرار. كبيت العائلة أو مسقط رأسنا وأحيانا أخرى نطلق هذه الصفة على البلد الأم عندما تطؤه أقدامنا بعد مدة من الغربة كانت كافية لإفراغ بطاريتنا من دفء الوطن. وما البيوت سوى أصل الأوطان؟ إنها الوطن الأول الذي يُعِدُّنا لمواجهة الحياة قبل لفظنا إليها. لكنها هي أيضا في حاجة لحناننا لكي تعيش. وحتى إن اضطرّتنا الظروف إلى مغادرتها فمن واجبنا ألّا نقطع صلة الوصل بها، حتى لا يصيبها الوهن وتقسو هي بدورها على من بقي فيها من أفراد. دائما ما كانت تثير فضولي ظاهرة البيوت المهجورة. كيف أنها تشيخ شيئا فشيئا بدءًا من اللحظات الأولى لهجرنا لها. كل شيء بدأ يوم علمت أن منزلنا الذي قضيت فيه جزءًا كبيرا من طفولتي، بدأت بعض جدرانه في التآكل وسقط جزء منها. فتساءلت كيف لبيت آوانا لسنوات أن يضعف هكذا في غيابنا؟ لقد كان وطنا وليس للأوطان حق الانهيار! لكنني فهمت بعدها أن الأوطان أيضا قد تنهار بفعل الهجر. وأنه بعد هجرنا لمنزل ضمّنا لسنوات لم يبق أمامه إلا أن يحزن ويدخل في حالة حداد؛ بداية يكسوه الغبار ويتراكم دون رادع. ثم بعد ذلك تغزوه الحشرات وخاصة العناكب، تستقر في كل ركن فيه وتُلبسه ثوب حداد داكن. ثم ماذا؟ ثم يستسلم للزمن وتتدهور صحته في غياب أحبابه. كيف لا وقد انتهى به الأمر وحيدا لا من يمسح عنه دموعه (غباره) ولا من يرمم جدارا تآكل بفعل الزمن. يتمكن منه الهجر وتغدو أيامه معدودة إلى أن يصبح جثة هامدة. وكما نسكن البيوت لسنوات فهي تسكننا لبقية حياتنا، حتى لو قست قلوبنا وهجرناها فإن الذاكرة تجعلها ترافقنا على مرّ الأيام. وكثيرة هي الأشياء التي تجعل الشوق ينقلك إلى ذكريات عشتها بين أحضان ذلك المنزل، لأنه بكل بساطة يسكنك ويَقرب لك كفرد من العائلة. فمثلا مع حلول أحد الأعياد تتسلل ذكريات عشناها سويا لتعزف على أوتار الحنين لحنا نوستالجيا قادرا على استرجاع أدق التفاصيل التي طغت على كل ركن من أركان البيت في أعياد الماضي. تتسلل موسيقى الطرب الأندلسي إلى مسمعك ورائحة الشاي بالنعناع المختلطة بِلَغْوِ أفراد العائلة وهم يتبادلون تهنئة العيد. تتذكر كل شيء كما لو أنه يقع لتوه، تسترجع بهجة البيت ذاتَ فرحٍ وَصَمتَهُ المهيب ذات شِدّة. بيت العائلة بالنسبة لي هو فرد من تلك العائلة، يكبر بكبرها ويشتاق لكل شخص من العائلة إن هو غاب. يفرح لفرحها ويحزن لحزنها. ليست البيوت جدرانا من آجر وإسمنت فقط، بل هي رفيقة درب العائلة تألفها وتشكل مشاعر تجاه كل فرد من أفرادها. إنها رفيقة الدرب التي لن تتخلى عنك ولن تبادلك إلا المشاعر الصادقة ذلك أن فؤادها لا يعرف للنفاق طريقا.